حوار مع القـاص والروائي السعودي نـاصر الجاسم... من الطبيعة تولد المعجزات. حاوره: ممدوح عبدالستار

القاص والروائي السعودي "ناصر سالم الجاسم" يلتحف بأساطير الجزيرة العربية، ويأخذ من الصحراء والطبيعة حريته المطلقة، ويأخذ من المدينة إيقاع الحياة وفنونها. إنه كاتب مسكون بحب المملكة، يترك نفسه للفن والحياة، ويعطي أحلامه للعابرين. هو عابر، ومُعبر عن السعودية، ويتعاطف مع أبطاله؛ لأنه يعيش مختلطاً بهم، وبما هو جوهري وإنساني. له ثلاث روايات: الجنين الميت، الغصن اليتيم، العاصفة الثانية، وله مجموعات قصصية منها: النوم في الماء، الموت في المدينة، العدو بالأيدي، هكذا يزهر الحب، والثائرة. التقت به المجلة، وكان لنا معه هذا الحوار:


> في الفترة الأخيرة استطاع الأدب السعودي أن يكون في بؤرة المشهد الإبداعي العربي، هل الأدب السعودي له خصوصية متفردة؟
>> لكل مجتمع بنيتان، بنية تحتية تُعنى بتوفير كل ما يحتاجه الفرد أو الجماعة من متطلبات العيش الكريم، كالمدارس والمستشفيات والجامعات وطرق المواصلات والموانئ وغيرها، وبنية فوقية تُعنى بثقافة الإنسان وأدبه، وقد جرتْ العادة أن تتحرك البنيتان معاً، وزد على ذلك أن النجاح في حقل معين من حقول الحياة في بلد ما يتبعه نجاح آخر في حقول أخرى، وهذا ما حدث في المملكة العربية السعودية، ففي ظل رغد العيش والاستقرار السياسي واهتمام الدولة بصناعة الإنسان السعودي، تحققت عدة ريادات للمملكة العربية السعودية في أكثر من مجال، في السياسة أولاً، وفي الرياضة ثانياً، وفي الفن ثالثاً، وأخيراً في الأدب، إضافة إلى الريادات الفردية التي سُجلتْ بأسماء أشخاص سعوديين كالوصول إلى الفضاء أو عمليات فصل التوائم، أو فوز أدباء سعوديين بجوائز إقليمية. وليس للأدب السعودي (الجديد) أي خصوصية غير الخصوصية المكانية، وهو في النهاية أدب يُعنى بالإنسان ويتوجّه إليه.


:: بعض من مؤلفات الكاتب ::

> البحث عن الذات في مرحلة التكوين، تجعل البدايات مبهجة، ولكل منّا بداية تجعله يسلك الطريق بقوة. ما الحوافز والبدايات التي جعلتك قاصاً، وروائياً، وهل بيئة مدينة الإحساء، شكلت وعيك، وبدايتك الأدبية؟
>> أنا هبة المكان الشاعري الأحساء، وعطاء أساطير شبه جزيرة العرب، وتأمل الشخصية السعودية حضرية كانت أو بدوية، فالمكان السعودي والإنسان السعودي وأساطير شبه الجزيرة وخرافاتها هم الواسعة التي منحتني عشق الكتابة السردية، ووفرت لي مناخات التميز فيها، خامات الكتابة عندي منتقاة ومأخوذة من بيئة السعودية عامة، ومن الأحساء خاصة.

> ما طقوس الكتابة لديك؟
>> قد يدفع بي موال عراقي حزين مشبع بالشجن مفعم بالمعاناة يلقي بمسامعه إلى حافة البكاء، أو قهوة عربية صفراء مبهّرة بالهيل والزعفران تمتدّ إليك بيد أنثى تحبها، أو شاي سيلاني أحمر لونه لون دم الغزال، أراه في كأس فرنسية الصنع واسعة الفم زجاجها غاية في البياض، أو حزمة ورق أبيض لتوه قد خرج من مصنع الورق، أو حبرٍ أسود يوهمني بأن خطي جميل عندما أكتب به، أو مقطوعة موسيقية عالمية، أو أغنية جميلة لمغنٍ عربي كبير، ينتمي إلى وطن الإبداع، وليس شرطاً أن يكون سعودياً أو خليجيا، فأي مما سبق قد يكون لوحده طقساً كافياً للكتابة ويشعرني بالرضا الكبير، وقد يساهم في تدفّق الأفكار والصور والأخيلة لدي، ويغريني بالمكوث على كرسي الكتابة وقتاً طويلاً قد يستهلك الليل كله، وأنا كاتب ليلي الهوى، وليس ذلك يعني أنني لا أكتب نهاراً، بل أكتب ولكن بإقلال.

> من عباءة قصة "المعطف" لغوغل، أجمع القراء، والنقاد أن القصة القصيرة هي سمة وظاهرة العصر الحديث، وأنها تناسب سرعتها وتطورها، وأنت عاشق للقصة القصيرة، وأصدرت العديد من المجموعات القصصية، لماذا أخلصت لفن القصة القصيرة رغم طوفان الرواية في العالم؟
>> أنا كاتب أتمدد على فراش السرد، وألتحف بغطاء القصّ، وأسكن في خيمة الحكاية، وطعامي أساطير، وأصدقائي أبطال قصصي ورواياتي، ومعنى ذلك أنني منتمٍ إلى أنواع السرد كلها، أكتب القصة القصيرة جدًا، ولي فيها مجموعة (الخمرتان)، وأكتب القصة القصيرة ولي فيها ست مجموعات هي: "النوم في الماء/ العبور/ العدو بالأيدي/ الموت في المدينة/ هكذا يزهر الحب/ الثائرة"، وأكتب القصة الطويلة ولي فيها مجموعة واحدة هي (خبز العشاق)، وأكتب المسرحية ولي فيها مسرحيات: "عش النوري بنت مرة/ طعام القبور (الحداد)/ عبور الثليم" وغيرها، وأكتب الرواية ولي أربع من الروايات: "الغصن اليتيم/ العاصفة الثانية/ الجنين الميت/ رائحة الجنون"، وقد فازت روايتي "الغصن اليتيم" بجائزة أبها لعام 1412 هـ.
وإن كنت قد أسرفت في كتابة القصة القصيرة، فذلك لأن القصة القصيرة الفن الأصعب، وأنا طبيعتي الفلكية تحب الأشياء الصعبة، واختياراتي وطموحاتي الحياتية تؤيد ذلك.

> "ناصر الجاسم" ما زال ابناً وفياً للقصة القصيرة على الرغم من مرورها الآن بمنعطف حرج، واتجاه الكتاب إلى الرواية -الأكثر رواجاً-، كيف ترى مستقبل القصة القصيرة؟
>> القصة القصيرة فنٌ يتناسل تاريخياً، فنٌ عابرٌ لذائقة الأجيال القرائية، فنٌ صامد لأكثر من قرنين من الزمان، يخبو وهجه لكنه لا ينطفئ، يمرض ولكنه لا يموت، يبدو أنه يستحق أن نسميه الفن الدائم أو الفن المعمّر، فقد عاش طويلاً ويبدو- لجاذبيته ولتمتعه بصحة جيدة- أنه سيعيش لفترات زمنية قادمة. لقد رأيته مع فن الرواية في مضمار سبق، الرواية فقط كانت تركض بسرعة أكبر، وكانت تقطع المسافة في زمن أقل، ولكنه يصل بطيئاً إلى خط النهاية دون أن يسقط أو يتعثر في ركضه.

> كتبت في رواية "الجنين الميت" عن مدينة الإحساء بكل تفاصيلها، حتى الأسماء أغلبها حقيقية، وتناولت المكان، والزمان، وسلوكيات البشر، حدثنا عن تلك التجربة؟
>> بعض الأمكنة تستهويك، وتبدو كفاكهة أثيرة لديك لتأكلها بعينها من بين أنواع كثيرة من الفاكهة الأخرى المعروضة أمامك، والأمر يشابه إلى حدّ ما ما تنطق بها ألسنة معاقري الخمر، أو تمتدّ إليه عيونهم، أو تشير إليه أصابعهم، فتراهم ينتخبون نوعاً محدداً لشربه وللسكر به من بين جملة من الأنواع المعروضة على الرف، فالأحساء كمكان، والتي تمثلت في قرية الشقيق كانت بالنسبة لي فاكهة وخمراً، فتذوقت طعمها الحلو، وسكرت بمزاجها العذب فكتبتها روايةً لحبّي لها.

> أطلق الناقد الفرنسي رولان بارت مقولته: (نحن في زمن الصورة)، وبعد ما تحصل نجيب محفوظ على نوبل، تم إطلاق مقولة (زمن الرواية). بعدها، أصبحت الرواية مطيّة لكل من يملك قلماً، ما تقييمك للروايات السعودية، والعربية بشكل عام؟
>> أنا مؤمن بأن حظوظ الخلق جميعهم من السعوديين وغير السعوديين متفاوتة في الإبداع، وأن الإبداع يزيد لدى كاتب ما في عمل ما ويقصر عنده في عمل آخر. ومؤمن أيضاً بأن التوفيق يحالف الكاتب (س)، ولا يحالف الكاتب (ص)، وذلك عطاء إلهي لا نستطيع أن نعترض عليه أو نتدخل فيه، هذا بالنسبة لنتاج الكتاب العرب الحاليين، ولكن توجد أسماء أدبية غير قابلة للاختلاف حولها، أو التفكير في تقييم مستواها الفني فقد غدت أعلاماً أدبية خالدة، وانتهتْ معاييرُ تقييمها كنجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف مثلاً.

> هل استطاعت القصة القصيرة، والرواية أن تلتهم ظاهرة التهميش الاجتماعي، والسياسي، والثقافي داخل بنائها؟ وهل أصبح المتن هامشاً، والهامش متناً، وأصبح لا وجود لمركزية.. غير مركزية الذات؟
>> القصة القصيرة لا تستطيع أن تقوم بدور صحيفة يومية، أو قناة تلفزيونية إخبارية، أو دور حزب سياسي معارض، ولا تنهض بدور مرشد ديني عام لدولة كبيرة، ولا تقبل مزيد الشرح وكثرة التحليل والجدل الكبير في النقاش، هي تؤدي دوراً جمالياً في المقام الأول، وفي داخل هذا الدور الجمالي توصل بعض الرسائل السياسية والاجتماعية، وتطرح أسئلة وقد لا تجيب عنها، وفي النهاية هي تُعنى بشخصيات الهامش وتقدّمه في صلب بنائها، ولا تغفل الاقتراب من السلطة أو المركز، ولكل مجتمع من المجتمعات صراعاته الخاصة التي تميزه عن المجتمع الآخر، وبذلك يختلف منظر وحال الهامشي والمركز داخل المتن السردي عند الكتاب الروس عنه عند الكتاب المصريين مثلاً.

> أصبحت الرواية اليوم شديدة التكيّف مع راهن الواقع العربي، ومشتبكة معه في متغيراته التي يعيشها، وتكتسب كل يوم المزيد من التقنيات، والأساليب الجديدة، حتى تؤسس خصوصيتها العربية، كيف ترى ذلك؟
>> كتاب الرواية العرب أرى أنهم أقصر من سؤالك الكبير هذا، فعباقرة الكتابة لدينا محدودون جداً، لاحظ أنني لا أتحدث عن كتاب الرواية العرب كلهم، فاهتماماتهم بالفكر أو المحتوى الذي تحقن به رواياتهم شتى، وجلّ اهتماماتهم في الغالب عاطفية، ولا تقفز عن العلاقة التي بين الرجل والمرأة وخاصة لدى الروائيات، فالكتاب الذين تخصصوا في نوع معين من السرد كحنا مينة السوري، أو إبراهيم الكوني الليبي لا يمكن أن تعمم رأياً، وأن تحكم به على عينات قليلة ونادرة جداً.
أما التقنيات الكتابية للرواية فهي مستوردة، ونحن تابعون للآخر البعيد الغربي أو الشرقي فيها، ولا ريادة لنا فيها أبداً، ولم نسجل أولوية فيها بما في ذلك حتى الروايات التاريخية، والخصوصية/ قد تجد خصوصية من نوع ما في اللغة كالتي عند الروائية السعودية رجاء عالم أو غيرها، ومع ذلك أرفض التعميم بالقول في وجود خصوصية للرواية العربية، إذ ما زال لدينا كثير من الكتاب لا يفرقون بين الرواية والسيرة الذاتية والسيرة الغيرية، وما زال لدينا الكثير من القراء الذي يجزمون بأن بطل الرواية هو مؤلفها، وأن شخصيات الرواية هم أصدقاؤه أو أعداؤه.

> لقد حصلت على عدّة جوائز مهمة في المملكة، ما تأثير الجائزة على المبدع؟
>> لا شك أن الجائزة رافد معنوي مهم لاستمرارية الكتابة والإبداع، وللظهور بنفس المستوى من الكفاءة والإقناع للقارئ والناقد، وأنها مسوّق جيد للتواجد في سوق الأدب بشكل عام، وهي محطة مهمة في تاريخ أي كاتب، ويمكن أن نعتبرها منعطفاً مفصلياً للسير في طريق أكثر وعورة، أو نقطة لعدم العودة إلى ما قبلها، وهذا لا يكون إلا بقطف جائزة ثانية أكبر منها.

> في المجموعة القصصية "النوم في الماء" الأنثى حاضرة بقوة وبهاء، ويقابلها موت الذكر، وجعلت من الأنثى "تابو" محرم، لا يجب الاقتراب منه، هل هذا مقصود بذاته، وما المغزى الحقيقي لذلك؟
>> سؤالك هذا يفترض أن تتجه به إلى النقاد الذين درسوا هذه المجموعة القصصية المتميزة المعنونة بـ"النوم في الماء"، والذي يربو عددهم على العشرة تقريباً، ولم أقل بتميزها خبط عشواء، بل النقاد هم من قالوا ذلك، وإذا اطلعت على دراساتهم، أو فحوصاتهم النقدية لهذه المجموعة ستجد الإجابة عن سؤالك كاملة مبثوثة في ثناياها.

> بمناسبة "التابو" المحرم، لقد كان الكاتب قديماً لا يستطيع الكتابة في موضوعات معينة، هل أصبح الكاتب -الآن- يملك حرية أكثر، وجرأة في الكتابة، وهل أصبح الجو العام في المملكة أكثر حرية، ورحابة للكاتب؟
>> منذ أن بدأت الكتابة وحتى الآن لم أضع للرقابة أو للشعور بأن لدي نقصاً في الحرية أي وجود، كنت أكتب أي فكرة تأتيني باللغة التي تناسبها. والواقع الاجتماعي الجديد الذي أعطى للمرأة حقوقها، ومنحها التمكين كعضو مماثل للرجل في المجتمع السعودي، لا أظن أنه سيكون عاملاً إيجابياً في تهيئة مناخ الكتابة، أو رفع سقف الحرية لدى الكاتب السعودي، ذلك أن كتابنا وكاتباتنا من السعوديين كانوا يكتبون تحت تأثير رقابة داخلية منضبطة ومتوائمة مع توجهات القيادة السياسية لدينا، ولم يكن هناك أي تضارب أو تعارض بين الحاكم والكاتب تحديداً؛ إنما كان يوجد تضارب وتعارض بين رجل الدين والكاتب، وقد تم تجاوزه الآن في العهد الجديد.


MAR 10 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى