حسام المقدم - كوستاريكا...

أحببتُ هذه الأغنية، كلماتها بسيطة وحلوة:
".. ونتخيّل مَثلا مَثلا يعني إننا
في كوستاريكا
بيقُولو الحياة هناك سهلة وبسيطة
في كوستاريكا
نِشتري بِيت صُغير ونلعب في الحديقة
في كوستاريكا
وقت غروب الشمس نقعُد على الأريكَة".
لماذا "كوستاريكا" بالذات؟ أسمع عن مدينة أو دولة بنفس الاسم، لكن لا أعرف أين تقع، ما يهمني أن "الحياة هناك سهلة وبسيطة". عشتُ مع صوت "أمير عِيد" السارح، تمايلتُ مع مزيكا الروك بنغمات وإيقاع الجيتار والدرامز لفريق كايروكي. أعرف الفريق منذ سنوات، وسمعت بعض أغانيه مثل "صوت الحرية" الشهيرة التي انتشرت أيام ثورة يناير. توقفتُ عند أغنية "كوستاريكا" وركّزتُ مع كلماتها، أُشغّلها على التليفون حين أكون في غرفتي، وعندما أخرج أضع السمّاعة في أُذني. بدأت أغني وأهزّ رأسي وأنا في الشارع، أو على الكافيتريا مع أصحابي، وأنا في المترو ذاهب إلى الكُليّة وساعات الفراغ، وأنا مع نفسي:
"مَبَحِبّش أصحَى بَدري..
وأسيب أحلامي ع السرير..".
بعد اكتشافي للأغنية دخلتُ على النت لأقرأ عن كوستاريكا، شاهدتُ فيديوهات للبلد وطبيعتها الساحرة. يومها نمتُ وكلمات الأغنية تتردد على شفتيّ..
**
أمشي على واحد من الجسور الحديدية الكثيرة، المعلّقة فوق غابات كوستاريكا الثرية. ورائي تمشي ساندي زميلتي، نخطو بشكل طبيعي كأي حبيبين أو زوجين جديدين. أتعجب من وجودها معي، لم أكلمها من قبل إلا مرة أو مرتين بين المحاضرات أو في كافيتريا الكُليّة. رأيتها مُتعالية، منيعة وبعيدة، كأنها ليست من عالمنا. مرَّ كل ذلك بذاكرتي في لمحة، تبخّر، ها هي معي، أسير أنا وهي على جسر شاهق العُلو. أُشير للشلال المنهمر هناك على يميننا، وفي أسفله ناس كثيرون يستحمون في البحيرة الصغيرة. وجه ساندي جميل، في ملامحها كبرياء وثبات، "مُزّة بنت ناس" كما نقول عنها في الكُلية، جسمها ملفوف كما "الكتاب بيقول". هذه المُتكبرة الأنيقة تمشي خلفي بتسليم غريب، أتعجب من تحولها وتنازلها بهذا الشكل. نمضي ومن فوقنا طيور بمناقير كبيرة ملونة، ضفادع بعيون حمراء، ببغاوات فاتنة الجمال، عصافير من كل الأنواع. نرى طائرين يتجهان ناحية الشلال، نطير خلفهما بجناحينا النابتين مكان الأذرع، شَعُرنا برذاذ الماء المُنسكب بغزارة، تراجعنا خوفا من الغرق تحت الوشيش الهادر. أرى ساندي تطير في اتجاه كوخ خشبي جميل، يجاوره صف طويل من أكواخ بنية بأسقف بيضاء. تقول إنها الجنة، أقول: "نعم، إنها الجنة". أنظر حولي، تبدو الطبيعة في غلاف من البكارة، ونحن أول المخترقين لهذه العُذرية المُصانة. رغم ذلك أحسستُ بضاغط مفاجئ على صدري، ضجيج داخلي يعلو إلى تحريض يدفعني للانفجار في وجه هذا الكمال والانسجام. قلت لها: "لن أضحك على نفسي، أريد أن أكون معكِ يا ساندي، حتى ولو ساعة.. في جو آخر مُشبّع برائحة توابل. اسمعيني.. مع افتراض أننا سنظل أمام روعة هذه الطبيعة شهرا أو شهورا، ألا نزهق ونمَلّ؟ سنفتقد الزحمة وعرق الأجساد والأصوات العالية، الهدوء والجمال هنا يغيظ، جمال أخشاه ولا أطيق المزيد منه". لاحظتُ أن وجهها بدأ يتغير، عيناها في ذهول من جُرأتي، رَفعت حاجبيها: "أنتَ لا تستأهل النعمة". تحولت ملامحها إلى شراسة مفاجئة، رأيتها تأخذ نفَسا عميقا وتُكوّر خديها، ثم تنفخ الهواء بحرارة واكتساح، ليحملني معه في دوّامة..
شبه صحراء، محاجر رمل وزلط، مداخن عالية، ناس تجري وتخبط في بعضها ..
وجدتها ورائي تضحك: "تستحق أن تكون هنا". قلتُ: "إذا كنتُ أنا أستحق يا حضرة الغاضبة؛ فلماذا جئتِ أنتِ وتركتِ بلاد الجمال والسعادة؟".. ردّت: "لأكون بجوارك يا رفيق الفقر الأزلي!"
سرنا معا نغني:
"تحت الشجرة هستناكي واعمِل عبيط..
هَتفاجِئ واعمِلّك باي باي من بعيد".
ضغطتُ على يدها، اختلطت أمامنا الأماكن، ربما كنا في كوستاريكا أو فرنسا أو حلوان..
رفعنا أصوتنا، واصَلنا الغناء في طريقنا المحجوب بالضباب والغبار.

***
حسام المقدم








تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى