منى محمد صالح - عُبُورٌ آخر لِلذَّاكِرةِ

هل يمكن للحب أن يغيرنا بهذا العمق؟
تساءلت وهي تنظر إلى الغرفة الصغيرة حولها، عيناها تحتضنان الليل الممتد وحيدا عبر النافذة، لم يعد الحنين وحده كافيًا لإبقاء ما كان بينهما، كأن الحب صار قدراً يعبر خطواتها الثقيلة، يلاحقها دون هوادة. كان كل شيء يعود بها إليه، ظله المتسع على جدران الغرفة، صوت الرياح الخافت يتسلل عبر النافذة المفتوحة قليلًا، يرافقها كهمسٍ قديم.
"يُعيدني إليكَ باستمرار، وكأنني بلا خيار."
بعيدًا، كانت أصوات الحياة تتلاشى، وكأن الشارع والمدينة بأسرها قد غرقا في صمت مطبق .

كانت تغرق في عينيه، ذلك النداء الذي يربكها دائمًا، يتردد داخلها مثل صدى بعيد، تعب الأسئلة، وصوته القابل للعناق لم يفارقها أبدًا.
حتى في صمتها، ظل حضوره الحنون يحيط بها وكأن الهواء الهواء محمل بأثرٍ خفيفاً منه.
افترقا تحت ستار الليل، مثل غيمةٍ تبحث عن ملاذ في سماءٍ بعيدة، حين غابت الشمس ببطء خلف الأفق، والليل يأخذ بيده ستار حكايتهما التي لم تكتمل. كانت تكابد مشقة الشوق إليه، كما يكابد المرء سرابًا في الصحراء.
"كيف لقلبٍ أن يحمل وحيداً ظمأ ارتعاشه؟"

رسائله كانت تنتظرها هناك، على الطاولة الخشبية القديمة، الأسئلة الغارقة في قلبها، الشوق الذي لم يجرؤ على الاعتراف بفراقهما، متاهة تخفي نهرًا عميقًا، والوقت يتسرب ببطء بينهما، كأنه ساعة رملية لا نهاية لانسيابها.
"هل الزمن هو الذي خانني؟ أم أنا من سمحت له بإبتلاعي؟"
الحنين كان يتسلل إلى ملامحها رغمًا عنها، عبثًا تحاول أن تخفيه.
جلست "أرهيت" في زاوية الغرفة، قرب نافذة صغيرة تُطل على شارع يؤدي إلى ممرٍ طويل مواجه لباب المنزل. ضوء الشارع الباهت يتسلل، يملأ المكان، في يديها رسائله، التي لم تستطع نسيانها
"أتمسك بها كأنها آخر الأغنيات، وكل ما حدث بيننا."
كلما حاولت الابتعاد، تعود الرسائل وأحاديثهما لتطلّ من زوايا الذاكرة، تتنفس حضوره، تختبئ في كل همسة ريح، أو التفاتةٍ تسكن قلبها.
في الغرفة تسللت إضاءة خافتة من المصباح على الطاولة الخشبية، تاركة ظلالًا على الجدران، إحساس ضبابي يغمرها، وكل شيء يتلاشى كما تلاشت أيامها معه.
"كيف يمكن لأيامنا أن تنزلق هكذا، بعيدة وموجعة؟"

تتكاثر الأسئلة، تتسرّب مثل حبات الرمل من بين أصابعها، تُعيدها دائمًا إلى مسافات لم تعد تعرف كيف تعبرها.
- كم مرة ترددتُ على عتبات الوداع؟
أومأت لنفسها، وتساءلت إن كان كل شيء مجرد حلم. كان الحب يلفها مثل معطفٍ قديم، يثقل كتفيها بالدفء والحزن في آنٍ؛
"كيف افترقنا وغادرتنا تلك الأغنيات!"
تذكرت مناداته لها بأعذبِ الأسماء. أغمضت عينيها وابتسامة ناعمة تلامس شفتيها. كان همسه يغازلها، يطرق باب عزلتها المرة تلو الأخرى:
"أرهيتاتيت"، نجمتي الشاردة."
ردت بهدوئها المعتاد؛
- وأنا التي نال مني الحزن ما يكفي
" ماذا لو كان للقلب جناحين! "
ناداها من جديد، دفئٌ يشعل حرائقه:
- أرهيتايت
وحده، كان يُناديها بهذا الاسم، كأنه همس الرياح في ليلةٍ باردة، تغرق معها، وذلك الشعور الذي لم يغادرها، كان هناك حاضرا بجلال غيابه.
ابتسمت، وهي تغمض عينيها للحظة، تستعيد لحظاتهما الحميمة معًا. دفءٌ ينساب كخيوط الفجر في صباحاتهما الكسولة.
لماذا عادت تلك اللحظات الآن، ما الذي كنت أبحث عنه طوال هذا الوقت؟"
تتسع متاهة الأسئلة، تبتعد عن نفسها مع كل عناق، بحثاً عن إجابةٍ لا تعرفها.
"لم يعد هناك ما يدعو للقلق."
قالت لنفسها، محاولة تهدئة العاصفة التي لم تهدأ منذ افتراقهما.
"ليت الأمر بهذه السهولة."

شعرت بأن كل شيء قد تغيّر بطريقة ما، لم تدركها، كأن يدًا خفيّة أعادت تشكيل ملامحه، وبات جسدًا جديدًا يسبح في بُعدٍ آخر.
هل أنا التي تغيرت، أم أن العالم تغيّر"؟
لم تكن تعرف كيف تحتوي هذا الدفء الذي يعود إليها دائمًا بألمه وحنينه. كل ما كانت تخشى مواجهته، تكشّف أمامها دفعةً واحدة.
"لم يعد هناك ما..."
تعثرت الكلمات بين شفتيها، وشعورٌ غريب يتسلل إلى داخلها، أقوى من ذي قبل.
- كيف أنسى هذا الدفء؟
وصمتت قليلًا؛
- يبدو أنني لم أكن أهرب إلّا.. منكَ.
أخذت نفسًا عميقًا، شعرت ببرودة الهواء تلفح وجهها، تركت قلبها ينساب مع النداء الذي يُربكها دائمًا ويعود بها إليه:
"أرهيتايت."
صوته يتغلغل في دمها، عذبًا وآسرًا بالدفءِ، حنوٌّ يطوف بها، وبعشقِ امرأة تشعل زند قلبه، كأنما شدو يراقص تصاعد أنفاسهما معًا.

نظرت إلى الطريق البعيد عبر النافذة. كانت تعلم أن الصمت يحمل معه أكثر مما يظهر، وأن المسافات بينهما لم تعد كما كانت.
بخطواتٍ هادئة، قررت أن تسلك طريقًا جديدًا. ضوءٌ شفيفٌ أشرق على وجهها، ابتسامتها الخجولة زيّنت ملامحها مثل صباحات الربيع، وهي تمشي بخفةِ فراشةٍ تحررت من عبء الأرض.
إلتفت أرهيت نحو المرآةِ للمرة الأولى منذ زمنٍ طويل، تحدق في نفسها، موجةٍ تعبر بها نحو ضفةٍ أخرى مكانٍ مألوف لا يخطئه القلب، توهجت ملامحها، شعرت أن قلبها أصبح خفيفًا.
"كل شيء قد انتهى... أو ربما، لم يبدأ أبدًا."
جاء صوتها مسموعا هذه المرة، وأدركت فجأة أن كل ما كانت تبحث عنه كان موجودًا هنا طوال الوقت، ثابتًا مثل سنديانة تُزهر بأحزانها الصغيرة.
تلمّست حافة النافذة، وتنفست بعمق، الهواء البارد، أخذت أرهيت خطوة واحدة للأمام، لطالما ترددت في اتخاذها، باغتها ذلك الشعور جليًّا وساطع، قبل أن تستدير وتمضى بخطواتٍ هادئة نحو الخارج، تاركة وراءها كل شيء.
اتسع المكان باحساسٍ مختلف، شيءٌ أعمق من الشوق وأقوى من الذكرى، وصوتٌ خافت يتسلل إلى قلبها دافئاً مثل أغنية قديمة ما زالت تتردد في أعماق قلبيهما:
- نعم، كنا نعود، كنا دائمًا نعود... إلّا هذه المرة.

7 إكتوبر 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى