خولة السعيد - تاكسي...

جميل..!! المكان خلف سائق الطاكسي فارغ... هنا على الأقل أفضل من المقعد الخلفي الأخير، جلست راضية منتظرة أن يأتي بقية الركاب المتجهين إلى حي حمرية، تترقب الساعة.. لا بأس؛ فراضية اعتادت الخروج باكرا حتى تصل عملها وتأخذ نفسا ترتاح به قبل أن تبدأ جدية العمل، الوقت إذن يبدو كافيا وإن كانت ما تزال تنتظر الآن راكبا واحدا بعد أن صعد اثنان وجلسا معا بالمقعد الخلفي.. تتأمل الركاب، تلك التي بجوار السائق، تقلب صفحات هاتفها، وتنتقل في صمت من الواتساب إلى الفايسبوك، ومنه إلى محادثة عبر الميسانجر، ثم فكرت راضية في أن هذا قد يسمى تجسسا، لن تنظر الآن إلا ناحية النافذة حتى لا تكون من الجواسيس، ولكن شيئا منها يتحسس، فإن كانت شغلت عينيها بالنظر إلى الشارع فإن أذنيها انتقلتا انتقالا كليا إلى الرفيقين خلفها:
_ زيت الزيتون التي تذوقتها عندك ، فيها حلاوة لذيذة، لم أذق زيتا بهذه الروعة قبل اليوم ..
_ وأنا أيضا أعجبتني؛ اشتريتها من شخص ذكره لي أناس كثر، لكن يبدو أني سآخذ منه مرة أخرى..
_ سأذهب معك حينها إذن.. فبعد ارتفاع ثمن الزيت النباتية، ربما لن نستعمل غير زيت الزيتون وذلك أفضل لصحتنا أيضا، ونرجو الله لطفه ورحمته.
ويقول الآخر: اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

وهي تسمع حديثهما انتبهت إلى السائق يحرك مقود السيارة أخيرا، التفتت يمينها، فإذا برجل بجانبها، وعادت لترى الشوارع تتحرك خلف زجاج النافذة، والسيارات والحافلات تتسابق، السائق شغل المذياع ولكن صوت الرجلين يفوق الأخبار بالمذياع الذي تتناثر منه إلى أسماعها فقط بعض كلمات..(رئيس الحكومة... الرباط.. اقتصادية..) لم تفهم شيئا من تلك الكلمات المتناثرة كشظايا عبر أثير الإذاعة الوطنية. انتقلت بأسماعها مجددا إلى الركاب، يأخذ الذي بجانبها هاتفه، يتصل بابنه، يسأله إن كان تغذى، وإن كانت أمه ذهبت عند أختها أم أنها ما تزال بالبيت، ثم يتفق معه أن يلتقيا بعد نهاية المباراة التي سيذهب لمشاهدتها بمقهى النخيل رفقة أصدقائه، وألا ينسى شيئا من أغراض الحمام في الحقيبة التي عليه أن يأخذها معه للقائه أمام حمام الأسرة الساعة السابعة مساء.
وما يزال صاحبانا بالخلف يتحدثان في مختلف المواضيع فبعد زيت الزيتون يتفقان على صيام أيام من شهر رجب الذي يطرق أبواب جمادى الآخرة، وينتقل الحديث إلى أنواع السيارات وأثمان بعضها مستعملة وغير مستعملة، وراضية تتأمل زحمة الطريق أيضا خاصة من حي زين العابدين إلى روامزين مرورا بساحة الهديم، وتقول في نفسها لو أنها اختارت المشي بدل التاكسي لكان أفضل؛ رياضة واستنشاق هواء، وربح ثمن أجرة التاكسي. وعلى مسامع الراديو فجأة تصدح موسيقى خفيفة، فيهمس صاحب سيارة الأجرة مرددا كلمات " يا لطف الخافي الطف بنا فيما جرات به القدار"، لكن صوتا من الخلف يأتيه: هذه قصيدة " الغزال فاطمة" وليست " يا لطف الله الخافي"، ويؤكد ذلك راكب آخر طالبا من صاحب سيارة الأجرة أن يضاعف صوت الراديو، تتأمل راضية ملامح الفتاة الأمامية فإذا بها تخفي ابتسامة، وتلحظ فرحة سماع الموسيقى الجميلة على نبرات أصوات الراكبين المؤكدين اسم " القصيدة"، أما صاحبتنا فتكاد تطير فرحا وهي تسمع أنغام الملحون بعد أن ملت الطرقات العامرة، والتاكسي الذي بالكاد يتحرك في هذه الأجواء المكتظة والمزدحمة، وشعرت بأن هذا الطرب الأصيل ما زال يحتفظ لنفسه بعشاق، ومع صوت الحسين التولالي، ترددت بهمس جميل أصوات الركاب :

" أ رحمي يا راحة لعقل ترحامي من جفاك طال سقامي

كيف نبقى حاير وانت مسليا

روفي يا لغزال فاطمة

أمولاتي الحب والهوى والعشق ونار الغرام

من حالت الصبا فعضايا قاموا كل واحد دار مقامو"

وقبل أن يقول الحسين التولالي :
"فمهجتي وضحى بحسامو مع سهامو" قال الصديقان بالخلف: " هنا سننزل رحم الله والديك"، وتوقف صاحب السيارة لثواني معدودات فالمناسبة كانت أيضا إشارة المرور الحمراء أمام السوق المركزي حمرية، وقبل أن يغلق الصديقان الباب نزل الذي بجانب راضية كذلك، وصعدت فتاة دون أن تستأذن صاحب التاكسي أو تسأله عن اتجاهه، تعجبت صاحبتنا، ونظرت إلى هذه الوافدة باستغراب وقررت أن تكمل استمتاعها بالملحون، وإذا بالسائق يسألها: " إلى أين أنت ذاهبة يا آنسة؟" فردت باسمة: " حي قدماء المحاربين"

_ ولكني لست ذاهبا إلى هناك، لن أتجاوز فندق وليلي بحمرية، أ ليس لك لسان تسألين به قبل صعودك يا فتاة؟ ..

_ بلى ، ولكني لم أعد قادرة على الكلام...

_ وهل هذا يفسر أنك قد تركبين مع أي شخص قد يقف أمامك بسيارته، ما تزالين شابة يا صبية، حاولي ألا تفقدي همتك وحيويتك".

ولكن الفتاة تزيد الطين بللا بكلماتها، خذني إلى حيث أنت ذاهب المهم ألا أبقى هناك، تعبت وأنا واقفة بالمكان ذاته منذ مدة أنتظر حافلة أو سيارة أجرة طريقها قدماء المحاربين، لكن دون جدوى...

أوقف السائق فرامل السيارة ثم قال لها:

_ " انزلي هنا إذن، ها قد غيرت مكان وقوفك، ومرة أخرى حاولي أن تسألي قبل الصعود ".

نزلت المسكينة من التاكسي، وانفجرت راضية والفتاة الأمامية بالضحك، والسائق يتحدث وحده، و يتساءل كيف أن فتيات اليوم أصبحن عاجزات عن كل شيء حتى عن الكلام، أو السير خطوات إلى الأمام، وتسمع راضية صوت الفتاة أول مرة وهي تقول:

_ " لا تعمم يا سيدي أرجوك، لسنا كلنا كذلك".

وإذا باتصال هاتفي يأتيها ترد عليه، فتخبر المتصلة أنها قريبة، فقط عليها الانتظار أمام مطعم حراء، يبتسم السائق ثم يقول بلهجة تأكيد:

_ " أ لم أقل إنكن عاجزات عن كل شيء؟! لم تعدي غذاءك لا أنت ولا صديقتك، ستتغذيان بمطعم".

وراضية دمعت عيناها من الضحك الخفي رغم محاولاتها كتمانه، وإذا بالسائق يحاول سؤالها أيضا لتؤكد له كسل بنات اليوم، لكنها سارعت وقالت:

" أرجو أن تجد لي مكانا أمام ساحة نيم سهل الله أمورك " .

_تتهربين إذن..

ابتسمت؛ نزلت من السيارة وأصداء الضحكات المكتومة تداعب وجنتيها ولحن " أرحمي يا راحة يتغزل بابتسامتها"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى