حسن الرحيبي - سَاحة سيدي بو الذّهب بآسفي الجَميلة أو عندما شَربنا من أحوَاض غسل السّمَك !

على يسَار هذه السّاحة التاريخية كان موجوداً سوقٌ عصري للسمك أزيل منذ السبعينات. وكذلك قرب بيرو عرب فندق ميموزا التاريخي أُزيل لفسح المجال للطريق المزدوج ! لن أنسى أبداً لمّا فرضت علينا وزارة التّعليم جلب صور شخصية من أجل تنظيم الإدارة وتكوين أوراق خاصّة بكل تلميذ مع رقمه وصورته(الفيشاتles fiches ) . كان ذلك يوم الأحد فاتح فبراير سنة 1963 . لم يكن هناك مصورون في باديتنا المهمّشة مما اضطر الآباء للذهاب بنا إما لمدينة الجديدة البعيدة عن اثنين الغربية ب 100 كيلومتر . أو آسفي البعيد فقط ب 49 كلم . اختيار الآباء الاضطرَاري لأحدى المدينتين الجميلتين لم يكن فقط تمليه المسافة الجغرافية . بل أيضاً العلاقات البشرية ووجود أقرباء في هذه المدينة أو تلك فرضت عليهم ظروف السيبة في عهد مولاي عبد العزيز الهروب بجلودهم إلى إحدى المدينيتين . أو السفر بعيداً نحو الدار البيضاء . بالنسبة لنا رغم وجود أقرباء بمدينة آسفي . كنا متعودين كثيراً على الحديث عن هذه المدينة لوجود حافلة زرقاء تأتي كل صَباح بشكل مضبوط على الساعة التاسعة صَباحاً . لتشكّل معلمة un repère ثمينة لمعرفة الوقت بالنسبة للتلاميذ . وأيضاً بالنسبة لعمّال الحقول . إذ في الصّيف يكون وقت "التّسياب" أو التحرر من نتف الحمّصّ عندما تمرّ حافلة اولاد آسفي .لحساسية هذه المزروعات وبداية تساقطها بسبب اشتداد الحرارة . وكذلك مرور بوشريط على الساعة الحادية عشرة بالنسبة لحصّادي الشعير . وفي المساء تكون حافلة كوبّاطة القادمة من مدينة الدار البيضاء على الساعة الخامسة مساءً دليلاً على إضافة خرجة واحدة قبل الانصرَاف من خرجة التكربيل أو هشهشة الأرض لبرودة الجو وقصَر نهارَات بداية فصل الربيع . تصَوّروا قرى كاملة لا تملك ساعةً يدوية . بل حتى لما توجد الساعة لا وجود لمن يفسّر إشارات عقاربها ولا الأرقام المرسومة بانتظام وتناسق على جوانبها . سوى المعلمين وحدهم . أو نذهب عند سي امحمد لمعرفة الوقت أو بداية شهر الصيام وانتهائه . يستخدم فقيه المسجد فقط ظلنا أو ظل حائط الجامع . نقيسه بالقدم : إذا تضاعف يعني العصر . وإذا كان تحت قامتنا أو لم يخرج عن خيال السور يعني ذلك الظهر . المشبوح يُتّخذ دليلاً على بداية الحرث أو انتهائه . نظموا من أجله حكَماً وأبياتاً زجلية جميلة : إلى طلع المشبوح مع لعشا لوح الزرع بالكُمشة وݣول العام مشى . رد عليهم بعض الشبان المتمردين على حياة وثقافة البدو : والى طلع مع المغرب لوح المحراث واهرب ! وكذلك للفطور والسحور ! مدفع آسفي يحسم الموقف . عندما تتلبد السماء بالغيوم في الشتاء يدوخ الأهالي ولا يعرفون الشرق من الغرب . ننتظر قدوم كارّ ميݣيل miguel من الجديدة نحو بنيفو على الساعة الثانية بعد الزوال ليخبرنا بأن أهل الجديدة فاطرين اليوم . تشتعل النيران ويتسرب دخانها عبر ظهور نوايل امّ قبّ وامّ ظهر . نسوق مواشينا بعنف للالتحاق بالدوّار . مصَائبنا أخف بكثير من أسلافنا حين كانوا يستعدون للاحتفال بليلة القدر ليفاجئهم هلال العيد ! يعني ذلك صيامهم ل 27 يوماً فقط ! يتساءل الجميع هل سندخل للحارة (جهنم ) لهذا الجرم الفادح ؟ يجيب سي امحمد إن الله غفور رحيم وسموح حين يعذر امرأةً لا تعرف كيف تصلّي ولم تحفظ الآيات والسور رغم قصَرها لأننا كنا دائماً أمّةً لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب ! كما أن مفتي الدوار أمرها بالاكتفاء بترديد ما تحفظ وما تستطيع فقط من قبيل : آگديراتي آكسيكساتي آوليداتي آدجيّجاتي .. يمكنها إضافة أشياء أخرى مهمة في حياتها الجاهلة والأمية .. مثل كويساتي وݣصَيعاتي .. ثم تسلّم وتنوض نايضَة ! اللّه يرانا ولا يجبرنا على ما يتجاوز طاقتنا : لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها ! مبدأ يخرجنا جميعاً من باب واسع ! لا بأس عرفتُ فيما بعد أن مزارعي ألمانيا كانوا يضبطون الوقت من خلال توقيت وانضباط فسحة كانط kant اليومية . وكذلك الفرنسيون من خلال جولة روسو rousseau الانفرادية rêveries d'un promeneur solitaire ..

هيأنا مساء السبت بعناية كبيرة للرحلة التاريخية : لأول مرة سنرى المدينة بالعين المجردة وبدون استعمال خيال المتخيلين ولا صور أحمد بوكماخ شديدة الانتقاء . غسلنا أطراف أجسادنا أو بالأحرى ما استطعنا بلوغه بأيدينا الطاهرة . لأنهم علمونا أن يد الفلاح دائما نقية . كما أن كل برك الماء والمطافي صَافية وطاهرة لأن " صفحة ماء تصفيها الملائكة" كما علمتنا دائما امي حليمة . أقوالها ظلت دائما نبراسا لنا في الحياة . وحتى لما كانت تطيل "مرت لحراري" النظر إلينا نحن الثلاثة الحفاة الذاهبين للجامع عبر الزنقة الموحلة وشديدة الانزلاق . فيسقط أحدنا وقد تلطخت أسماله بالوحل تعتبر امي حليمة أن عينها خايبة وأنها نقرتنا بالعين .لتعلمنا ترديد لاَزمة : عينك في حافرك يعطيك جن يعافرك ! كلام بليغ وموزون كفيل برد العين والحسد لا يعادله سوى مقولة نعيمة عن حفظ وصَون الرّضيع من الحسد وأم الصبيان : هزي معاه بوطو تاحاجة ما تلوطو!
استيقظنا قبل الفجر بل لم أنم من الفرحة أصلا طول الليل . لبسنا أفخر أسمالنا واحتذينا أفخم صاندالاتنا المتقطعة من نوع bahia plastic . قامت أمي بصنع أحسن خبز أبيض جدير بتلك المناسبة المميزة . رفض الحريشة إركابنا بسيارته الڤولڤو المتهالكة لأن خالي عباس حجزها بمفرده مع أبنائه ونهرنا لمواصلة المسير نحو السوق : كومبلي آسيدي complet أي ممتلئة عن آخرها ! بالفعل لم نناقشه لصَرامة مواقفه وجدّيته في المواقف الصّعبة رغم هزله في مواقف أخرى أقل جدية . مما يجعله بشوشاً ومتسامحاً أكثر . وصلنا الفيلاج . لا زال الظلام الدّامس مخيماً على الدكاكين إلّا ضَوء قنديل في قهوة الجيلالي تكاد تخنقه حلكة الديجور . قبل ركوب شاحنة ولد بلعالية البيرليي المغرب berliet maroc الخضراء . أمرني أبي للذهاب "للتوسع" بجانب حائط السوق حديث البناء آنذاك . فهمت المقصُود وذهبت للتوسع قبل أن يفاجئني طاريء من طواريء الطبيعة وأنا على ظهر الشاحنة المزدحمة . وليس في أرجاء مّودنان الفسيحة أو جنانات ضاية الرحبي الموحشة..
تحركت الشّاحنة المتهالكة نحو مدينة آسفي . بدأت في اللف والدوران والتناور لتفادي الدرك . مرت من مول البَرݣي وحد حرارة.. إلى أن استقرت بجانب مرسى سيدي بوالذهب لتلفظ محتوياتها من البشر المتخلف : آباء وأطفال . لا وجود لفتيات سوى بعض فتيات الصديگات الذين آمن أبوهم سي عزوز بضرورة تعليم الجميع بدون تمييز . خفف علينا وجودهم إحساسنا بالبداوة والدونية والشعور بالنقص le sentiment d'infériorité لمظهرنا الغريب . عرف جميع من في المدينة تواجدنا بينهم وغاية هذا الإنزال الاضطراري الذي يدخل في باب مكره أخوك لا بطل ! بدأ سماسرة المصورين يتوافدون علينا مرحبين . مما حول إحساسنا بالنقص وربما بالذنب la culpabilité إلى زهو وافتخار لوجود من يطلب ودنا ويحتاج لقروشنا البئيسة . بمن فيهم امرأة طويلة القامة التفت داخل حايك مسفيوي يميل للسواد مع نقاب أبيض وهي تتوسل للآباء لارتياد استوديو ليهودية لأنها تصور أحسن . تعجبنا للفكرة : امرأة وأيضا يهودية في نفس الوقت مصورة ! بينما أمهاتنا المسلمات المؤمنات يطلقن زغاريد صادحة في أرجاء القاق ومودنان وهن يرعين الأبقار ويجمعن الحشَائش .. غير مباليات بما وصلت إليه نساء المدينة يهوديات ومسلمات من تقدم ومعرفة ! لأجل كل ذلك اقتنعنا بسهولة بأن ليهودية تحرق الصور أو تخرجها باهتة . فيصعد الجميع عند مصَوّر بالدّريجات . ممتلئ الجسم بقيت أراه حتى أواسط السبعينات لما انتقلت للمدينة الصامدة والشامخة التي علمتني أشياء كثيرة . امتد الطابور حتى الشارع الرئيسي .
خرجنا للفسحة لأن الجميع رآها فرصة للتعرف على حياة المدن واختلافها الجذري عن عيشتنا البئيسة في القرية . كان أول امتحان قاس لنا هو قطع الطريق بدون انتباه ولا التفات.. لنسمع عجلات سيارة طاكسي وقد احتكت بقوة مع الإسفلت حتى كادت تشتعل النار بأطرافها . دخان كثيف تصاعد من تحتها.. أوشكت على دهسنا جميعاً لولا يقظة السائق ! نلنا من السباب والتحقير ما لا يتحمله مخلوق : فين غاديين آلعروبية ؟ كمّلناها وجمّلناها لما سألنا عن الماء للشرب فدلونا على مارشي الحوت قرب سيدي بو الذهب . لم يعد اليوم موجوداً . لم نر الصنابير أو الحنفيات الماثلة أمامنا ودلفنا كقطيع خرفان نحو الأحواض التي يُغسل فيها السمك ! "طسّنّا" كما كنا نفعل في ضاية القاق أو برك مودنان الفضية الرقراقة التي تعلو سطحها بعض الحشرات السابحة . لم نكن نأبه لوجود الزغلال فنرشف بل بالأحرى نشفط كل شيء بشفاهنا القوية والمتشققة والمتعطّشة بدون خوف . الآن الأمر يختلف . مياه متعفنة مع بقايا الأسماك وقشورها لا قبل للملائكة برائحتها الكريهة وقذارتها البينة .. لتتعالى أصوات الباعة والمتسوقين : آش كديروا آلعروبية ؟ .. هالما فيناهو آلحلالاف !
عرفنا بأن حياة المدن تتطلب مهارات des habiletés مختلفة . أما التلقائية والعفوية la spontaniété فلا مكان لهما مع سكان أرقّاء تعلو محياهم الوسامة واللطف والابتسامة الصفراء الماكرة !
عدنا في المساء . هذه المرة ارتاد صاحب الشاحنة الطريق العادية نحو اثنين الغربية . طريق دار سي عيسى بدون خوف أو وجل . دخلتُ في عملية تأمل عميق . ركزت على الأشجار وأعمدة التلفون وهي تتراجع بسرعة نحو الخلف . مما يعني ابتعادنا عن مركز الحضارة والجمال بسرعة فائقة . والعودة نحو موطننا الهادئ . والذي لا مكان فيه للنظام والاغتراب . تذكرت تضرع بن حبوبة وقد اغترب عن الدوار نحو لاربعة مول البرݣي لبيع جحشته . طال به الفراق نصف يوم أو أكثر بكثير ليصرخ بحرقة وحنين : يا ربي ترجّع كل غريب لاوطانه ! كما تذكرت أحد الأصدقاء وقد لدغه عنكبوت . فذهبوا به نحو آسفي عند الطبيب رول rault . ليستغل الفرصَة ويشتكي أباه العنيف مع الأسرة كلها بفرنسية بدائية . فهم الݣاوري قصده ليقدم له علبة دواء مسكّن دون علم الأب . في الطريق سأله ماذا قلت للنصراني ؟ هل اعتبرتني أحمقاً ؟ فألقىٰ بالعلبة عبر نافذة الإغاثة لحافلة بوشريط !
ودّعت آسفي دون أن أعرف أن يد القدَر الكريمة قد هيّأت لي كلّ الأسباب لأعود إليه بعد ستّ سنوات للدراسة وليس فقط لالتقاط الصّور !

حسن الرّحيبي..





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى