ظافر الجبيري - وصيّة ثيسجر أو مشبّب الرُّزَيْقي...

في قرية الرَّهوة الوادعة بين الجبال التي يزينها حصن أبيض طلي قريباً، تنحدر الطرق والبيوت شرقاً حتى أطراف القرية المستقبِلة لشمسٍ ربيعيةٍٍ مُفْعمةٍ بالدفء .

صباح الخميس، لا شيء يمنع أن يكون كغيره من أيامنا الهادئة، لولا أن توقّفت سيارةٌ غريبةٌ ، وهبط منها من هبط ، في أول الأمر قالوا نحن من سفارة دولة أوربية، ما لبثَ أحدُهم أنْ عرّف بالجميع : مندوبو متحف الشمع: مدام توسو ! هكذا، فجأة، وبلا مقدمات، أو موعد مُسْبق. وجدناهم بيننا.

لم نفاجأ بوجود مترجم يُغيِّر نطقَ الحروف ويُعجم بعض الكلمات، لكنه كان قادراً على توصيلِ كلام هؤلاء الغرباء ، حتى لا نبقى نحن وهم في صمت بهيم ، أو شكوك متبادلة ، خاصة ونحن فتيان القرية : رأسُ الحربة ضدّ أيـِّة قدمٍ غريبة تطأُ قريتَنَا، وخطّ الدفاع الأول أمام أيـِّةِ عين تتطفّل على خصوصياتنا.

تزحزحت الظنون ، وهدأت الشكوك قليلاً حول هؤلاء الخمسة، اندفع أحدُنا بسؤال نافر إلى المترجم :"أي خدمة".


بدأ المترجمُ يشرحُ لنا بطريقته، عن حاجة الوفد لنموذج إنساني لاختياره لِلَقب (شخصية القارة)، ويعنون آسيا بالطبع، نحن آسيون ، يا للمفاجأة! تُرى هل حَلُمَ أحدُنا بأن يكون ذلك النموذج المطلوب؟ أتبحثُ عنا الدول والمتاحف ولا تُعرف قيمتُنا بين أهلينا؟ ذلك ما تبادر إلى ذهن ذلك (الأحد)، وكان هادئاً صموتاً تمهّد نظرتُه ثم تعليقه لإبداء خِدماته للوفد، يجعل كلَّ ذلك محسوباً وبحكمة يحسده عليها الأقران.

كانت لديهم معلومات جاهزة ومواصفات متكاملة ومحددة، عن مشبب بن عبد الله، أحدِ شيبان القرية ورموزها: نهاراً عبر دروب القرية وأعمال المزارع ،مساءً عبر الأحاديث والأمسيات التي يكون بطَلَها ومدارَ مسامراتها.

ربما سمع بعضُا عن الشمع والمتاحف ، لكن الجديد علينا تماماً هو مدام توسو هذا!، ولم يكن هذا مهماً الآن، بقدر ما كانت إجابتهم لنا على سؤال لم نسأله بعد: لماذا مشبب بالذات؟
بعضُنا ادّعى الفهم لما يجري، والآخر كان لا يزال مشدوهاً، لكن التعالُم كان سيدَ نظراتنا، وكان بعضُنا يقف لا مبالياً كأنما هو مع عمال غرباء، ينتمون إلى القارة الآسيوية الرحبة رحابةَ قريتِنا التي اتسعت هذا الضحى لأقدام أوربية؛ كما اتسعت لعلامات الدهشة التي جاءت كلماتُ المترجم لتبدِّد بعضَها: "مشبب هذا جاء اختياره مسبَّقاً، في زيارة أحد الرحالة الذين مروا على منطقتكم قبل خمسين سنة".

(كان مشبب يلعب وقتها في دروب القرية ومساريبها، ولم يحن وقت استفادة أهله منه بعد، هذا إن سلموا من شره.. وكانت عَرْجتُه واضحةً في المشي ويكادُ يختفي أيُّ أثرٍ لِقِصَر رجله اليمنى عند الجري ،كان يركض بين البيوت ،ويلوب في سرعةٍ ينسى من يراه خَزْعته..)

يمكن القول إن مشيته الآن لا تمتُّ بصلة إلى ماكانَه قبل نصف قرن .تتقدم اليسرى ، يستند عليها، يرتفع جسمُه نحو اليسار ليعطي للرجْل اليمنى فرصة اللحاق بأختها،حتى وإن أثارت بعض الغبار، واتجهت للأمام بشكل أفقي مائل.


***

أما كيف عرفوا أنه مازال حياً منذ أيام الرحالة ثيسجر، فذلك ما لم يعطونا عنه جواباً شافياً، طلبوا منا أن ندلَّهم على منزله، وكان ولده واقفاً بيننا ، في الرابعة والعشرين من عمره واقفاً معنا فاغراً فاه، شرحنا له الموضوع، وأخذ وقتاً حتى فهم، بعدها، ذهب بسرعة مُنْسلاً بين البيوت، ولحقَتْْه كلماتي:

- مبارك، بسرعة أبوك دخل التاريخ اليوم!.


****

مازال الشباب الواقفون معي غير مصدقين لما حاول المترجم إيصاله بتركيز شديد: "مشبب هذا إنسان مهم" ثم واصل: "المتحف يبغى ناس غير مشهور، لكي يصبح مشهور جداً كثير..".

صحوتُ على حقيقة حادة، حقيقةٍ لا تخص أحداً سواي في هذا العالم ! فهمتُها أكثر من فَهْمي لفكرة تماثيل المشاهير التي يعشقها أولئك الناس، وتملأ متاحفَهم وبيوتهم وساحاتهم العامة ، مع الخروج عن أهل الشهرة إلى غيرهم من ذوي الملامح المميزة – ملامح إنسانية غير مكررة! وشعرت بأن هؤلاء سبقوني إلى اكتشاف عبقرية التفاصيل التي تدبُّ على غبراء قريتِنا دون أن نُلقي لها بالاً، وقلت بحسرة صامتة: "راحتْ عليك".

إذ بعد سنوات من اختياري للرجل نموذجاً إنسانياً ، ضالة فنية تأكدت ُ من حاجتها إلى قلمي وبنات أفكاري، بعد سنوات من الانتظار والتأجيل في انتظار الفرصة المناسبة، لأكتب عن مشبّب هذا، وأقدمه للعالم دلالة على قدرة قلمي وأرضي على الإنجاب ، روايةً رائعة توجز روعة الاكتشاف..! لكن هاهم مكتشفو النفط ،عادوا لاكتشاف الإنسان على جبالنا الحُبْلي بعظمتنا الصامتة عبر القرون . الصحراء تجود بالنفط ، ووجه مشبب تجود به الجبال علينا . ياللعجب!

***

اقترحتُ عليهم القيامَ بجولة سريعة على القرية وما حولها، وكأنما لأستعيدَ زمام المبادرة التي بدأتْ تفلتُ من يدي (ترى أكنت في داخلي أرجو ألا يعثرَ مباركٌ على أبيه..).

عبرنا بهم الطريقَ الضيقَ الموازي للحصن انحداراً نحو بيوت القرية الأكثر قدماً والتي تهدّم سطوحُ وجدرانُ الكثير منها، أبدى بعضهم ميلاً عميقاً لتفحّص نقوش الأبواب الخشبية ذات الحلقات الحديدية، مررنا على المسجد، وقلت: "هذا المسجد ملتقى الناس خمس مرات في اليوم والليلة.." قاطع المترجم: "نعم، للعبادة، جميل جداً" قابلَنا بعضُ الرجال من أهل القرية، اندهشوا كحالهم مع كل الغرباء، اندهاش ممزوج باعتراض على وجودنا معهم وابتساماتنا الممهورة بالتعليق والانشراح. التقطوا بعض الصور للبيوت القديمة الخالية طبعاً، كل من قابلَنا يرفض التصوير أو حتى الابتسام والترحيب ، كانت نظراتٍ فقط، نظراتٍ مشوبةً بالانكماش.

بعض الأولاد الذين ساروا وراءنا، وراء الوفد، انزوى خوفاً من أبيه، أما نحن البقية :كنا ثلاثة، فقد صرنا جاهزين لتقديم أية خدمات وبالمجان بعدما تلاشت حالة عدم الارتياح نحو الوفد الخماسي.

وقال واحد بثقة: "خذوهم يصورون قرية الجهوة*، تراها فرصة".

كان علينا أن نطوّف بهم أكثر، دورة كاملة حول القرية ، رأوا من وراء البيوت جانباً من الوادي الذي لم يكن أخضر كما يرقد في حنايا الذاكرة ، كما كان منذ سنين خَلَتْ.

ثم ماذا، هل نريهم البيوت والعمائر التي نعتبرها فخمة، أم نتجول بهم ونطلعهم على الشوارع الملتوية المسفلتة الموصلة بين القرى، أعمدةِ الكهرباء التي استبدلتها الشركة للمرة الثالثة هذه المرة بأعمدة من حديد ، الجديد في الأمر هو تعليق كشافات النور عليها ، هل يجب أن نطلعهم على معالم النهضة الأخرى !

أليس هؤلاء الذين قابلُونا من أهل القرية محقّين، وهم يستخفون بنا، (لسنا صغاراً إلى هذا الحد! لكنهم كانوا كباراً في كل شيء، في كل ما يجب أن يكون المرء فيه كبيراً، لدرجة أن ليس لديهم رغبة في شيء سوى المزيد من العمر، ليزداد الانكفاء على ذوات لا ترى حتى صورتها في المرآة؟).

عدنا إلى نفس المكان الذي بدأت الجولة منه، وطال الوقت، فانشغل أحد الاثنين اللذين معي بجواله المحمول، متظاهراً باستقبال رسالة، أو تخزين رقم ، أعلن بصوت مسموع قَفْل الخط في وجه متصل لحوح لا وجود له، وراح الآخر ينظر نحو المجموعة ذات البشرات البيضاء المكتنزة بالدم ، وجدَها خاليةً مما يملأ يديه وقدميه من خدوش وآثار جروح غائرة ، سرح بعينيه متأملاً ، يمكن للقريب منه سماع زفراتٍ صاعدة من أعماقه.

سألتُ - لملء الوقت- عن معلوماتهم عن الرحالة الذي حضر خِتاناً في قرية مجاورة، وصوّر بعض الصور وظهرت واحدة منها في كتاب بلغتهم،( كنتُ اطلعت على الصورة فقط التي التقطها الزائر الخواجة وقتَ استعدادِ فوجٍ دائريٍّ من الرجال لإطلاق النار من بنادق البارود الموجهة إلى الأعلى، كان رجال العَرْضة في المشهد أكثرَ من عشرة يظهرون في الصورة – لمن لم يشاهدها- في وضع انحناء مُخْلِص لمعالجة الفتيلة استعداداً للإطلاق، ثيابهم إلى نصف الساق ، بينما رأس أقربهم تغطيه عصابةٌ بيضاء مشدودةٌ على طاقية من الخَصَف ( السعف) أكثرهم يضع عقالاً يلفّ عليه دِسْمالاً من الكشمير يلتقي طرفاه في منتصف الرأس معقوداً بعناية، والجنابي والخناجر تزيّن الخصورَ وتشدُّ القامات ..)، رد المترجم على السؤال، بعدما حدَّثَهم قليلاً، وشرح له ذو اللحية الحليقة والشارب الأحمر الكثّ ما لديه، وفهمت "أوف كورس" وزاد المترجم: "أنت تعني ثيسجر؟ نعم هو أقصد مبارك صاحب التوصية بالعودة إلى هنا، وهذا أحد أحفاده" وأشار إلى فتى أرستقراطي قليل الحديث. ثم أخرج أكثرهم تعليقاً – عرفناه باسم السيد جون - خريطةً تُظهَر فيها بعض الأسماء والخطوط وعلامات مبعثرة ورسومات صغيرة في أسفلها، كأية خريطة رُسمت بعنايةٍ لتوصلَ صاحبَها إلى مكان محدد قد لا يعرفه غيره ، ثم أومأ لي الذي اسمه جون بالاقتراب، اقتربتُ , أشار بيده إلى حروف واضحة : RAHWA. دَقّقتُ فيها أكثر، وصمت الشابان خلفي عن التعليق، وقلتُ موجهاً كلامي لهما:" هذي رهوتنا عندهم خبرها من زمان".

أبحرتْ نظراتُهما نحو أمواج من العجب الصامت.


***

ما إن طوى الرجل الأبيض الخريطة، حتى علا من ورائنا صوتُ خطوات مشبب بن عبد الله، يقدّم رجلَه اليسرى ويجر اليمنى .. (من المفيد القول إنه ليس كسراً ما حلّ برجْله ، كما توحي بعض الألقاب التي ربما سمع بعضها من الناس، وكلّها عن مشْيته وعَرْجته ، ولم يغضب منها يوماً ، إنه قِصر فحسب، ولا يتوقف الأمر على هذا، فلابد من إيراد روايتين عن سبب حالته:

(صالحة بنت حسن تقول: ولّدت بَهْ أمُهّ، وخرجَتْ رجليه قبل رأسه، فيمكن - تقول هذا متحرّزة – يمكن سحبناه شوية ! أما عائشة بنت آل طويل، فتؤكد أنه سقط من على ظهر الحمار، وكان رديفاً لأبيه، وعمره في حدود الست سنين..).

عندما وصل كانت العيون تترقّبه، ليست عيوننا بأقل ترقباً لمجيئه من هؤلاء الخواجات، الذين قطعوا البحار والقفار، وعبروا الأميال والأهوال جواً وبراً حتى وصلوا إلى الرهوة مسقطِ رأسِ مشبّب بن عبد الله الرُّزيقي، مسقط رأسه الذي لم يغادره سوى مرةٍ واحدةٍ للحج قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وعاد إثرها مريضاً، وظَلّ طريح الفراش، وأُعِّدَ الكفن وبقي بجوار وسادته شهرين متواصلين.. تعطّلت معه جميع مصالحه وأشغال البيت والمزارع في موسم الحصاد.

كانت العيون الزرقاء والخضراء تتفحصه من أعلى الرأس حتى أخمص قدمين غير متساويتين، لا في الطول ولا في نوع الحذاء ‍‍‍.

سلَّموا عليه تباعاً، وصافحته حتى المرأةُ (هل كان من الأفضل أن نشير لوجودها منذ البداية ؟ ربما كان هذا أفضل لترك الأمور تسير دون تعقيد، ماذا لو كان الراوي يعتبر الأمرَ عادياً؟)

فتحنا العيونَ على آخرها نحوه، وهو يصافحها عندما وصل إليها رابعةً في الترتيب، وهي تنحني له كيابانية تبجّل إمبراطوراً مهيباً .

يَدُ مشببٍ السمراء الخشنة ، كفّه، كما عهدناها، في المصافحة تبقى على حالها، لا تشعر وأنت تصافحه أَنّ راحةَ الكفِّ انبسطت لتستوي في راحة يدك، بل تبقى شبه مقبوضة. صافح اليوم، في هذا الصباح الأوربيِّ الرَّهوي، صافح على طريقته الخاصة:الأصابع والكف محنيّة إلى الداخل ، تحتاج ُ لبعض الوقت حتى تستوي في الكفّ الأخرى التي تصافحها ،مع أنه يسحب كفَّه بحكم العادة، لكنّ مصافحة طويلةً وحارة كما هو الحال اليوم، كانت كافية لينبسطَ الوجهُ والكفّ.. نقّل الرجل، نظره في الوجوه، بما فيها وجه المرأة..وعندما شَدَّتْ على يده شدَّ على يدها.. وكنا ننظرُ التقاءَ خشونة الرهوة .. بل قساوةَ السروات ووُعُورة الجبال العربية السعيدة كلها.. كنا شهوداً على مشهدِ كفِّ صاحبِنا تضعُ خشونَتَها في أكفٍّ رخوة ، زادتها كفُّ الأنثى الوحيدةِ في الوفد – الوحيدة في المكان، في العالم، زادتها رقةً وليونةً خارقة.

كانت كفُّ مشبب وهي تنتقلُ من كفّ بيضاء إلى كفِّ أشدَّ بياضاً ، يصافحهم فتسير كفّهُ بين أيدٍ تشفّ بشراتُها البيضاءُ المرتويةُ عن ليونةٍ وترفٍ تحسدهما عليه أيادٍ تحجّرت أصابعُها وامتلأت شقوقها بنُشُوفة العمْر وغبار العمل.

كانتْ يده، وهي تصافح، كلّ أيادينا، كانت أيادينا معه، تتنقّل من رَجُل إلى رَجُل.. إلى امرأة ،كانت حينها يداً لنا جميعاً، يصافحهم بيد: سمراء، ناحلة، صادقة، خشنة، وقوية في ترحيب متواصل.


***

أتوشكُ مفاجآتنا اليومَ على الانتهاء ؟ لا، لم ْ تكتمل بعد!
في هذا اليوم الذي ابتدأ باصطدام الرَّهوْة بأوربا الشمال، ثُمّ البحث عن صاحبنا بالاسم، ولم تتوقف المفاجآت عند مصافحة هذا المشبّب -الذي يدل اسمه على التوفيق والحظّ- للجميع يداً بيد، بمن فيهم المرأة، دون تردد، وشِّده على يدها عندما رأى صدق ابتسامتها و عفوية انحنائها.. لم تقفْ غرابةُ صباحِنا عند هذا، فقد ظلت أفواهنا فاغرة، وتنقلتْ عيونُنا المشدوهة بينه وبينهم، وصرنا غير موجودين بالنسبة لهم، وقد وجدوا ضالتهم، وحتى بالنسبة له، لم يعد يشعر بوجودنا حتى وإن رمانا، عند قدومه ، بنصف عين.

أشار إلى ولده أن يسبقه إلى البيت، أَوْمَأ لَه، ربما بإعداد شاي أو قهوة، أم تُراه أراده أن يغادر والسلام ؟ ونحن ؟‍ لم نعد موجودين في نظره، ولا حتى في هامش نظره، أو حساباته، لأنه ظل واقفاً بعد المصافحة الدولية! وأشار بيده الممدودة لهم بالتفضّل ، كانت إشارة مرحِّبة دون تكلّف، تبعوه متأملين خطوته، وساروا وراءه، لا يزيدُهم اهتزازُ خطواته إلا ثباتاً لنظراتهم، كاد أحدهم أن يصوَّر، فمنعه المترجم، بما يشبهُ الزجرَ الخفيف.. قَدَمان تصطحبان رغم الاختلاف، تتقدم اليسرى فتلحقها الأخرى مكرهة تابعة للسليمة التي تقود الخطو وتوجّه المسير، أثَر مختلف لكل منهما على الأرض، أثر واضح لليسرى، أَثَر مطموس لليمنى التي غيّرت شكل الحذاء.

(لا يملّ أهل القرية حكايتَه مع بائع الأحذية، يسردُها عندما يصفو الجو، ويطلبُها كثيرون ، حتى تناقلتْها الألسنُ ، لكنها بلسانه وأسلوبه أمتع ،يقول: تَقَاوَسْت الحذاء التي صلحتْ لي، ثم طلبت واحدة أخرى جديدة مثلها، سلًّمني البائع ما طلبت، استخرجت الفرْدة اليمنى ورددت له الثانية، وضعتها مع الأولى فصار في يدي ثلاث فرْدَات، نظر البائع ماداً رأسه نحو يديّ لعلّه يفهم، شرحت له مشكلتي مع الحذاء اليمنى التي تتمزّق من مَسْح الأرضِ، وسَيْري بها في كل الأعمال والمشاوير! رَفَض البائع وظنّ في عقلي شيئاً، حاولت إقناعه - يقول مشبب- بأن يبيعني ثنتين يمين وواحدة يسار، فازداد الرفض واتهمني بالخَبَل، وخرجت من عنده، وهو يضرب أخماساً في أسداس وربما سمعت سباًّ لي وللتجارة التي عرّفته على أمثالي..).

كانت ومازالت دعابته التي يضحك منها الجالسون ،ودون أن يُرى له سنّ، توحي بجدية كل ما يقول؛ وعندما يغتابُ أحداً يذكّره الحاضرون بترك الناس في حالهم: "لا تنسى نفسك يا مشبب" فيأتي رده الدائم : "ترى ما ينتقد الناس إلا أخسّها! " لم يكن الجِدّ القليل ليخفي الهزل والمرح اللذين يحتاجان إلى تشعّب الحديث عبر مسامرات الأنس التي يكون طرفاً فيها ، لتتحول الجلسة إلى تعليقات ودعابات لا تنتهي. لكنه لم يكن أكثر جدّيةً منه اليوم.


سارتْ خطواتُه بالوفد نحو باب البيت الواسع.باب الحوش ذو لون بني جُدّد حديثاً، سار الخمسة وراءه، بينما أعاد صاحب الكاميرا آلته إلى خبائها.. وانهمكت المرأةُ بإخراج أوراق ودفاتر ملّونة من حقيبة معلقة على كتفها الأيمن، وسألتُ استحواذَهم على الرَجُل: أتُرى سيستأذنونه قبل التصوير، أم أنه صار تراثاً إنسانياً لكل البشرية؟ ربما وصل معهم إلى درجة من السَّماحة تجعله يستجيب فقط لأقل إيماءة منهم! سمعْنا المترجمُ يبسمل داخلاً "بسم الله" وأعقبها "ماشاء الله الرحمن الرحيم".

كان الرجلُ يردد "ياهلا ياهلا" مرتين أو ثلاث، بينما وقف ولده بالباب ساكتاً خالياً من أيِّ لباقة، لكنه كان ينظر إلينا نظرات باهتة لا تخلو من كَيْد واستغراب. صرخ به أحد الشابين معي: "رَحِّبْ بالضيوف، وإلا ما هم عرب"، "سمع والده يردِّد يا هلا" وهو بالباب، فردد مبارك: "أهلاً وسهلاً" هز المترجم رأسه، فهزّ الآخرون رؤوسهم بحركة خفيفة تشي بالامتنان.

صعدوا الدرجَ الحجري، الذي لحقتْهُ عنايُةْ متأخرة بالأسمنت، فأصبحَ أقلَّ صعوبة، مروراً على طَلَل (سَيَّار) طويل قبل الدخول، مشوا عليه إلى المنتصف، انعطفوا نحو المجلس إلى اليسار، ألقى بعضهم نظرةَ تعرُّفيّة على الفِناء الذي تطلّ عليه غُرَف سفليةٌ وعلوية من ثلاث جهات، عمرَّها الرجل على مراحل، بعضها حجريٌّ تحت ومُسَلَّح فوق، ويتداخل البناءُ القديم والجديد في توليفة يصعب وصفها بأي وصف إلا أنها تعكس مراحل البناء، وجودة العمل أو رداءته وشح المواد أو توافرها واشتراك ذوقه مع ذوق بقية الأقارب المشاركين له في البيت الواسع.

رَحَّب بهم في المجلس _ أكثرِ غرف المنزل تناسقاً ، قعدوا في الصدر مقابلين له، كما أشار لهم، أَسْعَفتنا النافذةُ المفتوحة لنرى؛ واجهَهَم في الوسط تماما، اعترضتْ بعضَهم مشكلةُ الجلوس لضيق البنطلونات، وعدم التعوّد على جلسة الأرض، كانت المرأةُ أكثرَهم راحةً بفضْل تنّورتها الفَضْفاضة السوداء تحت بلوزة سماوية اللون ومنديل رأس يغطي معظم الشعر معقوداً تحت ذقن مستدق ناعم، لامرأة في منتصف الأربعينات .

حضرتِ الدلّةُ تفوح منها رائحةُ البُنّ والهيل، صعد مبارك بن مشبّب الدَرج ماراً بالقرب من تنصُّتِنا على الاجتماع (كنا نجلس قريباً على دكّة تبدأ عندما ينتهي الدرج بامتداد الطلل، نستمع ونسترق النظر، ننتظر دعوة لن تأتي للدخول) كاد الولد أن يُسقط الدلّة بسبب مشيته الحمقاء واختلال توازنه عندما اشتبكتْ رِجْله في حذاء شبه رياضية عالية لأحد الخواجات ..وسمعناه يطلق هَرِيَّةً عنيفة تَسْتدعي الجن من قوارير سليمان!.

شربوا القهوة، رددوا بعدَ مُرافقهم "شكراً شكراً، ثان كيو" أخرج أحدهم- وكان ذا لحية كثة حمراء- صورة بالأبيض والأسود ، وأراها للرجل الجالس أمامهم، اقترب منه المترجم حَبْواً على ركبتيه ،وبدأ يكلّمه عن الرَجُل الذي زار المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، وسأله: هل تعرفه؟ صَمَت صاحبُنا، ثُمّ هزَّ رأسه بما يشبه النفي. فقال الترجمان عندها: "أكيد هو كان يعرفك، لكن الله يرحمهُ وأشار إلى أصغر المجموعة عمراً، وقال :"هذه حفيده" ، "يعني وَلَد وَلَده" هزّ المترجم رأسه بانبساط: "نعم نعم".

أخرجَ له صورة أخرى كسابقتها باللونين الأبيض والأسود: شاب يافع جَبَليّ النظرات، صغير في غير رّقة يرتدي ثَوْبَ مِبْرم مرقّع يقف عند نصف الساق، يظهر وراءه بيت بجدار حجري، وبيد الولد عصا كان يهشّ بها أو يركبها حصاناً يطلق به صهيل الطفولة عبر أزقة القرية ومساريبها! "تعرفه؟" قال الوسيط. نَظَر الرَّجُل متفحَّصاً، بعينين غائرتين في محجري رأس غزاه شيبُ الستين؛ بادره بالقول: وهذا مشبّب يعني أَنْتَا.."

تحركتْ رأسُ الرَّجُل ليحدقِّ بجُهْد أكبر، وَغزَتْ ابتسامةٌ ساهمةٌ محيّاه. تذكرتُ كأحدِ أبناء القرية فَضْلي عليهم – وهم ينادونه "أبو مبارك" وقد كانوا سألونا عن أفضل اسم ينادونه به ،كان ذلك قبل حضوره، قلت للمترجم: "نادوه : أبو مبارك ".


سَرَح الرجل بل غاب في الصورة، ثم رفع رأسه نحوهم، وجاءت عبارة: "أَنَا هذا" غارقةً في التفكير، حتى لكأنه قالها شخص آخر غيره!.

تبادلوا النظرات، مع أحاديثٍ مقتضبة بينهم، وكأنما عاد لتوِّه من رِحْلةٍ بهيجةٍ أنعشتْ نظراتِه ، فبرقتْ عيناه، وانتشتْ ملامحه فراح ينظر نحوهم حيناً ، وفي الصورة التي في يده حيناًُ أطول، ثم سأل: "من أين جاءت هذه الصورة؟ "نعم، نعم" تصدى المترجم للردّ ظل حائراً لثوانٍ، ربما يواجه أصعبَ سؤالٍ في حياته، يطرحه هذا المشبّب، قال له: "المصوّر هذا جا زمان عندكم وصوّر هذه لك وأنت شباب وفيه صور أخرى، كهذه لرجال، في حفل كبير"، كأنما بدأ يفهم، وصاح بآهة طويلة :" مْبارك..هوّه مْبارك". رد المترجم على الفور :" الحمد لله .."

سادَ صمْتٌ مريب، مالبثنا أن سمعنا هَتْمَلةً خافتةً بين الضيوف ،فصحْنا بالولد الذي دخل المجلس، وحمل الفناجين والدَلّة النحاس، وخرج نازلاً، نحو طرف البيت، وعلّق أحدُنا: "انتبه للشايب من الخواجات ياولد!".


"اسمع ياعمي أبو مبارك" ناداه المترجم بهذا الاسم ، وكأنما قد اعتمد رسمياً منذ اليوم بعد أن كان لايُدعى به إلا نادراً ، وكأنما رجع له الاسم من جديد كالصورة التي وصلته بعد خمسين سنة!

واصل حديثه محاولاً استعادة تفكير وإصغاء الرجل نحوه: "نريد منك بعض الصور والحاجات الضرورية للعمل مع الأخوان", أشار إلى رفاقه المنصتين. "صُور؟" تساءل: "ما عندي صور" ردّ المستعرب بحذر: "نحن عندنا هذه" وأشار إلى الآلة في جوف رفيقه، أكمل بنفس التوخي: "نحن نصوّر، وأنتَ فقط توافق.." لم يعلّق كثيراً.. فهِم، ولم يفهم، يمكن قول ذلك، يمكن قول الكثير عن نظراته الثاقبة المستفهِمة المندمجة مع الصورة في يده.

كانت كلمة "طيب" التي سمعوها منه، وكأنما فهموها جميعاً نفس الفهم الذي فَهِمَهُ ترجمانُهم، كانت كلمة كافية لبدء العمل. نظر المصوّر إلى السقف وأخْبر الوسيط بضرورة التصوير خارجاً في الشمس، فعادت فرحتُنا من جديد لرؤية ما يحدث أولاً بأول بتفاصيله دون نقصان.


***

خرج الخمسة، وصاحب الدار، صاحب الرِّجْل التي تسحب معها بعض التراب عند السير، وكثيراً ما سحبتْ غبار الأيام من عشرات السنين وراءها – وراء صاحبها.

الشمس رائعةً تختال في جو ِّربيع عَمَر القريةَ بألوان زهور متناثرة في الأماكن الملاصقة للجدران، إذْ لم تطأها الأقدامُ والسياراتُ وأقدامُ صاحبنا.. كانت شمساً زاهية تكاد تتوسط كبد السماء، وبدأت تصْهد رؤوسَنا ، بينما كنا غير مبالين إلا بما يتولّد أمامنا من أحداث.

مشى الجَمْع حتى توسط فناء الدار، اندفعوا خارجين عبر الباب حتى توسطوا مكاناً يصلح للتصوير، ممر واسع يقع تحت دَكّة الجلوس الملاحقة للحصن الأبيض الذي يعلو بيوت القرية جميعها.. ممرّ طالما ذَرَعناه في الأيام والعَصَاري البهيجة ، لا يخلو ألبوم واحد منا – نحن المتفرجين - من صورة بجوار الحصن الذي يبدو خلفية رائعة للتصوير في كلّ الأزمنة .. كأنما وافق رغبتَهم وأُعد لعملهم المشهود هذا.

صاح أحد الشابين بصوت مكتوم كازّاً على أسنانه : "صوّرونا معكم الله يلعنكم" صَرَخ به مشبّب ناهراً إياه: "رُحْ ورا الله ياخُذك.." ضَحِكْنا، ونظر الخمسة إلى بعضهم، وكانت المرأة السبّاقة إلى ابتسامة صافية نزعت توتراً مفاجئاً سرى عبر الوجوه والنظرات .. عاودتِ الجميعَ الرغبةُ في العمل.@

أصلح مشبّب بن عبد الله الرزيقي من شماغ العقل، الشماغ الذي كان طرفاه يعبران فوق الأذنين من اليمين واليسار إلى مؤخرة الرأس فوق أعلى الكتفين.. مع ظهور اهتراء الغسيل واضحاً على الحد الجانبي ذي اللون الأبيض للشماغ الذي لم يخضع لعقال قَطّ !

وكأنّما منذ زمن بعيد، لم يعش اللحظة، منذ أن ذهب لاستخراج تابعية قبل ثلاثة عقود من الأحوال المدنية.. لم يحرك الشماغ ويصلحه كثيراً كهذا اليوم.. الوجه ضارب إلى الحنطة الفاتحة، والأنف مُسْتدقُّ من الأعلى نازلاً فيما يشبه قاعدة المثلث عند الخُنَّابتين، كانت الأسنان عالماً آخر من زحف الزمن عليها بالخلع والثَّلْم واصفرار ما تبقى منها عبر عقود من السنين ،انقضت ولن تعود إلا أنها ما تزال صالحة لسيل من الابتسامات جاد بها اليوم!.

وحدهما العينان، كانتا نافذتَهُ إلى عالمٍ جديد، عالمٍ تصنعه اليدُ الأوربية التي طافت العالم واكتشفت القاراتِ المجهولةَ ، و قلّبتْ ظاهر الأرض وباطنها، ها قد وجدت في ملامح الرَّجُل الذي أوصى بالعودة إليه رَحّالة جَاب الصحاري و أرض الجبال وحطّ هنا في حفل ختان حاشد منتصف أربعينات القرن العشرين.

عملت الكاميرا بإتقان اليد التي أدارتها: صوراً جماعية، ثنائية، صورة خاصة له مع المترجم، مع المرأة الوحيدة في الوفد، قال أحد الشابين بجواري بصفاقة: "حتى هم النساء عندهم قليل مثل مسلسلاتنا". نادوها المسز سميث، تأكد لنا أنها والدة الشاب الأصغر سناً بين المجموعة. كانوا ودودين معها، ما اعتبره الشاب الآخر الواقف معي تكلفاً ومبالغة، مع تلميحات أخرى منه يعتقد أنها تربطها بالمجموعة!.

كانت فاكهةَ الوفد وبَلْسَمه. ظهرتْ فوارق التاريخ والجغرافيا والأنثربولوجيا وصراع البَشَرات، عندما وقفتْ بجوار صاحبنا باسمةً، يدُها على كتفه، وبادَلها يَداً بيد، وكتفاً بكتف! وهواء خفيف يلعب بغُطوة شعرها الملونة بالوردي والأسود، حشمة تليق بها ،كأنما هي لبس دائم لها؛ كان صاحبنا يبتسم للصورة.. لكل الصور الجماعية والثنائية والفردية.

كانت الصور الفردية بطلب خاص من مرافق الوفد، وبشرح محددٍ، هاهو الآن يقف وحيداً: غربُ آسيا في مواجهة أوربا الشمال! دفءُ السروات يستحمّ مع ضباب القارة العجوز، دفء يحيل الصقيع جوّاً متوسطياً رائعاً! رجل واحد يقابل أربعةً وامرأة تدوِّن ملاحظات سريعة في ورقة صغيرة.


الأوربي الذي قاس المسافات شرقاً وغرباً، ليس غريباً أن يقيس مشبّباً طولاً وعرضاً، وجد نفسه لا تحت أضواء الفلاش ،ولا نظرات العيون فقط، بل وتحت تصرّف أنامل الفتى اليافع والسيد جُورج ذي اللحية الكثة القصيرة، قياس لكل شيء، لكل عضو من محيط الرأس وطول اليدين حتى الخصر ومقياس الجَنْبِيّة الفضية التي تشد وسطه وترفع الثوب إلى منتصف الساقين.. كانت الأيدي تقيس وتفحص ، والأنامل تلامس في رفق، وثالث يدوّن كل ما يسمع من أرقام وملاحظات، حتى القدمين تم قياسهما ، ولا أحد يشك الآن، وحتى الغد أن الفريقَ المنتدبَ من متحف الشمع بات يلاحظ التقاربَ الشديد في طول الرِّجْلَيْن، كان تحوّلاً هائلاً في دقائق محدودة.

يدور يميناً ويساراً وعند الطلب، للصورة، للقياس بالمتر (هل استعملوا المتْر أم الإنش؟) كان طائعاً طيّعاً، لكأننا ننظر إلى شخص آخر غير مشّبب الرُّزيقي، الذي ألفناه سنيناً طوالاً.. كان معهم يعطي دون سؤال، يقدم دون طلب.. كانت استدارتُه من جانب لآخر، وتحريكُ رأسه نحو الأعلى والأسفل أو إلى جانب اليمين أو اليسار تأتي كلها سلسةً عفويةً متجاوبةً لأقصى الحدود..

وكان ،رغم قصره النسبيّ ،طوداً يستقبل الشمس شروقاً أو غروباً، فيزداد رسوخاً وثباتاً، ويمر به النسيم مداعباً، أو تَلُوبُ عاصفةٌ فيبقى صخرةً واقفة أمام الفصول والدهور.. كانت أوروبا -أمامنا على الأقل – تقف لجبلٍ واحد على قدمين منذ الصباح وحتى قُرْب الظهيرة.. ويجد صاحبُنا كل مرة ما يقوله: "ماخلصتوا، هاه، كفاية، .. زان والا نعيد..).

" شكراً، شكراً " بادره المترجم، كمن يختم حفلة بهيجة، وبلغة قريبة: الحمد لله" ردّد الجميع "الحمد لله، شكراً جزيلاً" تناوبت الأصوات بالشكر، وجاء صوت الأنثى عذباً بين الأصوات :"شكراً مآ السلامة".


***

غادَرَنا الخمسةُ، المترجُم والسيدة وابنها وجورج وجون، عرفنا أسماءهم من الحديث وتآلفنا مع وجودهم، وهُمْ ربما لو أطالوا البقاء لتكلموا لغة مكسرة نفهمها، حتى قال أحد الشابين معي موجهاً سؤاله لي: "ممكن إنهم عرب.."!

غادروا الرَّجُل مودعين، ونحونا أرسلوا نظراتٍ عابرة، كانت ابتساماتهم شاكرة لدورنا كأدلّاء فضوليين وكمتفرجين مأخوذين بعالمين: عالمِ الغربِ الباحث لدينا عن شيء يفتقده، شيءٍ نملكه ولا نعرف قدره ، ولو ظاهرياً ،وعالم ٍآخر يمكن أن نختصره في نظرات مشبب الجديدة نحونا.

ما إن اختفت سيارتُهم الرانج روفر عبر الشارع العام وصعدوا شمالاً.. حتى التفتَ نحونا بزَهْو، ثم خطا خطواتٍ واثقةً اختفتْ معها عرجتُهُ، وجرّتْ قدماه سنيناً بدت خفيفة يستطيع أن يعود بها ، أو تعودَ به إلى زمن الصورة التي ذكّروه بها ، الصورة التي تأملها منذ قليل. الصور التي أعطوه منها ثلاثاً أو أربعًا، أودعها جيباً داخلياً قرب قلبه الدافىء بالذكريات.

خطوات نشيطة وأقدام مندفعة ، دون أَثَر لما كان عليه قبل ساعة ،قبل سنوات، زَهْو فائض، أعلنت عنه الأعطاف والخطوات, وبِشْرٌ طافح من محيّاه، بشرة صفت في بهاء ، وعينان زايلهما الكَدَر.. كانت خطواته تبتعد عنا شيئاً فشيئاً.

بينما ما زالت حرارةُ مصافحة السادة الأجانب وخصوصاً السيدة سميث ، تشتعل حرارةً في المكان ،وكأنما أطالت المصافحَةَ لتختزن أكبر قدر ممكن من دفء هذا الجبلي لتودِعَه التمثالَ الكامل الذي سيحلّ ضيفاً جديداً على متحف مدام توسو ، تنفيذاً لوصية المرحوم ثيسجر.

خطا مبتعداً عنا ، ورحل الضيوفُ الذين أحزننا رحيلُهم ، لكن الشعور الأصعب لذلك الذي راحت عليه فرصة العمر ، عندما اُكتشف الرجلُ ، وانتهى كل شيء، ولم يبق أمامه إلا أن يبحث عن فكرة جديدة ، حتى ولو كانت وراء الحدود, قريباً من بلاد مبارك بن لندن.**





________________________________

*الجَهْوة: قرية تراثية تقع شرق مدينة النماص ،ويرى عدد من الباحثين أن تحت أنقاضها وبيوتها القديمة القائمة يرقد تاريخ لم يظهر منه إلا القليل.

** مبارك بن لندن هو الاسم الذي عرف به الرحالة وِلفرد ثيسجر المتوفى عام 2003م وقد زار النماص عام1947م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى