عبدالله البقالي - الاصرار والترصد...

بمناسبة موجة "الحريك" الجماعي التي نعيشها اليوم.


يوم ضاقت رحاب الوطن من أن تسع حلمه البسيط، ركب البحر. نظر طويلا بعينيه اللتين اكتسبتا لونهما من زرقته الى الجزء المتبقى من الوطن متوقعا أن يناديه: تعال .! ارجع ..! كنت مازحا. كيف أضيق ممن تسع قلوبهم أرجائي المترامية الأطراف ولا أسع أحلامهم ؟
لم يحدث ذلك. دمعت عيناه وهو يرى اخر شبر من ارض الوطن يتوارى خلف امتداد حدود البصر. نظر إلى الامام. رأى حلمه يسابقه ويختفي هناك. في بلاد الضباب والعنصرية والقتل المباح.
لم تحبطه الشرائع التي فصلت على قده. لم تعقه الحواجز التي تتكاثف كل يوم لإقبار أحلام البسطاء أمثاله. لم يعرف كيف تماثلت أمامه صورة الشيخ "بوشتى " الذي وجد نفسه تخاطبه .
" رحماك يا شيخ. لم تكن شجاعا. بل لم تكن متبصرا بما فيه الكفاية. كنت واهما يوم اعتقدت أنك ستنصف حين تضحي بأحلامك الشخصية من أجل أحلام الوطن. أثنوك عن عزمك وقالوا
الوطن في حاجة اليك يا بوشتى .
الوطن يستغيث بسواعدك القوية يا بوشتى .
لا تصم أذنيك عن نداءات الوطن يا بوشتى .
صدقت يا شيخ أو أرغمت نفسك على التصديق. بعدها ماذا صرت؟ حطابا، وحين تلاشى ما تبقى من قوتك صرت متسولا. لا تقل شيئا. لقد قرأت كل شئ في عيونك. ومن أجل ذلك .سأمضي. سأتحمل العيون التي ستنظر الي بريبة كلما طالعها وجهي. والقناص المتغطرس الذي سيتربص بي الدوائر . والأيادي التي سرقت منا بلا حساب، والتي ستنعتني بالسرقة بالرغم من أن العرق الذي سيتصبب لن ينشف قبل أن اصرف الأجر الذي سأحصل عليه ".
يختفي وفي الجهة الأخرى يظهر . متسكعا مجهول الأصل ، منبوذا يبحث عن تبن. مهزوما مهوسا برد الاعتبار.
يبحث في دروب التسكع. في سلال الاهمال. في فضاءات الضياع عن أشياء بخل عليه بها الوطن. البنادق صارت تبتغيه هدفا. ودمه صار بركا و غدرانا لمن يدعو للنقاء والتطهر. وقف في حيرة بين خيارين. إذلال الآخرين أم مهانة الوطن ؟
كان يقص عشب الحديقة حين أتوا. ساقوه و مضوا. حينها رأى شكلا من أشكال الوطن. أوقفوه عند منتصف ساحة نشر عليها قميص ملطخ بالدم. تحلقوا حوله. الأيادي تنعته. الشفاه تصرخ وتتوعد. سأله سائل: من أنت أولا ؟
ـ أنا ؟... أنا شئ ضاع من جوهر . في خضم يوم فصل الماس فيه عن الحجر.
ـ لم أتيت الى هنا ؟
ـ لا أعرف، مثلما لا تعرف الفراشة لماذا تنجذب الى نور سيراج أو لهيب نار .
ـ لكنك لست فراشة، أنت قد تكون صقرا ما دمت تذبح كل سنة كبشا؟
ـ لاصقرا ولا نسرا. أنا شخص بسيط وجد نفسه ذات صباح بعد أن لاح نور الفجر في الأفق أنه أتى الى هذا العالم. كبرت . خطوت خطواتي الأولى خارج البيت. تعرفت على أقران. كنا نلعب.نحول علب السمك الفارغة الى سيارات،نجرها بخيوط ونحدث ازيزا بأفواهنا. نبني منازل من طين. نصنع عرائس من قصب. ويوم كبرت، عرفت أن مشوار حياتي قد حددته أحلام وألعاب الطفولة. جريت وراءها في كل الدروب، طفت كل الآفاق.كنت أقع. أقوم. أمسح العرق وأطوي سجلات الخيبة. وتحولت حياتي الى فتح وطي الصفحات عوض كتابتها. وفي كل الدروب التي سلكتها، لم أر وجها للوطن.
ـ لا يهني شيئا من كل ما قلته، أنا أسألك بالتحديد. لم أتيت الى هنا ؟
ـ انتظر قليلا وستعرف أنك لست بريئا كما تتظاهر .
ـ هيا، أوجز.
ـ في يوم شديد القيظ ، كنت جالسا تحت ظل شجرة. هناك مر بي شيخ مسن وحكى لي قصة مثيرة عن ثروة جدي الذي صادرها منه أحد أسلافك. لحظتها رأيت أحلامي تمزق صدري وتعلو في الفضاء وتطير متخذة منحى شماليا. جريت وراءها بكل قواي حتى لا تغيب عني فأتلفها. لا أعرف كيف قطعت البحر. هل ركبت قوارب الموت أم استعملت عصا موسى؟ المهم أني يوم نظرت للأرض، وجدت نفسي هنا.
ـ تبرير سخيف لتجاوزات خطيرة. كنت سأراهن بأي ثمن على أنك كنت ستقول هذا الكلام، دائما نفس خطاب من سبقوك ومن سيأتون بعدك.
ـ لا ،التجاوزات التي تمت في كانت حقي مرتين.. لقد نكبتمونا يوم كنتم هناك، والآن و أنتم تهدفون لإقباري بتهم باطلة. لكن لن يكون ذلك سهلا .
ـ اصمت أيها القذر وسنرى ما في امكانك أن تفعل و أنت تقضي بقية عمرك في الظلمة.
تعالى صياح و صفير المتحلقين، وامتقع وجه المحقق.أما هو فقد استدار جهة المتحلقين وقال لهم " شكرا لكم، ما يهمني الآن هو أن تعرفوا أن دماءكم ستستعمل حبرا لكتابة التمائم والتعاويذ عندما يجف دمي.

عبدالله البقالي

* من مجموعة " الخبز و الأحلام"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى