عبدالأمير المجر - فقدانات...

عندما خرجت من بيتي صباحا، لفت انتباهي وجود اناس كثيرين يقفون عند لوحات الاعلانات التي في الشوارع .. اقتربت من مجموعة تقف عند لوحة اعلان في الشارع القريب من بيتي وحين وقفت ورحت أدقق، صعقني وجود صورتي مع اعلان يتحدث عن فقداني .. كانت العبارة مقتضبة ومكتوبة بالحبر الاسود اسفل الصورة (اختفى المهندس ... فالرجاء ممن يعثر عليه الاتصال بأقرب سيطرة حكومية او مركز للشرطة)! .. دققت النظر لأتاكد، اذ لم أصدق عينيّ، لكن صورتي والعبارة المكتوبة بخط النسخ وبشكل واضح ازالت كل شكوكي .. الشيء الغريب هو إن الذي يقف بالقرب مني علت وجهه علامات الحيرة والإرتباك، وظل يتلفت من دون ان يكلّم احدا، وهو ما صرت عليه انا ايضا، كوني خشيت أن يقرأ الآخرون ذلك وهم يرونني بينهم واكون في موقف محرج .. حين غادرت المكان وانا خائف ومرتبك، وجدت اناسا آخرين يقفون امام لوحات اعلانات اخرى ورأيت وجوههم حيرى ايضا.. يا إلهي أي صباح مخيف هذا؟!
واصلت سيري بإتجاه موقع عملي، فلم الفت انتباه أحد من الناس ايضا، وعندما اخذت أؤشر للسيارات بقصد ايقافها للصعود لم يقف لي أي من السائقين.. ركبت بعد أن استوقف احدهم سيارة قربي، وعندما طلبت من الراكب الذي امامي ايصال مبلغ الإجرة للسائق لم يرد عليّ ولم يشعر بقية الركاب بوجودي بينهم، ثم انتظرت لحين وقوف السيارة لإنزال احدهم في مكان قريب ولو نسبيا من مكان عملي لأنزل معه .. عندما دخلت دائرتي لم ينتبه لي موظف الاستعلامات الذي كان يتحدث مع آخرين ولم يرد على تحيتي، ولما اقتربت منه لأحدّثه استمر بتجاهلي وعبثا ذهبت محاولتي للتوقيع في سجل الحضور، اذ لم اقرأ اسمي بين اسماء الموظفين .. دخلت الدائرة فلم يهتم لي أحد وأيقنت من أني غدوت شبحا ... في بيتي وقد وصلته غارقا بخيبتي، وجدت زوجتي واولادي يبكون. لقد عرفوا بخبر فقداني من خلال الفضائيات .. وسمعتهم يتحدثون عن خبر فقدان جارنا المدرس العجوز الذي كثيرا ما كان يفخر امامنا بأنه حاز على وسام رفيع بعد حملة محو الأمية في الأرياف، لكني اصبت بالفزع، عندما قال ولدي الأكبر مخاطبا أمه؛ إن بعض الفضائيات راحت تبث صورا لمفقودين آخرين، ضباطا وعلماء ومثقفين وادباء مشهورين وشخصيات عامة، راح يذكر اسماء بعضها..
في اليوم التالي ذهبت الى الجسر الذي اسهمت في اعادة اعماره بعد تخريبه اثناء الحرب، فطالعني نصب كبير تعلوه صور لوجوه لا اعرفها ولم يضم أيا من زملائي وليس بينها صورتي طبعا.
لقد اخذت تجمعات الناس في الاحياء القريبة تلتحم ببعضها.. كانت تظاهرة كبيرة ستنطلق نحو الميدان الكبير للمدينة، دعا اليها ابناء المفقودين واستجاب لهم كثيرون .. لقد كنت بينهم واستمع لهتافاتهم التي راحت تدوّي في الفضاء .. لكن الشاشات الكبيرة التي يبدو ان السلطات قد نصبتها في اعلى العمارات عند مفترق الشوارع، راحت تنقل تظاهرات لمن قالت انهم مهندسون ومثقفون وعلماء وادباء وشخصيات عامة تندد بالإشاعات التي تتحدث عن اختفائهم وانهم جاؤوا ليؤكدوا بطلان هذه الكذبة.
قرب المتظاهرين كانت هناك امرأة تحمل صبيا جميلا، وقفت الى جانبي من دون ان تراني، وقد بان على وجهها التعب والحزن والخوف، فيما كان الصبي قد اعياه البكاء على ما يبدو، لكنه فجأة وهو في حضنها صرخ بقوة ، مشيرا الى مكان فارغ قرب التظاهرة؛ بابا ... بابا ... ضمته المرأة التي يبدو انها أمه الى صدرها فيما كان الدمع ينهمر من عينيها، وقالت كإنها تخاطب الفراغ ؛ منذ ان فقد أباه صار يراه في البيت يوميا وفي اكثر من مكان نمرّ عليه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى