سمير لوبه - سفن لا تستريح...

في ظلمة تمحو ملامح المكان ، كتلة بشرية سوداء قابعة في كرسي ، تحاول العينان منها فك شفرة العتمة فيزول العمى ، في مكتبه بين كتبه الموسومة بعناوين شتى ، لم ينس سعيد هنداوي أول شعور بالغرور العذب يسري في دمه ؛ إذ يرى اسمه مطبوعا على غلاف ورقي بائس ، بالنسبة إليه كانت المرة الأولى في يوم بعيد من شهر مايو سنة ١٩٧٠ ، وعمره لم يتجاوز العشرين بعد ، إذ نشرت له أول قصة في جريدة قرأ فيها من اشتراها صبيحة ذلك اليوم في صفحتها الأولى أنه في يوم سبت حزين على العدو نجحت قواتنا في إسقاط طائرة استخبارات للعدو تحمل اثني عشر خبيرا له ، أسرع وهو سعيد يشتري نسخا عديدة ، وراح يعدو في الطرقات يعلو صوت ضربات قلبه على صخب الشارع ، يود أن يخبر المارة أن في ذات الجريدة نشرت قصة هو كاتبها ، يلازمه شعور كلفه روحه ثمنا له ؛ يرافق فقط القلم ، الآن يتلاشى الشعور وهو يرمق تلك الكتب المسجاة على الأرفف في أكفانها ، وعلى بعد ذراع منه يستلقي قلم خامد الأنفاس مثل ميزاب حجري تملؤه أوراق شجر جافة على جريدة تعلن في صفحتها الأولى نبأ قد تكرر مرارا عن تصاعد اعتداءات العدو على القطاع وارتفاع عدد الضحايا من الأطفال . أواه ، كم خط ذلك القلم لغة عذبة في تعبيرها عن أرق المشاعر، وكم مزج بمداده واقعا بخيال ، يفرد أصابعه تحتضن القلم الذي طالما غذاه بمداد من دمه ، كل كلمة خطها به قد دفع ثمنها بعضا منه ، طوال رحلته كان فقط القلم رفيقا ، ينزوي على كرسيه وبين أنامله قلمه يحاول أن يخط به على الأوراق كلمات فلا يزرف القلم مدادا ، تفحص عيناه من خلف زجاج نظارته الغليظ سن القلم ، يأمل أن يروي مداده أوراقا تشققت فتزهر ، يستعصي عليه الأمر يعيد الضغط بقوة ينكسر السن ، فإذا بلطمة تصافح خده بقوة ، يأتيه من أقصى دروب الذكريات عبق من غاب عنه في رحلته مع القلم ، باتت الذكريات باهتة ، فقدت ألوانها تدريجيا ، تلمح عيناه دليل الهاتف المترب فيفرج صدره عن زفرة حارة ، يقلب صفحات استحالت لاصفرار، يبحث فيها عن اسم قد يعينه الدليل على استدعائه من طيات النسيان ، يجد اسما كان وحده من شاركه أفراحه ، تتماهى روحه مع الذكريات الباهتة فتعود أحداثها حية يعيشها الآن ، يستفيق من شروده للمرة الأولى في رحلة صمته الطويل الذي كابد فيه السفر الشاق ، يعتريه شعور لم يذق له طعما من قبل ، لم يعد ها هنا ما يقيده ‏، بعبارة أخرى لا يريد من الأقلام شيئا بعد الآن ، يمد يده للهاتف ، ينفض ترابا تكدس على السماعة ، يغمس اصبعه في فتحات قرص دوار يديره ، فلم ينتظر وبلهفة متلعثما يسأل :
- أستاذ سعيد هنداوي موجود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى