مصطفى الحاج حسين - عمتي خديجة...

هذه.. ليست صفاته الحقيقيّة،إنْما أنا أقولها، من عندي، لأنِّني أكرهه، مثلما كانت عمّتي (خديجة)، تكرهه، وتبغضه
، ولا تحبْه.. فأنا لا أطيق، كلّ من تعاديه عمّتي، لأنّني أحبها، ومتعلْق بها.

هو قصير القامة.. مندلق الكرش.. كبير الرّأس.. يغطّي صلعته بطاقيّة سوداء.. غليظ الحاجبين.. صغير العينين.. أفطس الأنف.. واسع الفم.. له شوارب طويلة، وغزيرة، ومعكوفة.. كفاه سميكتان.. ذات أصابع ثخينة، وقصيرة.. لهما أظافر تشبهان المخالب.. قبيح الصوت.. شرواله طويل، أزرق اللون، يكاد يصل قدميه.. وسقيم الفهم، بليد الذّهن، لا يقرأ، لا يكتب، عديم المشاعر.. غبيّ المظهر.. هذا (هو) من سيتزوْج عمّتي (خديجة)، الصّبية السّمراء، والظّريفة الوجه، والقوام.. كلّ من في العائلة، رفضه، وبشدة، وازدراء، وفي مقدمتهم، كانت عمّتي، ومع هذا (صمّم) جدْي على تزويجه، من ابنته.. بحجْة أنّه ابن الحارة، إنسان نعرفه، ولا نجهله، َوهو رجل شغل، وليس برجل التّنبلة، والكسل، وعديم المسؤولية.. مثل شباب هذه الأيّام.. هكذا كان يصفه جدّي، حين كانوا يحتجون عليه:

- هو (جحش شغل)، وهذا ما أعجبني به.

بكت عمّتي كثيراً.. صارحت جدّتي مراراً.. وقالت:

- لا أريده.. لا أطيقه.. أقرف من شكله.

لكنّ جدّي لا يناقش أبداً.. وجدّتي رغم كلّ القوّة، التي تتمتّع بها.. وذكائها الحاد، الذي كان يقدّره، كلّ من حولها، رجالا ونساء، وجدت نفسها عاجزة، عن إقناعه.. وخاصة، إن وجد هناك، من يعارضه، أو يحتجّ عليه.. وعمّتي.. عبّرت أمامه عن استيائها، ورفضها الشّديد، لهذا العريس.. لذلك اقتضى الأمر، أن يعاند جدّي، ويتحدّى، والويل لمن يخالفه.. إن كانت جدّتي، أو كانت عمّتي، أو أبي، و حتّى أخوته، بما فيهم كبيرهم، (الحاج حسام).

راودتها فكرة الانتحار.. أن تصبّ على نفسها، (قنّينة الكاز)، ثمّ تولع النّار بحالها.. وعمّتي لا عيب فيها، حتّى يرمي بها جدّي، لهذا الخاطب القادم!.. فهي شابة، في مطلع عمرها، جميلة، تعتبر من فاتنات، صبايا المدينة.. ذكيّة، مرحة، تغنّي، وترقص في الأعراس، (وتهلهل) و (تزغرد) و (تصفّق)، وتبهر الحاضرين، وكانت موضع الاهتمام، والإعجاب، والتّرحاب، والاحترام. كلّ ما في الأمر، هو عناد جدّي، وحبّه الشّديد للتحدِّي، و(وتيبيس) الرّأس.. فهذا العريس الذي يدعى (عثمان)، جاءت أمّه صدفة، وطلبت يد عمّتي لابنها، بعد أن رأتها، في عرس، من أعراس الحارة، ونالت استحسانها، فابنها لم يكن، يعرف عمّتي، لو لا الوصف لها، من خلال أمّه، وأخواته الأربعة.. ولم تظهر عليه، حين جاء يطلب يدها، من أبيها، وأهلها.. وعمّتي رأته، من خلال ثقب الباب الخشبيّ.. يعني لم يكن يحبّها، أو متعلّقاً بها، فلو كانت أمّه، طلبت له فتاة غير عمّتي، لكان وافق على الفور، هو يريد أن يتزوّج من أيّ فتاة، مقبولة الشّكل، ابنة عائلة، ذات سمعة طيّبة، يعني كان تصرّفه، تصرّفاً عاديّاً، وطبيعيّاً، مثله مثل أيّ شاب، في هذه البلدة، حين يقدم على الزّواج.. يرسل أمّه، أو أخته، أو أيّ واحدة، من عائلته، مكلّفة من قبله، بالبحث عن عروسة له، تناسبه.

وجدّي ينظر إلى (عثمان)، على أنّه شاب خلوق، وذو سمعة طيبة، يعمل بجدّ ونشاط، ولا يفتعل المشاكل مع الآخرين، أو يتعاطى الحرام.. يعني مثله مثل معظم، شباب البلدة.. وكانت الأمور عادية، وطبيعيّة، شاب تقدّم لخطبة فتاة.. وكان مطلوبا من أهلها أن يوافقوا، أو يعتذروا، وينتهي الأمر.

لكنّ المشكلة، كانت تكمن في عقليّة جدّي وعناده.. فهو لا يعيش قلقاً، على ابنته من العنوسة.. فهو يدرك أنّ هناك، ألف شاب، ممكن أن يتقدموا، ويطلبون يد ابنته.. لكن، ولأنّها تجرّأت، وعبّرت، عن رأيها، بهذا العريس، وبكلّ وقاحة، وأمام أبيها، قالت:

- لا.

لذلك.. كان على والدها، أن يعاقبها، ويقبل بخطوبة ابنته، على هذا الشّخص، العادي، والغير مهم.. فقط ليثبت للجميع، أنّ كلمته، هي النْافذة، وعلى الجميع.

حذرتها جدّتي.. وأنذرتها.. وقالت لها:

- الانتحار حرام.. وعند الله ستبقينَ خالدة، مخلّدة في جهنّم.. وأنت تؤمنين بالله، وتعبدينه، ولا تقدمين على فعل شيء، نهانا عن فعله.

وفكرت أن تبعث لخطيبها، خبراً، تعلمه فيه:

- أنا لا أريدك.. غصبني، والدي على قبولي بخطبتك لي.

فلم توافقها على ذلك، عمّتي (وحيدة)،
ونبّهتها لخطورة فعلتها، إن أقدمت عليها:

- ماذا؟!.. هل جننت؟!.. ألم تفكّري بأبيك؟!.. قسماً يذبحك، على فم البئر، ويرميك به.

وانتهى بها التّفكير، إلىٰ أن تكاشف أمّه،
وتبلغها بعدم موافقتها، على الزّواج من ابنها، فهي مجبرة، وبالرّغم عنّها، سيتمّ ذلك.

فوبّختها عمّتي (نتيجة)، وعارضتها، وبيّنت لها، ما سيترتب على مكاشفتها
لحماتها، بهذا الاعتراف.. ثمّ هل سيسكت جدّي، عنها لو فعلت؟!.

الجميع.. طلبوا منها الصّبر والموافقة، تلك هي مشيئة الله.

وتمّ زواج عمّتي (خديجة)، بهذه الطّريقة، وكانت أمّي في العرس، تستقبل النّساء، وترقص، وتصفّق، وعندما تدخل المطبخ، لإحضار شيء،
كانت تسمح لدموعها أن تنبجس ، وتبكي بصمت، دون أن يراها أحد.. فقد كانت صديقة لعمّتي، وتحبّها بصدق.

مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى