هي لا تحب الانتظار، وتذكرة القطار التي أدت ثمنها قبل ثوان سجل عليها أن القطار سيصل على الساعة العاشرة واثنتين وعشرين دقيقة، والساعة الآن تشير إلى التاسعة وسبع دقائق، فكرت؛ أ تلج قاعة الانتظار وتفتح كتابها كي لا تحس بالملل؟! أم تأخذ مذكرتها، لتسجيل ما يمليه عليه خاطرها من كلمات، أيا كانت " خواطر، شعرا، زجلا، قصة، فكرة ما "... أي شيء، المهم ألا تحس بالملل الذي بدأ كأنه يدب إليها وهي تنظر إلى الساعة على هاتفها.
إذن تأخذ الهاتف وتتصفح بعض المواقع.
ترددت ثم رأت أنها ستظل جالسة مسافة طويلة بالقطار من مكناس إلى مراكش، إذن لا داعي لتجلس، ستخرج من المحطة وتتمشى قليلا، فلا يعقل أن تضيف أكثر من ساعة لحصة الجلوس انتظار ، على ما يناهز ست ساعات بالقطار. اعتادت حبيبة ألا تثقل رحلاتها بأمتعة كثيرة، خاصة حين يكون السفر سفرا قصيرة مدته، والأكثر من ذلك حين تسافر وحدها، لهذا كانت حقيبة ظهر كافية هذا اليوم مع حقيبة يدها التي لا ترضى بها إلا كبيرة، حتى تأخذ بها هذا الكتيب وذاك، وتلك المذكرة، وهذه المجموعة من الأوراق والأقلام، هذه الأشياء هي أنس طريقها ووحدتها..، أما الآن؛ فهي تريد أن تتحرك حتى لو كانت السماء ترسل غيثها مدرارا.. تعشق حبيبة المشي تحت زخات المطر، بل أحيانا يمكن أن تراها تجري وتقفز كضفدع من هنا إلى هناك ، إلا أنها أكثر رشاقة حتى من الغزال، أزالت الحقيبة من ظهرها ومعطفها، لتلبسه بعد أن تضعها هي أولا كي لا تبتل...
لم يكن من عادة حبيبة أن تحمل المظلات ، لذلك فهي مستعدة دائما لأن تغتسل بماء السماء، تشعر بالطهارة، والزخات تداعب خديها ، تقتحم حجابها، لتخترق شعر رأسها، ياللسعادة! ستستنشق رائحة التراب الممتزجة بالماء! سيلامس هذا الغيث أنفها، ستخطو كل خطواتها وهي تضحك في سعادة ، تشعر بالآية القرآنية الكريمة : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاس أَمَنَة منْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم منَ السَّمَاءِ مَاءً ليُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} - الآية 11. سورة الأنفال.
صدق الله العظيم.
بدا لها كأن النعاس هو ما كانت ستحسه من ملل إن ظلت قابعة في قاعة الانتظار، وماء السماء هو تلك الفرحة والطهارة التي تحسها دائما، في مثل هذه الأجواء، هو صدقة ،أو هو زكاة السماء، بل هو أعظم من ذلك ؛ هو هبة من هبات الله تعالى ...
بدأت تسير ، وبدأت الزخات مغازلتها ومداعبتها، وتعود حبيبة طفلة تغني:
" أشتا تا تا تا تا
أ وليدات الحراثة
أ المعلم بوزكري
طيب لي خبزي بكري"
وتبتسم، فتحضرها فيروز ؛ " رجعت الشتوية ظل افتكر فيي" ، " شتي يا دنيي تا يزيد موسمنا و يحلا و تدفق مي و زرع جديد بحقلتنا يعلا" وعلي الحجار: " لما الشتا يدق البيبان" ... ثم تنتبه للساعة ، لا بد أن موعد وصول القطار اقترب ، تنتبه بمحل تجاري إلى ساعة يد تغريها لشرائها فلا تتردد، دون أن تنسى مساومة البائع على ثمنها، قبل أن تتجه مسرعة نحو المحطة وهي تردد: " إلى اللقاء لالة مكناس، سأعود إليك قريبا، سأتركك ريثما تشتاقين إلي، لأني أعرف أنك سريعا تشتاقين إلي" . ويصل القطار، فتستقبله بحفاوة، تعود لتتأكد من تذكرة السفر.. رقم العربة والمقعد، وحين تدرك مجلسها ، مباشرة تتجه بعينيها نحو النافذة. تحب حبيبة أن تتأمل مكناس من نافذة القطار، تنظر إلى شارع بحمرية أو البرج، فينتقل وعيها ليرى كل مكناس ، الأميرة مكناس تبدو كلها في لحظة واحدة بين عينيها ، ويبتعد القطار وتبدأ خضرة الطبيعة ، وتظهر الشمس خفيفة ، يدخل القطار النفق.. هذا النفق الصغير يعتبر كمنبه لحبيبة ، كلما وصله القطار ، تنتبه كمن استيقظ مذعورا، فتفتح حقيبة يدها لتأخذ كتابها.
كانت قد بدأت بقراءة رواية " أبو حيان في طنجة" للكاتب المغربي بهاء الدين الطود، راقها أسلوب كاتب الشمال _ مدينة القصرالكبير _ الذي أعاد بعث أبي حيان وجعله مهاجرا سريا لا يدرك شيئا عن مكانه أو زمانه، ليلتقي بمحمد شكري فجأة ، وهنا تأخذها اللهفة لمواصلة القراءة، ترى ماذا يمكن أن يحصل بين مكانين.. زمانين ... كاتبين ، لكل منهما ميولاته الأدبية.. ؟!
ويبدو لها أنها تنغمس في القراءة، لكنها عندما حاولت تعديل جلستها انتبهت إلى السيدة التي تجلس أمامها، فقد كانت هي الأخرى تحمل بين يديها رواية " لو سلمتك قلبي" . ابتسمت حبيبة حين رأت ذلك، وحاولت أن تعود لأبي حيان، ولكنها كانت بين الفينة والأخرى تختلس النظرات، باحثة عن تعبيرات وجه السيدة الجالسة أمامها وهي تقرأ، لكن دون جدوى، لا يبدو عليها تأثر لا بابتسامة ولا بعكسها، كأن وجهها موضوع بمجمد. وعادت حبيبة لشكري وهو يحرض أبا حيان على الهرب ليلا من الفندق ، لكن سريعا ما رن الهاتف بأغنية جوليا بطرس: " لو سلمتك قلبي" ، فيذوب الجليد الذي كان على وجه السيدة ، وتبدأ عيناها في تأمل حبيبة وهاتفها.
أنهت المكالمة وأعادت الهاتف إلى جيب المعطف ثم أحكمت إغلاقه..، وعادت لشكري وأبي حيان، ومرة أخرى يطرأ ما يمنعها عن متابعة القراءة، لقد تحرك الجماد في وجه السيدة التي أمامها، ونطقت مع ابتسامة مستغربة:
_ سبحان الله؛ أنا أقرأ رواية: لو سلمتك قلبي، وأنت رن هاتفك بأغنية لو سلمتك قلبي..
تبتسم حبيبة، وتتساءل؛ كيف يمكن أن ترد على هذه السيدة؟
وتحل تساؤلها السيدة وهي تضيف: " الغريب في الأمر ، أن العنوان لا علاقة له بالرواية مطلقا، رغم عبقرية الروائية في سرد الأحدث بتقنية جميلة وأسلوب مثير ومشوق"
* لماذا؟
- إنها تحب البطل كثيرا، حتى إن الصبايا اللواتي تعرفهن يغرن منها ، ومن حبيبها..
يتدخل فتى بقربهما كان يتابع الحوار:
+ لا شك أنك لم تصلي بعد للورقة الأخيرة، إنها جوابك عن علاقة العنوان بالرواية
- لكن العنوان يجب أن يرتبط بالنص ككل
+ هو كذلك وإن بدا لك العكس ، وحين تنهين القراءة ستتأكدين من قولي..
- حسنا ، قد أوشكت الوصول للورقة الأخيرة، أثرت فضولي
ظلت حبيبة متابعة بانتباه حوارهما، ودت لو أنها تشاركهما إياه، لكنها كانت سعيدة بكلامهما ، وسعيدة أكثر بأن على هذه الأرض ما ومن يستحق القراءة، ثم التفت إليها الفتى سائلا:
+ عذرا سيدتي ؛ أراك مهتمة أيضا بالرواية، هل قرأت " لو سلمتك قلبي" ؟ يجب أن تكوني قد قرأتها ما دامت أغنية يرن بها هاتفك.
وبابتسامة تبدو سعيدة ردت:
*نعم ؛ قرأتها ..
+ ومن أي فريق أنت ؟
* لتكمل صاحبتنا القراءة أولا، حتى نرى إن كانت ستغير وجهة نظرها أم لا، يبدو لي أنك أغريتها، أكثر من الكاتبة، تبقى لها فيما أحسب ثلاث ورقات.
أما صاحبتنا قارئة " لو سلمتك قلبي" تبدو غارقة في الكتاب، منغمسة فيه، لم تنبس ببنت شفة أثناء حديثهما، والفتى استدرك قائلا لحبيبة:
+ أنا لم أقصد من الفريقين شخصي وهذه السيدة، لكني أسألك بصفتك قرأت الرواية ، هل أنت مع أن تعيش جويرية واقعها كما ظنناه نحن كقراء ، وكما جعلنا معارفها نراه، أم مع أفكار جويرية التي فاجأتنا بها أخيرا ، لنعلم أن كل الحب الذي قرأناه كان منها وإليها؟
لم تكن حبيبة تتوقع أن يطرح عليها الفتى هذا السؤال، وقد أخبرته بذلك صراحة وهي تقول:
* ملامحك توحي بصغر سنك، لذلك فقد فاجأتني بسؤالك الذي لم يكن منتظرا، كما لم تنتظر أنت النهاية التي صرحت بها جويرية
- لا تغتري بطفولتي فإني قارئ نهم
* أعتقد، ليس من حقي الرد الآن قبل أن تنهي صاحبتنا القراءة، لعلها وصلت للورقة الأخيرة.
+ حسنا، وإن كنت لاحظت أن لك الأفكار ذاتها، لأن الورقة الأخيرة لم تفاجئك كما فاجأتني .. لا أعتقد أن كل أنثى تشبهك إلا جويرية
ابتسمت حبيبة، وأدركت أنه التقط إشارتها " كما لم تنتظر أنت النهاية التي صرحت بها جويرية"
صاحت السيدة :
_ فعلا مفاجأة؛ أنهيت الرواية، واو!!! انتظروني حتى أستفيق من هول الصدمة، إذن ؛ كل ما كانت تفعله جويرية كان منها وإليها؟! والله أحييها، ليتني مثلها، جنس الرجال، جنس ...
انتبهت إلى أن العربة فيها خمسة رجال، أما الجنس اللطيف فلا يوجد غيرها وحبيبة، وتابعت كلامها :
_ جنس خشن، جويرية كأجمل وردة جوري، كانت تهدي الحب لنفسها، الكلمات والورود ، كانت سعيدة دائما، تسافر باستمرار وحدها فيظنها الجميع مع حبيبها، ويعتقد الكل أن علب الشوكولاطة وباقات الورود واللوحات التي تزين بها غرفتها ، والرسائل الموزعة هنا وهناك، والكلمات المشتتة هنا وهناك، من حبيبها، ولم يكن كل ذلك إلا منها وإليها ، حتى الرسالة التي وصلتها عبر ساعي البريد كانت منها وإليها..
حينها ردد اثنان من المسافرين في وقت واحد:
• حمقاء !
نظرت إليهما حبيبة ، وقد توردت خداها ، وسأل مسافر آخر إن كانت هذه هي المفاجأة ، فرد الصبي :
+ نعم، والأكثر من ذلك أن القارئ ما كان سيدرك الأمر ربما لولا ذاك الرجل الذي أحب جويرية بجنون ، ولم تستطع حبه،لا لأن لديها حبيب، بل لأن ما تعيشه جعلها ترى ألا أحد يمكن إسعادها كما تسعد هي نفسها، حتى إنها تعيش حالات الخصام والعتاب، تلعن الحب تارة ، وتعشقه أخرى، تعيش حبا جنونيا مع نفسها ، وتقول لصديقتها التي عاتبتها حين رفضت حب محبها: ألا تستحق أنفسنا منا أن نحبها؟! ألا تستحق منا الاهتمام؟! ألا تستحق أن نقول لها كلاما جميلا، ونسعدها بالهدايا ؟! هو لم يعجبني رغم كل شيء، علي أن أحبه أولا ، فما وصل بيننا كهرباء ولا مغناطيس..
ويعود أحد الركاب للسؤال: وذاك الرجل ماذا فعل؟ ظل يحبها رغم أنها لم تحبه؟؟
+ ظل يحبها مع أنها أسمعته الأغنية، وقد سجلت الكاتبة كلمات الأغنية في آخر الرواية؛ أ يمكن أن تقرئيها لنا سيدتي؟ (موجها خطابه لمن تحمل الرواية بين يديها)
بدأ يردد بعض المسافرين مازحين: جويرية تعاني عقدا نفسية ، ومحبها مجنون مجنون مجنون، لو قرأت له أمه الفنجان من قبل لأدرك أنه لابد مفقود مفقود مفقود،
ابتسم أحدهم وكان صامتا طيلة الحوار ثم قال:
" ويلا مات يموت حلال ... مسكين ... شهيد"
ويرد المسافرون الآخرون: مسكين ... شهيد
ظلت حبيبة تضحك، وسرها ما خلقته الرواية من متعة ومرح رغم سخريتهم من المحب وجويرية...
أقسم أحد المسافرين أن يبحث عن الرواية لقراءتها بعد هذا النقاش، وهذا الجمال الذي أثارته في نفوسهم: فسأل عن اسم الكاتبة؛ليجيبه الفتى بسرعة البرق : حبيبة الغواص.
أخذ أحدهم هاتفه، وهو يقول، ويبدو أنها غاصت بالقراء في بحر الحب بروايتها هذه، ثم بدا متفاجئا وهو ينظر إلى حبيبة الراكبة معهم، وصاح:
° أنت هي؟! ، انظروا إنها هي نفسها بالشيخ Google
تبتسم حبيبة وتعبر عن سعادتها بهذه الرحلة، وعن فرحها بآرائهم ومناقشاتهم شاكرة إياهم، يسعد الفتى، ويقول :
- حتى لو كنت جويرية فأنا سأقوم لأعانقك وأمنحك قبلة من محب صغير، قرأك، ولتعلمي أنه رغم النهاية التي حيرتني فلم أعرف ، أ أوافق جويرية أم أخالفها ، إلا أني صرت أحمل روايتك معي دائما، والآن مع القبلة توقيع منك بالرواية..
يضحك الجميع ويصفقون ، ويشغل أحدهم أغنية : لو سلمتك قلبي، فيرددوها وهم يقرأون كلماتها بالرواية أو على هواتفهم عبر النت.
إذن تأخذ الهاتف وتتصفح بعض المواقع.
ترددت ثم رأت أنها ستظل جالسة مسافة طويلة بالقطار من مكناس إلى مراكش، إذن لا داعي لتجلس، ستخرج من المحطة وتتمشى قليلا، فلا يعقل أن تضيف أكثر من ساعة لحصة الجلوس انتظار ، على ما يناهز ست ساعات بالقطار. اعتادت حبيبة ألا تثقل رحلاتها بأمتعة كثيرة، خاصة حين يكون السفر سفرا قصيرة مدته، والأكثر من ذلك حين تسافر وحدها، لهذا كانت حقيبة ظهر كافية هذا اليوم مع حقيبة يدها التي لا ترضى بها إلا كبيرة، حتى تأخذ بها هذا الكتيب وذاك، وتلك المذكرة، وهذه المجموعة من الأوراق والأقلام، هذه الأشياء هي أنس طريقها ووحدتها..، أما الآن؛ فهي تريد أن تتحرك حتى لو كانت السماء ترسل غيثها مدرارا.. تعشق حبيبة المشي تحت زخات المطر، بل أحيانا يمكن أن تراها تجري وتقفز كضفدع من هنا إلى هناك ، إلا أنها أكثر رشاقة حتى من الغزال، أزالت الحقيبة من ظهرها ومعطفها، لتلبسه بعد أن تضعها هي أولا كي لا تبتل...
لم يكن من عادة حبيبة أن تحمل المظلات ، لذلك فهي مستعدة دائما لأن تغتسل بماء السماء، تشعر بالطهارة، والزخات تداعب خديها ، تقتحم حجابها، لتخترق شعر رأسها، ياللسعادة! ستستنشق رائحة التراب الممتزجة بالماء! سيلامس هذا الغيث أنفها، ستخطو كل خطواتها وهي تضحك في سعادة ، تشعر بالآية القرآنية الكريمة : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاس أَمَنَة منْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم منَ السَّمَاءِ مَاءً ليُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} - الآية 11. سورة الأنفال.
صدق الله العظيم.
بدا لها كأن النعاس هو ما كانت ستحسه من ملل إن ظلت قابعة في قاعة الانتظار، وماء السماء هو تلك الفرحة والطهارة التي تحسها دائما، في مثل هذه الأجواء، هو صدقة ،أو هو زكاة السماء، بل هو أعظم من ذلك ؛ هو هبة من هبات الله تعالى ...
بدأت تسير ، وبدأت الزخات مغازلتها ومداعبتها، وتعود حبيبة طفلة تغني:
" أشتا تا تا تا تا
أ وليدات الحراثة
أ المعلم بوزكري
طيب لي خبزي بكري"
وتبتسم، فتحضرها فيروز ؛ " رجعت الشتوية ظل افتكر فيي" ، " شتي يا دنيي تا يزيد موسمنا و يحلا و تدفق مي و زرع جديد بحقلتنا يعلا" وعلي الحجار: " لما الشتا يدق البيبان" ... ثم تنتبه للساعة ، لا بد أن موعد وصول القطار اقترب ، تنتبه بمحل تجاري إلى ساعة يد تغريها لشرائها فلا تتردد، دون أن تنسى مساومة البائع على ثمنها، قبل أن تتجه مسرعة نحو المحطة وهي تردد: " إلى اللقاء لالة مكناس، سأعود إليك قريبا، سأتركك ريثما تشتاقين إلي، لأني أعرف أنك سريعا تشتاقين إلي" . ويصل القطار، فتستقبله بحفاوة، تعود لتتأكد من تذكرة السفر.. رقم العربة والمقعد، وحين تدرك مجلسها ، مباشرة تتجه بعينيها نحو النافذة. تحب حبيبة أن تتأمل مكناس من نافذة القطار، تنظر إلى شارع بحمرية أو البرج، فينتقل وعيها ليرى كل مكناس ، الأميرة مكناس تبدو كلها في لحظة واحدة بين عينيها ، ويبتعد القطار وتبدأ خضرة الطبيعة ، وتظهر الشمس خفيفة ، يدخل القطار النفق.. هذا النفق الصغير يعتبر كمنبه لحبيبة ، كلما وصله القطار ، تنتبه كمن استيقظ مذعورا، فتفتح حقيبة يدها لتأخذ كتابها.
كانت قد بدأت بقراءة رواية " أبو حيان في طنجة" للكاتب المغربي بهاء الدين الطود، راقها أسلوب كاتب الشمال _ مدينة القصرالكبير _ الذي أعاد بعث أبي حيان وجعله مهاجرا سريا لا يدرك شيئا عن مكانه أو زمانه، ليلتقي بمحمد شكري فجأة ، وهنا تأخذها اللهفة لمواصلة القراءة، ترى ماذا يمكن أن يحصل بين مكانين.. زمانين ... كاتبين ، لكل منهما ميولاته الأدبية.. ؟!
ويبدو لها أنها تنغمس في القراءة، لكنها عندما حاولت تعديل جلستها انتبهت إلى السيدة التي تجلس أمامها، فقد كانت هي الأخرى تحمل بين يديها رواية " لو سلمتك قلبي" . ابتسمت حبيبة حين رأت ذلك، وحاولت أن تعود لأبي حيان، ولكنها كانت بين الفينة والأخرى تختلس النظرات، باحثة عن تعبيرات وجه السيدة الجالسة أمامها وهي تقرأ، لكن دون جدوى، لا يبدو عليها تأثر لا بابتسامة ولا بعكسها، كأن وجهها موضوع بمجمد. وعادت حبيبة لشكري وهو يحرض أبا حيان على الهرب ليلا من الفندق ، لكن سريعا ما رن الهاتف بأغنية جوليا بطرس: " لو سلمتك قلبي" ، فيذوب الجليد الذي كان على وجه السيدة ، وتبدأ عيناها في تأمل حبيبة وهاتفها.
أنهت المكالمة وأعادت الهاتف إلى جيب المعطف ثم أحكمت إغلاقه..، وعادت لشكري وأبي حيان، ومرة أخرى يطرأ ما يمنعها عن متابعة القراءة، لقد تحرك الجماد في وجه السيدة التي أمامها، ونطقت مع ابتسامة مستغربة:
_ سبحان الله؛ أنا أقرأ رواية: لو سلمتك قلبي، وأنت رن هاتفك بأغنية لو سلمتك قلبي..
تبتسم حبيبة، وتتساءل؛ كيف يمكن أن ترد على هذه السيدة؟
وتحل تساؤلها السيدة وهي تضيف: " الغريب في الأمر ، أن العنوان لا علاقة له بالرواية مطلقا، رغم عبقرية الروائية في سرد الأحدث بتقنية جميلة وأسلوب مثير ومشوق"
* لماذا؟
- إنها تحب البطل كثيرا، حتى إن الصبايا اللواتي تعرفهن يغرن منها ، ومن حبيبها..
يتدخل فتى بقربهما كان يتابع الحوار:
+ لا شك أنك لم تصلي بعد للورقة الأخيرة، إنها جوابك عن علاقة العنوان بالرواية
- لكن العنوان يجب أن يرتبط بالنص ككل
+ هو كذلك وإن بدا لك العكس ، وحين تنهين القراءة ستتأكدين من قولي..
- حسنا ، قد أوشكت الوصول للورقة الأخيرة، أثرت فضولي
ظلت حبيبة متابعة بانتباه حوارهما، ودت لو أنها تشاركهما إياه، لكنها كانت سعيدة بكلامهما ، وسعيدة أكثر بأن على هذه الأرض ما ومن يستحق القراءة، ثم التفت إليها الفتى سائلا:
+ عذرا سيدتي ؛ أراك مهتمة أيضا بالرواية، هل قرأت " لو سلمتك قلبي" ؟ يجب أن تكوني قد قرأتها ما دامت أغنية يرن بها هاتفك.
وبابتسامة تبدو سعيدة ردت:
*نعم ؛ قرأتها ..
+ ومن أي فريق أنت ؟
* لتكمل صاحبتنا القراءة أولا، حتى نرى إن كانت ستغير وجهة نظرها أم لا، يبدو لي أنك أغريتها، أكثر من الكاتبة، تبقى لها فيما أحسب ثلاث ورقات.
أما صاحبتنا قارئة " لو سلمتك قلبي" تبدو غارقة في الكتاب، منغمسة فيه، لم تنبس ببنت شفة أثناء حديثهما، والفتى استدرك قائلا لحبيبة:
+ أنا لم أقصد من الفريقين شخصي وهذه السيدة، لكني أسألك بصفتك قرأت الرواية ، هل أنت مع أن تعيش جويرية واقعها كما ظنناه نحن كقراء ، وكما جعلنا معارفها نراه، أم مع أفكار جويرية التي فاجأتنا بها أخيرا ، لنعلم أن كل الحب الذي قرأناه كان منها وإليها؟
لم تكن حبيبة تتوقع أن يطرح عليها الفتى هذا السؤال، وقد أخبرته بذلك صراحة وهي تقول:
* ملامحك توحي بصغر سنك، لذلك فقد فاجأتني بسؤالك الذي لم يكن منتظرا، كما لم تنتظر أنت النهاية التي صرحت بها جويرية
- لا تغتري بطفولتي فإني قارئ نهم
* أعتقد، ليس من حقي الرد الآن قبل أن تنهي صاحبتنا القراءة، لعلها وصلت للورقة الأخيرة.
+ حسنا، وإن كنت لاحظت أن لك الأفكار ذاتها، لأن الورقة الأخيرة لم تفاجئك كما فاجأتني .. لا أعتقد أن كل أنثى تشبهك إلا جويرية
ابتسمت حبيبة، وأدركت أنه التقط إشارتها " كما لم تنتظر أنت النهاية التي صرحت بها جويرية"
صاحت السيدة :
_ فعلا مفاجأة؛ أنهيت الرواية، واو!!! انتظروني حتى أستفيق من هول الصدمة، إذن ؛ كل ما كانت تفعله جويرية كان منها وإليها؟! والله أحييها، ليتني مثلها، جنس الرجال، جنس ...
انتبهت إلى أن العربة فيها خمسة رجال، أما الجنس اللطيف فلا يوجد غيرها وحبيبة، وتابعت كلامها :
_ جنس خشن، جويرية كأجمل وردة جوري، كانت تهدي الحب لنفسها، الكلمات والورود ، كانت سعيدة دائما، تسافر باستمرار وحدها فيظنها الجميع مع حبيبها، ويعتقد الكل أن علب الشوكولاطة وباقات الورود واللوحات التي تزين بها غرفتها ، والرسائل الموزعة هنا وهناك، والكلمات المشتتة هنا وهناك، من حبيبها، ولم يكن كل ذلك إلا منها وإليها ، حتى الرسالة التي وصلتها عبر ساعي البريد كانت منها وإليها..
حينها ردد اثنان من المسافرين في وقت واحد:
• حمقاء !
نظرت إليهما حبيبة ، وقد توردت خداها ، وسأل مسافر آخر إن كانت هذه هي المفاجأة ، فرد الصبي :
+ نعم، والأكثر من ذلك أن القارئ ما كان سيدرك الأمر ربما لولا ذاك الرجل الذي أحب جويرية بجنون ، ولم تستطع حبه،لا لأن لديها حبيب، بل لأن ما تعيشه جعلها ترى ألا أحد يمكن إسعادها كما تسعد هي نفسها، حتى إنها تعيش حالات الخصام والعتاب، تلعن الحب تارة ، وتعشقه أخرى، تعيش حبا جنونيا مع نفسها ، وتقول لصديقتها التي عاتبتها حين رفضت حب محبها: ألا تستحق أنفسنا منا أن نحبها؟! ألا تستحق منا الاهتمام؟! ألا تستحق أن نقول لها كلاما جميلا، ونسعدها بالهدايا ؟! هو لم يعجبني رغم كل شيء، علي أن أحبه أولا ، فما وصل بيننا كهرباء ولا مغناطيس..
ويعود أحد الركاب للسؤال: وذاك الرجل ماذا فعل؟ ظل يحبها رغم أنها لم تحبه؟؟
+ ظل يحبها مع أنها أسمعته الأغنية، وقد سجلت الكاتبة كلمات الأغنية في آخر الرواية؛ أ يمكن أن تقرئيها لنا سيدتي؟ (موجها خطابه لمن تحمل الرواية بين يديها)
بدأ يردد بعض المسافرين مازحين: جويرية تعاني عقدا نفسية ، ومحبها مجنون مجنون مجنون، لو قرأت له أمه الفنجان من قبل لأدرك أنه لابد مفقود مفقود مفقود،
ابتسم أحدهم وكان صامتا طيلة الحوار ثم قال:
" ويلا مات يموت حلال ... مسكين ... شهيد"
ويرد المسافرون الآخرون: مسكين ... شهيد
ظلت حبيبة تضحك، وسرها ما خلقته الرواية من متعة ومرح رغم سخريتهم من المحب وجويرية...
أقسم أحد المسافرين أن يبحث عن الرواية لقراءتها بعد هذا النقاش، وهذا الجمال الذي أثارته في نفوسهم: فسأل عن اسم الكاتبة؛ليجيبه الفتى بسرعة البرق : حبيبة الغواص.
أخذ أحدهم هاتفه، وهو يقول، ويبدو أنها غاصت بالقراء في بحر الحب بروايتها هذه، ثم بدا متفاجئا وهو ينظر إلى حبيبة الراكبة معهم، وصاح:
° أنت هي؟! ، انظروا إنها هي نفسها بالشيخ Google
تبتسم حبيبة وتعبر عن سعادتها بهذه الرحلة، وعن فرحها بآرائهم ومناقشاتهم شاكرة إياهم، يسعد الفتى، ويقول :
- حتى لو كنت جويرية فأنا سأقوم لأعانقك وأمنحك قبلة من محب صغير، قرأك، ولتعلمي أنه رغم النهاية التي حيرتني فلم أعرف ، أ أوافق جويرية أم أخالفها ، إلا أني صرت أحمل روايتك معي دائما، والآن مع القبلة توقيع منك بالرواية..
يضحك الجميع ويصفقون ، ويشغل أحدهم أغنية : لو سلمتك قلبي، فيرددوها وهم يقرأون كلماتها بالرواية أو على هواتفهم عبر النت.