عبدالكبير الخطيبي كما هو في حديث مع ابن أخيه مراد الخطيبي. توفي أبوه باكراً لكن أمه القوية ساندته، بدأ لاعب كرة لكن ولعه بالقراءة جاء به إلى مستقبل آخر، مارس الشعر لكنه انصرف إلى الفكر. أقام صداقات مع كبار أمثال رولان بارت الذي كتب عنه وجاك دريدا وجان جينيه كتب بالفرنسية لكنه كان ناقداً للغرب ومغربياً صميماً «روزييس» كما سماها الرومان قديما، أو «مازاكان» كما سماها البرتغاليون في القرن السادس عشر، أو «الجديدة» كما صارت تسمى لاحقا بعد أن استعادها السلطان محمد بن عبد الله في القرن الثامن عشر، المدينة التي لا تنام صيفا، المدينة الحالمة والهادئة، والشبيهة بناياتها الشاطئية بسرب من النوارس نزل من السماء وجفل على مقربة من البحر ليحرس المدينة، المدينة العريقة التي احتضنت على مدار القرون أعراقا وأديانا وثقافات مختلفة، حين تقف على جراف الشاطئ مديرا ظهرك للبحر ستبدو لك الصومعة والكنيسة والبيعة متجاورة في حي واحد. وأنت تجول في الجديدة ستحس أنك تسير بين دروب مدينة مضيافة. التقيت بمراد الخطيبي في مقهى الطابق الخامس من بناية «مرحبا» المطلة على المحيط الأطلسي، هناك حيث كانت قاعة سينما جميلة تحمل الاسم نفسه، أُغلقت الصالة مثلما أغلقت معظم صالات الفن السابع بالمغرب، لكن ظلّ اسمها العبارة الأنسب لاستقبال كلّ من يفد إلى المدينة في مختلف الفصول. مراد الخطيبي شاعر ومترجم يحمل دكتوراه في الأدب الإنجليزي وقد أصدر أربع مجموعات شعرية ونشر عددا من الدراسات النقدية والترجمات الأدبية والفكرية، كما أشرف قبل سنتين على كتاب جماعي عن عبد الكبير الخطيبي عنوانه: «ولدتُ غدا»، صدر بالعربية والفرنسية والإنجليزية. التقينا هناك على مقربة من الشاطئ حيث تتعالى أشجار لاروكاريا وتحجب بأغصانها الهائلة شمس الظهيرة، وكان سبب اللقاء وغايته هو استعادة عبد الكبير الخطيبي بوصفه أحد أبراج المدينة، يتحدث مراد عن عمّه بحب جارف، ويدعوه «سي عبد الكبير» كلّما جاء على ذكر اسمه. ما كنا نراهن عليه في تلك الجلسة المطولة هو أن نستحضر الأشياء غير المعروفة عنه، الأشياء غير المتداولة في الصحافة والإعلام، فكان ذلك بالنسبة لي شبيها باكتشاف جديد لرجل نظن جميعا أننا نعرفه. عائشة كانت البداية من الأم عائشة بوخريص التي تنحدر من منطقة «دكالة»، وبالضبط من قبيلة بني هلال. يقول عنها مراد: «كانت جميلة جدا بعينين خضراوين ووجه مشرق، دائمة الابتسامة، طيبة جدا. لم تطأ لا مدرسة ولا كُتّابا ولكنها كانت ذكية جدا، ودودة وصاحبة نكتة وقدرة قوية على الحكي. كانت تحب ابنها عبد الكبير أكثر من إخوته الذكور ربما لأنه كان الأصغر حيث ازداد بعد أخيه مصطفى وأخيه الأكبر محمد، وربما أيضا بدافع اليتم الذي أحس به بعد الرحيل المبكر لوالده، فقد كان يبلغ فقط سبع سنوات عندما توفي أبوه أحمد الفاسي سنة 1945. كانت تعجبه لغتها الدارجة وتعليقاتها المضحكة على بعض الأمور، لقد كان مفتونا بقوة شخصيتها وذكائها الشديد، وكانت دائما تشجعه على الزواج من مغربية». أخبرني مراد أن «الفاسي» كان هو اللقب الأول لعائلة عبد الكبير قبل إنشاء دفتر الحالة المدنية سنة 1956، وقد كان اختيار اسم «الخطيبي» من طرف أخيه الأكبر محمد خريج جامع القرويين الذي كان يشتغل في سلك التعليم. إضافة إلى محمد (والد مراد الخطيبي) لعبد الكبير أخوان وأختان: مصطفى وزبيدة اللذان اشتغلا أيضا بالتعليم، وربيعة التي فارقت الحياة في عامها العشرين بسبب المرض، وأخ آخر توفي في صباه. أما الوالد أحمد الفاسي الذي درس في جامع القرويين فقد اختار العمل في تجارة الخشب متجنبا سلك القضاء، خوفا من الرشاوي والمال الحرام، وقد كان يلقي الدروس الدينية بمسجد صغير في حي الصفاء، وغالبا ما كان يلجأ إليه الناس من أجل تسوية الخلافات بينهم لما عرف عنه من ورع وحكمة. يبتسم مراد وهو يتحدث عن سر تسمية الخطيبي بعبد الكبير، فقد ولد في الحادي عشر من فبراير 1938، وهذا اليوم كان موافقا ليوم عيد الأضحى آنذاك، فسمي بهذا الاسم تيمنا بالعيد، لأن المغاربة يسمون الأضحى «العيد الكبير»، والفطر «العيد الصغير». يضيف مراد: «كان عبد الكبير أخضر العينين محظوظا إلى حد ما، لأنه الوحيد من إخوته الذي وافق الأب على أن يتابع دراسته بالمدرسة الفرنسية المغربية، علما أن الوالد كان من أشد المتعصبين للغة العربية. وعلى عكس إخوته، لم يتردد عبد الكبير على الكُتّاب القرآني إلا لفترة يسيرة. وكسائر أبناء جيله، كان حليق الرأس إلا من خصلة شعر طويلة». لاعب كرة ما لا يعرفه الكثيرون أن الخطيبي كان لاعب كرة قدم جيدا، وكان يُتوقع له مستقبل كبير في هذه الرياضة. يقول عبد اللطيف الشياظمي اللاعب الدولي السابق وصديق عبد الكبير: «كان لاعبا ممتازا، وكان من المتوقع أن يلعب في فريق الدفاع الحسني الجديدي». وما سيحول في الحقيقة بين الخطيبي وكرة القدم هو شغفه الكبير بالكتب التي كان يحلو له قراءتها منذ صباه قرب البحر. لم يكن الخطيبي ذلك التلميذ النموذجي والمنضبط في المدرسة، وربما نقطة التحول في حياته هي انتقاله إلى مراكش، سيُغرم هناك بثلاثة شعراء هم جبران وامرؤ القيس وبودلير، وربما بسبب هؤلاء وبتحفيز من أخيه الأكبر سيدخل عالم الكتابة شاعرا، فقد كتب نصوصا باللغة العربية أولا، ثم بالفرنسية لاحقا، وكان ينشرها في جريدة «ماروك بريس». وكان أصدقاؤه في مرحلة المراهقة يستغلون موهبته في الأدب ويطلبون منه كتابة رسائل غرامية لحبيباتهم، فكان الخطيبي يقوم بهذه المهمة بكثير من الإبداع. في الفترة ذاتها كان شغوفا بجمع وتصنيف الكلمات الغريبة في اللغتين العربية والفرنسية. بعد مراكش سينتقل إلى الدار البيضاء ليدرس المرحلة الثانوية في «ليسي ليوطي»، وسيحصل بعد نجاحه في الباكالوريا على منحة تخول له متابعة الدراسة بجامعة السوربون الفرنسية، وسيعود منتصف الستينيات حاملا شهادة الدكتوراه في الرواية المغاربية، أشرف عليها السوسيولوجي الفرنسي الشهير جاك بيرك، وضمت لجنة مناقشتها كلاّ من الناقد المعروف رولان بارث والباحث اللساني روني إتنبل. شهادة بارن سنة 1966 سيعين الخطيبي مديرا لمعهد علم الاجتماع الذي سيلحق في ما بعد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. واستطاع مع بول باسكون خلال هذه الفترة القصيرة تكوين مجموعة من الطلبة، سيصيرون في ما بعد باحثين متميزين أمثال: عبد الله حرزني، أحمد زوكاري، عبد الله حمودي وآخرين. لكن هذا المعهد المهم سيتم إغلاقه سنة 1970 من طرف الملك الحسن الثاني. يستعيد مراد أصدقاء عمّه: «طيلة حياته كوّن الخطيبي صداقات فكرية وإنسانية مع مفكرين ومبدعين مرموقين أذكر منهم: رولان بارث، جاك دريدا، جان جينيه، إدوارد سعيد، محمود درويش، أدونيس، فيروز والقائمة طويلة. بخصوص رولان بارث، سيتجدد لقاؤه في المغرب مع الخطيبي عندما عمل بارث أستاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط أواخر الستينيات، وكانا يقطنان بنفس العمارة مما جعلهما يلتقيان بشكل دائم». يقول رولان بارت في شهادته التي كتبها تحت عنوان (ما أدين به للخطيبي): «إنني والخطيبي، نهتم بأشياء واحدة، بالصور، الأدلة، الآثار، الحروف، العلامات. وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديداً، يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها يأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى من نفسي». ويقول عنه جاك دريدا: «عبد الكبير الخطيبي ليس فقط كاتباً «يتعذّر تجنّبه»، كما يقال، لمَن يهتم بالأدب الفرنكفوني لهذا القرن، بهذا الأدب حيثما يفيض، ويفكّر، ويحوّل الثقافة الفرنسية، وحيثما يشهد على التاريخ السياسي، والاستعماري، وما بعد الاستعماري، الذي يربط فرنسا بمستعمراتها ومحميّاتها السابقة. فأعماله هي أيضاً «قدوة»، من جهة أخرى، لمَن يهتم بمشاكل «التعددية الثقافية» و «حالة ما بعد الاستعمار» كما يشغف بها اليوم، بشكلٍ مبرَّر، كمٌّ من المثقفين والجامعيين والمواطنين من جميع الأصول».