19 - 06 - 1944
إلى الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فقد قرأت مقالكم الشائق في قضية نسب زياد في مجلة (الرسالة)؛ ولقد كنت أرجو وأنا ألمس في أبحاثكم نفوذ النظر وثاقب الفكر أن لا تفوتكم في هذه القضية نقطة وجيهة وذات خطورة، وهي احتمال التلفيق وأثر الحزازات السياسية والحزبية
فمعلوم أن ما وصل إلينا من الروايات في هذه الموضوع وغيره قد دون في عهد الدولة العباسية؛ ومعلوم أن كثيراً مما دون في هذا العهد، مما يتصل خاصة بالدولة الأموية وكبار رجالاتها، قد تأثر إلى حد كبير بتلك الحزازات، وأن الذي ينعم النظر يلمس تعمد التشويه والتسوئ والمبالغة والإعظام قوياً بارزاً
وزياد من كبار رجالات هذه الدولة وموطديها، وقد كان في ولايته للعراق في عهدها صارماً شديداً؛ ثم خلفه ابنه فيها فسار من جهته على غرار أبيه، ووقعت من جهة أخرى في عهده حادثة كربلاء الأليمة التي جلبت عليه نقمة الناس، وانتشرت عنه بسببها أسوأ الأحاديث
فهذا من وجه عام من شأنه أن يدعو الباحثين إلى التحفظ والتوقف والارتياب في رواية نسب زياد واستلحاقه لأن لحمة هذه الرواية وسداها مطعن وغمز وتشويه وتسوئ
ومن العجيب أننا نجد الروايات تغمز نسب عمرو بن العاص بما غمزت به نسب زياد بشكل ما؛ وهو من أعاظم رجال الدولة الأموية وموطديها، ونجدها كذلك تسخف في وصف ظروف ولادة الحجاج وحلقه ورضاعه سخفاً مضحكا، وهو صنو الرجلين العظيمين الأولين في هذه الدولة إلا غمزته في أمانته أو عرضه أو دينه أو خلقه؛ وإنه لمن الحق أن يحمل هذا بوجه عام الباحثين في قضية من القضايا المتصلة بالدولة الأموية وكبار شخصياتها إلى التحفظ والتوقف والارتياب، وأن لا تجعله يكتفي بتوجيه وتخريج الروايات والبحث في نطاقها كأنها قضايا مسلمة
يضاف إلى هذا أنه إذا أنعم النظر في عناصر رواية نسب زياد خاصة ظهر فيها ثغرات عديدة تؤكد قوة احتمال التلفيق وضلع الحزازات السياسية والحزبية كما أشرنا إلى ذلك آنفاً. ففي عناصر الرواية:
1 - أن زياداً كان يعرف بزياد بن عبيد، وأنه كان له أخوة من أمه ومن أبيه هذا؛ فهذا قد ينقض نقطة كون سمية من البغايا العامة؛ فإذا كان أبو سفيان قد اتصل بها سفاحاً فيكون قد اتصل بها وهي تحت زوج. فكيف يستقيم هذا مع رواية توكيد أبي سفيان أن زياداً من نطفته؛ وكيف يمكن لأبي سفيان أن يؤكد ذلك من حيث الأصل. على أنه مما يصلح أن يكون موضع تساؤل وارتياب معاً وثغرة كبيرة في الرواية هذا التفصيل الدقيق المروي عن اتصال أبي سفيان بسمية في الطائف في زمن الجاهلية، وتداول هذا التفصيل ومعرفة شاهده العياني أبي مريم الخمار وأدائه الشهادة عنه بعد البعثة النبوية بنحو خمسة وخمسين عاماً ورواية تلك الصورة البذيئة عن سمية بعد اتصال أبي سفيان بها. . .
2 - أن أبا سفيان قد اتصل بسمية في الجاهلية وأن زياداً قد ولد أيضاً فيها. ولقد كان استلحاق أولاد السفاح في هذا العهد سائغاً جارياً لا غضاضة فيه ولا مطعن: وقد زعمت رواية نسب عمرو بن العاص أنه ولد سفاح وأن أباه قد استلحقه؛ والعاص بن وائل السهمي والد عمرو من كبار شخصيات وبيوتات قريش؛ فالقول بأن أبا سفيان قد أنف من استلحاق زياد لا يستقيم مع السائغ الجاري
3 - لم تصرح الرواية أن أبا سفيان قال للإمام علي إن زياداً ابنه حينما أعجب الإمام بموقفه الخطابي في خلافة عمر؛ وكل ما ذكرته قوله إنه يعرف أباه؛ فكيف عرف أنه عني نفسه حتى أنذره بضرب الخليفة؟ ثم إذا كان الإمام قد عرف ذلك - لأن هناك رواية فيها إيماه أوضح - وكان في اجتهاده أن تصريح أبي سفيان موجب لحده؛ فهل كان يسكت عنه وهو المشهور بالشدة في مثل هذه الأمور. هذا مع أن في رواية تهديد الإمام ثغرة أخرى، لأن اتصال أبي سفيان بسمية وولادة زياد مما كان في الجاهلية والإمام أجل من أن يجهل أنه لا حد ولا بأس على أبي سفيان، لأن إسلامه قد جب ما قبله. ثم أليس هنا موضع تساؤل وعجب عن ذيوع حديث جرى بين الإمام وأبي سفيان خاطفاً عابراً وغدوه من الروايات المتداولة على ألسنة الرواة؟
4 - إذا فرضنا أن أبا سفيان قد أنف من استلحاق زياد عند ولادته مع تأكده أنه ابنه وأنه أعجب به فيما بعد فإنه لم يكن هناك مانع من جهة مطعن من جهة أخرى في استلحاقه لأن الحادث مما يتصل أصلاً في الجاهلية، وقد أقر الإسلام أنساب الجاهلية على علاتها
5 - لقد كان زياد والياً من ولاة الإمام، فهل يعقل عاقل منصف يعرف طبيعة ورع الإمام وتحفظه وتشدده، ويعرف ما كان ناشباً بينه وبين معاوية بن أبي سفيان أن يستخدم شخصاً يعرف أنه ابن سفاح أولاً ويعرف أنه ابن أبي سفيان وأخو معاوية ثانياً
6 - ويخيل إلي بالإضافة إلى هذا كله أن زياداً المعروف في شدته وقوة شخصيته والذي كان نابغة عبقرياً منذ خلافة عمر، ثم كان والياً من ولاة الإمام علي ليأنف أن يعلن على رؤوس الأشهاد وفي مجلس شرعي أنه ابن زنا وأن أمه بغي، ولو كان ذلك بسبيل التحاقه بنسب أبي سفيان، وأن معاوية الملك العربي المسلم العظيم ليأنف أن تسوأ سمعة أبيه واسمه في هذه المناسبة مهما كان الباعث السياسي، كما أنه ليس من ضرورة إلى ذلك، وزياد هو ما هو من عبقرية والنبوغ وقوة الشخصية، ومعاوية هو ما هو من الدهاء والعقل والحلم إلى تلك الفضيحة الخالدة على الدهر للاثنين معاً لتكون وسيلة تضامن وتناصر بينهما
هذا ما عن لي أن أعلق به عساكم تتفضلون ببيان رأيكم توفية للموضوع الطريف الذي طرقتموه ولكم الشكر والاحترام
محمد عزة
****
17 - 07 - 1944
إلى الأستاذ السيد محمد عزة
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته - وبعد فأشكر لكم حسن ظنكم بي، وجميل تقديركم لما أكتب في مجلة الرسالة الغراء، وإن تعليقكم على مقالتي في قضية نسب زياد ليدل على ميزة عظيمة في أدب النقد، وحسن فهم لقضايا التاريخ، وإني أعتقد أنه لم يفتني ذلك التوجيه الذي أشرتم إليه في هذه القضية، لأني حينما أنصفت معاوية وزياداً فيها قضيت بذلك على الروايات التي فيها تحامل عليهما، وكان لتدوينها في عصر العباسيين أثر في ذلك التحامل، وهذا غاية ما يمكن أن يسلك في تحقيق هذه القضية، لأننا نجد أنفسنا بعد هذا أمام أمر لا يصح الشك فيه، وهو أنه كان هناك قضية في نسب زياد، وأن زياداً كان ينسب قبلها إلى غير أبي سفيان فألحق بعدها بنسبه، وأن خير توجيه لهذا هو ما روى من اتصاله بأمه على ذلك الوجه من أنكحة العرب في جاهليتهم، ولا سيما أنه لا يوجد في التاريخ توجيه غيره لذلك النسب، ولا يقدح في كون سمية من البغايا أنها كانت تحت زوج، لأن البغي بغي على أي وضع كانت، ولاسيما في ذلك العهد الذي وصلت الإباحية فيه إلى أبعد الحدود، وكذلك لا يقدح في عظمة زياد أن ينشأ من ذلك النكاح الجاهلي، لأن عظمته كانت ترجع إلى شخصه لا إلى نسبه، ومثل هذا ونحوه من السهل أن يستساغ في التاريخ، ولا يسهل أن ترد به تلك القضايا الظاهرة
عبد المتعال الصعيدي
إلى الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فقد قرأت مقالكم الشائق في قضية نسب زياد في مجلة (الرسالة)؛ ولقد كنت أرجو وأنا ألمس في أبحاثكم نفوذ النظر وثاقب الفكر أن لا تفوتكم في هذه القضية نقطة وجيهة وذات خطورة، وهي احتمال التلفيق وأثر الحزازات السياسية والحزبية
فمعلوم أن ما وصل إلينا من الروايات في هذه الموضوع وغيره قد دون في عهد الدولة العباسية؛ ومعلوم أن كثيراً مما دون في هذا العهد، مما يتصل خاصة بالدولة الأموية وكبار رجالاتها، قد تأثر إلى حد كبير بتلك الحزازات، وأن الذي ينعم النظر يلمس تعمد التشويه والتسوئ والمبالغة والإعظام قوياً بارزاً
وزياد من كبار رجالات هذه الدولة وموطديها، وقد كان في ولايته للعراق في عهدها صارماً شديداً؛ ثم خلفه ابنه فيها فسار من جهته على غرار أبيه، ووقعت من جهة أخرى في عهده حادثة كربلاء الأليمة التي جلبت عليه نقمة الناس، وانتشرت عنه بسببها أسوأ الأحاديث
فهذا من وجه عام من شأنه أن يدعو الباحثين إلى التحفظ والتوقف والارتياب في رواية نسب زياد واستلحاقه لأن لحمة هذه الرواية وسداها مطعن وغمز وتشويه وتسوئ
ومن العجيب أننا نجد الروايات تغمز نسب عمرو بن العاص بما غمزت به نسب زياد بشكل ما؛ وهو من أعاظم رجال الدولة الأموية وموطديها، ونجدها كذلك تسخف في وصف ظروف ولادة الحجاج وحلقه ورضاعه سخفاً مضحكا، وهو صنو الرجلين العظيمين الأولين في هذه الدولة إلا غمزته في أمانته أو عرضه أو دينه أو خلقه؛ وإنه لمن الحق أن يحمل هذا بوجه عام الباحثين في قضية من القضايا المتصلة بالدولة الأموية وكبار شخصياتها إلى التحفظ والتوقف والارتياب، وأن لا تجعله يكتفي بتوجيه وتخريج الروايات والبحث في نطاقها كأنها قضايا مسلمة
يضاف إلى هذا أنه إذا أنعم النظر في عناصر رواية نسب زياد خاصة ظهر فيها ثغرات عديدة تؤكد قوة احتمال التلفيق وضلع الحزازات السياسية والحزبية كما أشرنا إلى ذلك آنفاً. ففي عناصر الرواية:
1 - أن زياداً كان يعرف بزياد بن عبيد، وأنه كان له أخوة من أمه ومن أبيه هذا؛ فهذا قد ينقض نقطة كون سمية من البغايا العامة؛ فإذا كان أبو سفيان قد اتصل بها سفاحاً فيكون قد اتصل بها وهي تحت زوج. فكيف يستقيم هذا مع رواية توكيد أبي سفيان أن زياداً من نطفته؛ وكيف يمكن لأبي سفيان أن يؤكد ذلك من حيث الأصل. على أنه مما يصلح أن يكون موضع تساؤل وارتياب معاً وثغرة كبيرة في الرواية هذا التفصيل الدقيق المروي عن اتصال أبي سفيان بسمية في الطائف في زمن الجاهلية، وتداول هذا التفصيل ومعرفة شاهده العياني أبي مريم الخمار وأدائه الشهادة عنه بعد البعثة النبوية بنحو خمسة وخمسين عاماً ورواية تلك الصورة البذيئة عن سمية بعد اتصال أبي سفيان بها. . .
2 - أن أبا سفيان قد اتصل بسمية في الجاهلية وأن زياداً قد ولد أيضاً فيها. ولقد كان استلحاق أولاد السفاح في هذا العهد سائغاً جارياً لا غضاضة فيه ولا مطعن: وقد زعمت رواية نسب عمرو بن العاص أنه ولد سفاح وأن أباه قد استلحقه؛ والعاص بن وائل السهمي والد عمرو من كبار شخصيات وبيوتات قريش؛ فالقول بأن أبا سفيان قد أنف من استلحاق زياد لا يستقيم مع السائغ الجاري
3 - لم تصرح الرواية أن أبا سفيان قال للإمام علي إن زياداً ابنه حينما أعجب الإمام بموقفه الخطابي في خلافة عمر؛ وكل ما ذكرته قوله إنه يعرف أباه؛ فكيف عرف أنه عني نفسه حتى أنذره بضرب الخليفة؟ ثم إذا كان الإمام قد عرف ذلك - لأن هناك رواية فيها إيماه أوضح - وكان في اجتهاده أن تصريح أبي سفيان موجب لحده؛ فهل كان يسكت عنه وهو المشهور بالشدة في مثل هذه الأمور. هذا مع أن في رواية تهديد الإمام ثغرة أخرى، لأن اتصال أبي سفيان بسمية وولادة زياد مما كان في الجاهلية والإمام أجل من أن يجهل أنه لا حد ولا بأس على أبي سفيان، لأن إسلامه قد جب ما قبله. ثم أليس هنا موضع تساؤل وعجب عن ذيوع حديث جرى بين الإمام وأبي سفيان خاطفاً عابراً وغدوه من الروايات المتداولة على ألسنة الرواة؟
4 - إذا فرضنا أن أبا سفيان قد أنف من استلحاق زياد عند ولادته مع تأكده أنه ابنه وأنه أعجب به فيما بعد فإنه لم يكن هناك مانع من جهة مطعن من جهة أخرى في استلحاقه لأن الحادث مما يتصل أصلاً في الجاهلية، وقد أقر الإسلام أنساب الجاهلية على علاتها
5 - لقد كان زياد والياً من ولاة الإمام، فهل يعقل عاقل منصف يعرف طبيعة ورع الإمام وتحفظه وتشدده، ويعرف ما كان ناشباً بينه وبين معاوية بن أبي سفيان أن يستخدم شخصاً يعرف أنه ابن سفاح أولاً ويعرف أنه ابن أبي سفيان وأخو معاوية ثانياً
6 - ويخيل إلي بالإضافة إلى هذا كله أن زياداً المعروف في شدته وقوة شخصيته والذي كان نابغة عبقرياً منذ خلافة عمر، ثم كان والياً من ولاة الإمام علي ليأنف أن يعلن على رؤوس الأشهاد وفي مجلس شرعي أنه ابن زنا وأن أمه بغي، ولو كان ذلك بسبيل التحاقه بنسب أبي سفيان، وأن معاوية الملك العربي المسلم العظيم ليأنف أن تسوأ سمعة أبيه واسمه في هذه المناسبة مهما كان الباعث السياسي، كما أنه ليس من ضرورة إلى ذلك، وزياد هو ما هو من عبقرية والنبوغ وقوة الشخصية، ومعاوية هو ما هو من الدهاء والعقل والحلم إلى تلك الفضيحة الخالدة على الدهر للاثنين معاً لتكون وسيلة تضامن وتناصر بينهما
هذا ما عن لي أن أعلق به عساكم تتفضلون ببيان رأيكم توفية للموضوع الطريف الذي طرقتموه ولكم الشكر والاحترام
محمد عزة
****
17 - 07 - 1944
إلى الأستاذ السيد محمد عزة
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته - وبعد فأشكر لكم حسن ظنكم بي، وجميل تقديركم لما أكتب في مجلة الرسالة الغراء، وإن تعليقكم على مقالتي في قضية نسب زياد ليدل على ميزة عظيمة في أدب النقد، وحسن فهم لقضايا التاريخ، وإني أعتقد أنه لم يفتني ذلك التوجيه الذي أشرتم إليه في هذه القضية، لأني حينما أنصفت معاوية وزياداً فيها قضيت بذلك على الروايات التي فيها تحامل عليهما، وكان لتدوينها في عصر العباسيين أثر في ذلك التحامل، وهذا غاية ما يمكن أن يسلك في تحقيق هذه القضية، لأننا نجد أنفسنا بعد هذا أمام أمر لا يصح الشك فيه، وهو أنه كان هناك قضية في نسب زياد، وأن زياداً كان ينسب قبلها إلى غير أبي سفيان فألحق بعدها بنسبه، وأن خير توجيه لهذا هو ما روى من اتصاله بأمه على ذلك الوجه من أنكحة العرب في جاهليتهم، ولا سيما أنه لا يوجد في التاريخ توجيه غيره لذلك النسب، ولا يقدح في كون سمية من البغايا أنها كانت تحت زوج، لأن البغي بغي على أي وضع كانت، ولاسيما في ذلك العهد الذي وصلت الإباحية فيه إلى أبعد الحدود، وكذلك لا يقدح في عظمة زياد أن ينشأ من ذلك النكاح الجاهلي، لأن عظمته كانت ترجع إلى شخصه لا إلى نسبه، ومثل هذا ونحوه من السهل أن يستساغ في التاريخ، ولا يسهل أن ترد به تلك القضايا الظاهرة
عبد المتعال الصعيدي