أفزعتني نظراته عند أول لقاء لي في مكتبه؛ إذ كيف يتعامل مدير عام الشئون الإدارية مع موظف جديد بهذا الأسلوب! فيقول لي : لماذا تركت السعودية؟! وما الذي جاء بك إلى هذه الشركة ؟! هل أنت في كامل قواك العقلية؟!
تعددت نظراته الغريبة وكلماته المريبة في ذلك اليوم من جديد، لكن بمعدل كل عشر دقائق يعلق بعبارات سخيفة، ويزعجني بشدة، وما إن أحاول أن أوضح له أسباب عودتي إلى بلدي حتي يعود إلى أسلوبه المليء بالنفور والاستخفاف والاستهزاء مرة أخرى بصوت شبه مسموع ، تفور رأسي ويغلي قلبي.
انتبهت إلى أنه لا يريد تسليمي الوظيفة ولا أعلم السبب، ربما يريد أن يقتنصها ابنه، أو يهديها إلى أحد أبناء أصدقائه، أو ربما يبيعها لمن يقدر على ثمنها، أو ربما مجرد أنه يستكثر على شخص مثلي لا ظهر له ولا سند أن يحصل على هذه الوظيفة المرموقة.
أكثر ما جذب انتباهه هو قوة شخصيتي كلما أجبته عن سؤال أو بادلته التعليقات على كلامه كلمة بكلمة، فلم يصادف في حياته من يجادله الحجة بالحجة، ولا يعرف طأطأة الرأس .. بل أدافع عن حقي ووجهة نظري بكل جرأة، وكلما أجبته يحدق في وجهي مستغربا.
مرت الدقائق بطيئة أتابع بضيق شديد ما يحدث، وفي ذهول من أسلوبه وطريقته أدركت أن فرجًا غير سوي، يسأل أسئلة غريبة، ويدخن بشراهة دون اكتراث لما يسببه لي الدخان من ضيق في صدري!
تساءلت في حديث مع نفسي الثائرة: من الذي أسماه بهذا الاسم؟! لماذا يعاملني هذا الرجل الغريب بتلك الطريقة ؟! هل يعطيني من جيبه؟! هل أحصل على مكان ولده؟!
قلت بصوت هادئ : هل تعلم يا أستاذ فرج أن مكتبي في الرياض في فخامة وذوق مكاتب الوزراء؟! نعم، أربعة أضعاف مساحة مكتبك هذا، وأتقاضى ثمانية آلاف ريال، عشرة أضعاف ما سأحصل عليه إن تسلمت العمل هنا، وحتى هذه اللحظة لا أعلم السبب في عدم تسليمي العمل طوال الأشهر الماضية !
ـ أنت لا تعلم ما يُلم بنا كلما تم تعيين موظف جديد! تفور الدماء في القلوب، وربما تشتعل المظاهرات التي تهز أنحاء الشركة من أبناء العاملين الذين يتطلعون إلى هذه الوظيفة !
نزلت الكلمات في قلبي حزينة، بعد دقيقة قال: لا أعلم، ربما نجد لك حلا.
مرت الدقائق انتصب من جلسته، تقدم نحوي، وضع يده اليمنى على كتفي الأيسر، ثم قال :
هل لديك مانع أن تتسلم العمل هنا في القاهرة بعيدًا عن الصعيد ؟!
رويت له تفاصيل حياتي الخاصة، أخبرته أنني متزوج بمعلمة في إحدى المدارس وأن لي ابنة من ذوي الاحتياجات الخاصة وابنا رضيعًا، وأني رغم سفري قبل سنوات لكنني لا أملك المال لشراء سكن في العاصمة، وأن هذا الحل سوف يرهقني ماديا، بالإضافة إلى عدم قدرتي على الابتعاد عن الأسرة لحاجتهم الشديدة إلى وجودي معهم.
بصوت دافئ، شرح لي وجهة نظره، ثم قال : يا ابني، هذه مجرد فترة مؤقتة، تعمل في البداية بعيدا عن الاضطراب الذي قد يسببه استلامك للعمل إن توجهت إلى المنطقة القريبة منك بشكل مباشر، بعد بضعة أشهر تنتقل إلى مكان قريب من محل إقامتك دون أن يدري أحد عن ميعاد تعيينك!
يحيط بي الصمت؛ أفكر في كلامه، وعلى الفور وافقت على استلام العمل في العاصمة، وقلت : قربت المواصلات كل بعيد، ربما الأزمة الوحيدة هي الشتاء الذي يدق الأبواب، لكن على أي حال عدني أن تنقلني إلى مكان قريب في أول فرصة.
ابتسم ضاحكًا وقال : لا تقلق .
وقعت على أوراق استلام العمل، والتساؤلات تملأ قلبي القلِق، لم أقبل بمثل هذا الموقف من قبل! فهل يصدق معي ؟ لم أعمل من قبل في مكان دون أن أسير بخطوات واثقة! ما الذي جرى لي؟! كيف أقبل بالعمل في هذه الشركة؟! لا تشبه الشركة السعودية، فلا الراتب الشهري يساوي ربع راتبي هناك، ولن أحصل على أي امتيازات مثلما كنت أتنعم هناك، ربما تحتاج ابنتي إليّ أكثر من أي وقت مضى، وربما يحدث هناك ما لا يمكن احتماله، وعلى كل حال، كل مغترب مصيره يرجع إلى بلده.
في أثناء توقيع العقد المؤقت، نظرت إلى راتبي المقترن باسمي، دهشت من الاختلاف الكبير بين الراتب الجديد الذي أستبدله براتبي القديم، من يقارن بين الراتبين، سيتيقن بأن عقلي قد طار!
بمجرد عودتي إلى البيت، أسابق الساعات لأسعد قلب زوجتي أنني أخيرًا سأضع نهاية لغربتي، أخبرتها بما حدث، هنأتني على استلام الوظيفة الجديدة، واحتضنتني واستدارت بي بين ذراعيها في سعادة، وما إن وقعت عيناها على الراتب حتى سألت: هل ما زالت وظيفتك في السعودية سارية؟!
تعددت نظراته الغريبة وكلماته المريبة في ذلك اليوم من جديد، لكن بمعدل كل عشر دقائق يعلق بعبارات سخيفة، ويزعجني بشدة، وما إن أحاول أن أوضح له أسباب عودتي إلى بلدي حتي يعود إلى أسلوبه المليء بالنفور والاستخفاف والاستهزاء مرة أخرى بصوت شبه مسموع ، تفور رأسي ويغلي قلبي.
انتبهت إلى أنه لا يريد تسليمي الوظيفة ولا أعلم السبب، ربما يريد أن يقتنصها ابنه، أو يهديها إلى أحد أبناء أصدقائه، أو ربما يبيعها لمن يقدر على ثمنها، أو ربما مجرد أنه يستكثر على شخص مثلي لا ظهر له ولا سند أن يحصل على هذه الوظيفة المرموقة.
أكثر ما جذب انتباهه هو قوة شخصيتي كلما أجبته عن سؤال أو بادلته التعليقات على كلامه كلمة بكلمة، فلم يصادف في حياته من يجادله الحجة بالحجة، ولا يعرف طأطأة الرأس .. بل أدافع عن حقي ووجهة نظري بكل جرأة، وكلما أجبته يحدق في وجهي مستغربا.
مرت الدقائق بطيئة أتابع بضيق شديد ما يحدث، وفي ذهول من أسلوبه وطريقته أدركت أن فرجًا غير سوي، يسأل أسئلة غريبة، ويدخن بشراهة دون اكتراث لما يسببه لي الدخان من ضيق في صدري!
تساءلت في حديث مع نفسي الثائرة: من الذي أسماه بهذا الاسم؟! لماذا يعاملني هذا الرجل الغريب بتلك الطريقة ؟! هل يعطيني من جيبه؟! هل أحصل على مكان ولده؟!
قلت بصوت هادئ : هل تعلم يا أستاذ فرج أن مكتبي في الرياض في فخامة وذوق مكاتب الوزراء؟! نعم، أربعة أضعاف مساحة مكتبك هذا، وأتقاضى ثمانية آلاف ريال، عشرة أضعاف ما سأحصل عليه إن تسلمت العمل هنا، وحتى هذه اللحظة لا أعلم السبب في عدم تسليمي العمل طوال الأشهر الماضية !
ـ أنت لا تعلم ما يُلم بنا كلما تم تعيين موظف جديد! تفور الدماء في القلوب، وربما تشتعل المظاهرات التي تهز أنحاء الشركة من أبناء العاملين الذين يتطلعون إلى هذه الوظيفة !
نزلت الكلمات في قلبي حزينة، بعد دقيقة قال: لا أعلم، ربما نجد لك حلا.
مرت الدقائق انتصب من جلسته، تقدم نحوي، وضع يده اليمنى على كتفي الأيسر، ثم قال :
هل لديك مانع أن تتسلم العمل هنا في القاهرة بعيدًا عن الصعيد ؟!
رويت له تفاصيل حياتي الخاصة، أخبرته أنني متزوج بمعلمة في إحدى المدارس وأن لي ابنة من ذوي الاحتياجات الخاصة وابنا رضيعًا، وأني رغم سفري قبل سنوات لكنني لا أملك المال لشراء سكن في العاصمة، وأن هذا الحل سوف يرهقني ماديا، بالإضافة إلى عدم قدرتي على الابتعاد عن الأسرة لحاجتهم الشديدة إلى وجودي معهم.
بصوت دافئ، شرح لي وجهة نظره، ثم قال : يا ابني، هذه مجرد فترة مؤقتة، تعمل في البداية بعيدا عن الاضطراب الذي قد يسببه استلامك للعمل إن توجهت إلى المنطقة القريبة منك بشكل مباشر، بعد بضعة أشهر تنتقل إلى مكان قريب من محل إقامتك دون أن يدري أحد عن ميعاد تعيينك!
يحيط بي الصمت؛ أفكر في كلامه، وعلى الفور وافقت على استلام العمل في العاصمة، وقلت : قربت المواصلات كل بعيد، ربما الأزمة الوحيدة هي الشتاء الذي يدق الأبواب، لكن على أي حال عدني أن تنقلني إلى مكان قريب في أول فرصة.
ابتسم ضاحكًا وقال : لا تقلق .
وقعت على أوراق استلام العمل، والتساؤلات تملأ قلبي القلِق، لم أقبل بمثل هذا الموقف من قبل! فهل يصدق معي ؟ لم أعمل من قبل في مكان دون أن أسير بخطوات واثقة! ما الذي جرى لي؟! كيف أقبل بالعمل في هذه الشركة؟! لا تشبه الشركة السعودية، فلا الراتب الشهري يساوي ربع راتبي هناك، ولن أحصل على أي امتيازات مثلما كنت أتنعم هناك، ربما تحتاج ابنتي إليّ أكثر من أي وقت مضى، وربما يحدث هناك ما لا يمكن احتماله، وعلى كل حال، كل مغترب مصيره يرجع إلى بلده.
في أثناء توقيع العقد المؤقت، نظرت إلى راتبي المقترن باسمي، دهشت من الاختلاف الكبير بين الراتب الجديد الذي أستبدله براتبي القديم، من يقارن بين الراتبين، سيتيقن بأن عقلي قد طار!
بمجرد عودتي إلى البيت، أسابق الساعات لأسعد قلب زوجتي أنني أخيرًا سأضع نهاية لغربتي، أخبرتها بما حدث، هنأتني على استلام الوظيفة الجديدة، واحتضنتني واستدارت بي بين ذراعيها في سعادة، وما إن وقعت عيناها على الراتب حتى سألت: هل ما زالت وظيفتك في السعودية سارية؟!