محمد محمود غدية - اختارت الجلوس جواره

المدينة فارغة تستسلم للنعاس، إلا من بعض الباعة الجائلين، بعد برهة يسحب الجميع أغطية المساء، إستعدادا لمعارك الغد مع الحياة،
بقايا المحال المفتوحة أشبه بأفواه تتثائب، حتى المقهى تخفف من رواده، إلا من ذلك الشاب الذى يتلفت حوله، يلمس جفاف الأشياء بجانبه، مثل الواقف فى محطات الوداع، إزداد ثقل الهواء بفعل السكون الضاغط، وتلك الفتاة التي إختارت الجلوس جواره، رغم كثرة الكراسي والطاولات الفارغة حولها، مر وقت ليس بالقليل على صمتهما،
فقط يتأمل وجهها الذى يشع نضارة، من بين إبتسامتها قالت : أخيرا إستطعت الإمساك بك، إنها تعرفه وتتبعه بعيناها أثناء ذهابه الى عمله كل صباح، ويتكرر هذا حتى عودته فى المساء،
لا يعرفها، يتحاشى النظر الى إبتسامتها الهامسة المشحونة بالوشوشات، تعرف ان المقهى آخر محطاته لإحتساء القهوة، بعد عناء يوم مجهد،
شعرها مثل ليل أملس وطويل، عيناها ساكنتان لامعتان،
قالت بصوت خفيض :
انها هنا لتتزوجه، رأسه تدور مثل نحلة بدوبارة القى بها بعض الصبية فى لعبهم، يدور متسكعا متجاوزا مداراته فى التيه والعتمة، غادرته السعادة بعد حب زميلته التي عصفت به، حين أحبت آخر اكثر جاهزية للزواج، شح الفرح لديه والذى كان يمر سريعا
فى تعرجات حياته ويمضي،
تخفف فى حديثه معها من ثقل أحماله، حمل مراراته
فى صندوق وألقاه فى غياهب البحر،
ليكتسب وجهه بعد التجهم تدريجيا، ملامحه القديمة المبهجة، إنه فى حضرة روح طيبة تتوهج تفيض بنزق حلو، يمنح المتطلع إليها متعة، كأن روحه تتوهج هى الآخرى، إحترمت صدقه، حدثته عن أسرته، التى تعرف عنها أكثر مما يعرف، كيف لا وهى صديقة لشقيقته، لدرجة أنها غيرت مسارها ورغباتها إلى الكلية التي إختارها لتتبعه وتظل قريبة منه، تألمت حين عصف به الحب، تشعر وكأنهما إلتقيا فى كوكب غير هذا، تحفه الأشجار والبساتين، منذ أن رأته وأحبته قررت أن يكون لها الزوج الذي تختاره،
لا الزوج المعلب الذي تختاره الأسرة والتقاليد والأعراف، وفى لجة هذا السعير من اللهفة والقلق، قررت ان تمسك به وتتزوجه، مازال مدهوشا أمام تصاريف
الأقدار وتلك الجميلة التى اقتحمت وحدته، وجلست على كرسي جواره فى المقهى دون استئذان، فى مغامرة مستثناة جريئة، مدهوشا أمام هذه المشاعر التى ضربته فجأة وتمكنت منه، ليست وحدها من أمسكت به،
هو الآخر أمسك بها، بعد أن تمكنت من فلترة روحه، والطير به نحو سماوات البهجة، ليغادرا المقهى متعانقي الأكف والقلوب والأفئدة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى