خرج من البيت، ما إن أغلق الباب، حتى سمعت زوجه دق الجرس، فتحت له فدخل مجلجلا وصرير صوته يملأ المكان ؛
أنت السبب، دائما تثرثرين، وتكثرين لغطك حتى أنسى المفتاح.
استغربت حليمة من صراخ زوجها بهذا الشكل فجأة، وظلت تنظر بذهول ليسراه تلوح بالمفاتيح، وهو يحاول صب غضبه عليها بشتى وسائل التعبير، لعل لعنة ثرثرة حليمة تزول عنه.. حليمة التي لم تتمكن من استيعاب اللحظة، حليمة التي وقفت مشدوهة تتساءل: كيف لزوجها الذي قبل رأسها قبل خروجه، وهو يسألها ماذا تحتاج فابتسمت، ورد هو على ابتسامتها أنها هي حبيبته التي تستحق منه هدايا الدنيا كلها، ثم خرج، ولم يمر على خروجه بضع ثوان أن يعود ثورا هائجا لم تره منذ كان أطفالهما صغارا؟ أيمكن أن يكون قد تلقى اتصالا امتعض منه لهذا الحد؟
انتبه المختار أن المفاتيح بيده فثار أكثر وصاح مخاطبا تلك الواجمة أمامه
أنت السبب .. أنت السبب
ثم خرج؛ فتبعت حليمة خطاه كآلة وضع لها صاحبها بطارية جديدة، فتحت الباب، وسارت خطوات لتتأكد أنه حقا خرج من باب العمارة، وحين رأته خرج فعلا عادت لتدخل شقتها والدموع تتجمع بعينيها مع دهشة تطرح تساؤلات عديدة .. فكرها الذي ظل مشغولا منعها من متابعة أشغال البيت، وراحت تطل من شرفة المطبخ، وإن كان المختار لم يعد يظهر له وجود بالشارع، لتسمع طرق الباب فأسرعت ودقات قلبها تتضاعف، أيعقل أن يكون زوجها عاد غاضبا من جديد؟ ما علته هذه المرة؟ ترى ما الذي جعله هكذا؟ الأسئلة مازالت تصب وابلها على رأس حليمة التي فتحت الباب في خشية، لكنها اطمأنت متنهدة حين رأت ابنها يدخل بعد فتح الباب، إلا أنه كان منفعلا أيضا فقد قلق عليها حين اتصل بها ولم ترد، ودق الباب ولم تفتح سريعا، حتى طرقه بقوة، وقبل أن تنبس ببنت شفة سألها:
ماذا طلبت من أبي أن يحضر لك؟ إنه واقف بالأسفل ينتظرني، يقول إنه نسي طلبك، ويخشى قلقك منه إذا عرفت أنه نسي ما تريدين..
ردت في استغراب هادئ:
أنا لم أطلب منه شيئا.
ثم صاحت كمن تذكر أمرا مهما، يجب إدراكه:
الحق أباك، وعد به سريعا إلى البيت، الحقه قبل أن ينسى نفسه.
حاول المصطفى أن يستوعب كلام أمه، لكنها منعته من أي تفكير أو سؤال ، دافعة إياه نحو الباب ليخرج ويعود بوالده، وخرج فعلا، وحين عاد بعد أقل من خمس دقائق، عاد دون أبيه وأخبرها أنه ربما تذكر ما كان يريد، وأنه ليس واقفا حيث تركه، وجن جنون المرأة، فصاحت معاتبة ابنها، وقلق ما يرتبك بلسانها، أما الدموع التي تكدست قبل لحظة بعينيها، فقد تحولت إلى عرق كأنها تعوم به. لم تعد تحس الماء الذي بوجهها أهو دمع أم العرق الذي ولده القلق ولسان حالها يؤكد أن المختار فقد عقله فجأة، وأنه الآن فقط صار كما كانت تقول له لحظات الغضب " المخ طار "، فيبتسم ابنها البكر، ويضمها إليه ليذكرها دون أن ينتبه أحد: { ولا تنابزوا بالألقاب}، ويظن أباه أنه يضحك لما تقول أمه، لكن الابن يعانق غضب الأب بلطف، ثم يغني له مقطعا من الأغنية الشعبية " العطار يا العطار" مستبدلا " العطار بالمختار؛
" آش دواك يا المختار
المختار يا المختار
دوايا ودواك يا المختار
المختار يا المختار
لالة حليمة يا المختار
المختار يا المختار"
وأحيانا قد يختار تهدئته بقوله إن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو المصطفى المختار وأن اسمه من اسمه عليه الصلاة والسلام .. هكذا كان جمال يصلح ذات البين بين والديه منذ كان صبيا، فينقلب الغضب سريعا لطرافة وفرح، لكن جمال فقد حياته إثر حادثة سير قبل ما يناهز السنة، غابت فيها لحظات ضحك كثيرة بغيابه، وغربت طرائف ولحظات ابتسامات كانت دائمة الإشراق بوجوده.
عاهدت حليمة روح ابنها بعد وفاته، ألا تنادي أباه ب" المخ طار" فقد كانت أحيانا تقولها لوالده، فقط لتعيش تلك اللحظات الجميلة مع ابنها، لكن من سيخلق هذا الجمال بعد غياب جمال؟! ألحت حليمة على المصطفى أن يعود للبحث عن أبيه، لكنه بعد خروجه بوقت وجيز، اتصل بأمه يخبرها أن أباه لابد عائد، أما هو فمضطر للعودة إلى بيته حتى يأخذ صغيريه إلى فضاء الألعاب كما وعدهما. تقبلت الأمر على مضض وظلت بالبيت وحدها، تراها تنبس بكلمات غير مفهومة في غضب، تذهب إلى الشرفة أو النافذة تتفقد وجوه المارين، لعل وجها من الوجوه لزوجها، أو لعلها تعرفه من الخلف بمشيته العسكرية كما يقول أصحابه، لكن دون جدوى .. كثيرة هي الأفكار التي جالت بخاطرها؛ زهايمر؟ جنون؟ صدمة؟ ظلت تتذكر ما حدث منذ خروجه الأول من البيت هذا الصباح ،وكيف سمحت نفس ابنه له أن يعود لبيته وهو لا يعرف أين أباه، وماذا يمكن أن يكون قد حصل له؟ تحاول حليمة الاتصال برقم المختار، ولا مجيب يمكنه الرد على الهاتف، تتمنى لو أن أحدهم يتفقده ويرد بدلا عنه، ويخبرها أين هو لتذهب إليه وترجعه لبيته، لكن لا شيء من هذا يحصل، تفكر في الاتصال بالمصطفى ثم تتراجع حين تتذكر أنه مع صغيريه فلا ترغب في إزعاجهم.. تفكر في الخروج للبحث عنه، وتخشى أن يعود للبيت ولا يجد أحدا.. تأخر المختار عن الغذاء، ثم عن درس المسجد الذي أخبرها أنه يريد حضوره هذا الأسبوع، وبدأت خيوط الشمس الحمراء تنتشر في زرقة السماء، وليس للمختار أثر، ولم تعد حليمة تتحمل، أخذت هاتفها لتتصل بالمصطفى. يداها المرتجفتان تحاولان كتابة الحروف الأولى لاسم ابنها على الهاتف، وإذا بهذا الاسم يسبقها للظهور على الشاشة مع رنين، وترد حليمة سريعا فتسمع:
ماما أنا عائد إلى البيت مع أبي، قد وجدته أخيرا.
- الحمد لله.. الحمد لله .
فرحت بالخبر، وأغرقت ابنها دعاء والدموع تفيض من عينيها، وطال وقت الانتظار وهي تسير من هنا إلى هناك .. تائهة لا تعرف ماذا عليها أن تفعل! وأين كان، وهل أكل؟ ولماذا وكيف غاب فجأة؟ وماذا حصل ؟ .... وها هي من الشرفة ترى ابنها يقترب من البيت برفقة والده، فتسرع ناحية الباب لتتفقد (زمانها) وتطمئن عليه
.. يظهر الزوج مستندا كتف ابنه في صمت، والمصطفى يمرر سبابته على شفتيه أمام أمه، حتى لا تتحدث، ويدخلان معا، وتبقى حليمة صامتة في ذهول بينما أحداث اليوم تمر أمام عينيها حدثا حدثا في صخب.
كان المصطفى قد أخذ والده لغرفته حتى ينام، ثم عاد لأمه يحكي لها تفاصيل إيجاده، وكيف اتصل به الطبيب أحمد الذي لفظ أخوه أنفاسه الأخيرة بعد حادثة السير، ليخبره أن الأب دخل يسأل عن جمال، وحين أخبروه أن هذا الاسم لا يوجد عندهم، ظل يصرخ هناك ويطلب رؤية ابنه، ويقول إنه لن يتحرك إلا إذا رأى فلذة روحه أمامه. سمع الطبيب أحمد صراخه، عرفه فاتصل بالمصطفى، ووعد المختار برؤية ابنه محاولا تهدئته، وحين قدم المصطفى أخبره أنها بداية الزهايمر، وأن عليه وعلى أسرته تحمله مستقبلا مع صبر كثير .. لم تتفاجأ الأم مما ذكره المصطفى، فقد توقعت هذا بعد ما جرى بينهما صباحا، لكنها ظلت وحيدة تفكر في صمت طويل بعد خروج ابنها كيف ستصبح حياتها بعد حلول هذا الضيف الثقيل ببيتها، هذا الزهايمر الذي يمثل دور مجموعة رجال في رجل واحد؟ وكيف ستتحمل رؤية رفيق العمر وهو لا يذكرها؟
ظلت كذلك ساهرة لوقت طويل، والمختار في سبات عميق، ثم أخذتها سنة فجأة، ولم تعرف كم مر من الوقت حين أحست بحركات غريبة، ففتحت عينيها، لترى رفيق الدرب، قد ردته ثورة الشباب لبزته العسكرية، وهو يردد
"إنا حلفنا القسم ألا نخون الوطن
و أن نجود بالدما للذوذ عن حمى الوطن [•••]"
ظلت تنظر إليه دون أن تصدر حركة، لولا أن دمعة فاجأتها بدفء خفيف على خدها ..، لكنه حين خرج من الغرفة حاولت أن تتبعه، فرأت أنه يبحث عن أي باب يفتحه يريد الخروج منه إلى الشارع، وينادي باسم أمه يسألها إن كانت قد رأت عطره المفضل ، ولكن كيف سترد عليه أمه؟ قد تجيبه روحها في غياب عن الواقع، إلا أن حليمة كانت تحاول في كل لحظة مسايرته لعل هذا يخفف عنه، ولتمنعه عن الخروج بطريقة ما، فكان أن مدته بعطر تركزت فيه رائحة العود، لتفاجأ به يقول لها _ كل ما يأتي من عندك " أمي" فضل وبركة يا لالة الغالية. وضع بضع رشات، ثم سألها أن تدعو له، وتحدث أباه لأجل أن يقبل زواجه ب " لورين" ، (Lauren) التي أحبت هذا البلد، كما أحبه والدها، فاستقر على غير عادة الفرنسيين الذين يجعلون الفيلا سكنا لهم بحي جديد غالبا برياض في المدينة القديمة، وأكد لها أن Lauren تحبه أكثر من حبه لها
ذرفت حليمة دمعات ، فقبل المختار رأسها ورجاها أن تقنع أباه قبل عودته، وإلا فقد لا يرى لورين، أما حليمة ابنة صديقه المناضل فلن يتزوجها ولا يريدها لأن قلبه لا يحب غير لورين.
في هذا الوقت كان المصطفى قد عاد ليطمئن على والديه، ويرى إن كان يلزم أمه شيئا قبل أن يذهب لعمله، فأحزنته الدموع الساخنة التي مسحها بأنامله على خد أمه، وتلعثمت الكلمات بلسانه فسكت. أمسك بيد أمه، وطلب منها ألا تبالي بوالده مادام هادئا، وأن تهتم بنفسها أكثر وبصحتها، وقاطع حديثهما مشهد الأب وهو يغني:
"C'était un jeune marin
Qui revenait de guerre
Qui revenait de guerre avec son régiment
Pour aller voir Adèle
Adèle sa bien aimée,
Le jeune marin s'en va chez son capitaine :
Bonjour mon capitaine ,
donner moi un congé
Pour aller voir Adèle ,
Adèle m'a bien aimée "
لم يتمالك المصطفى نفسه، فقال لأمه:
سأحاول بأقرب وقت أن أجد له مكانا بدار المسنين، سيعتنون به، لا يمكنك أنت الاعتناء به وهو على هذه الحال ،وأكيد أنها ستشتد وتصعب.
_ لا أستطيع أن أرمي عشرة عمر في رمشة عين، وأن أسمح لشخص آخر بأن يعتني بزماني، هذا أبوك وأبو جمال، وسيظل والدكما .. عشت معه أكثر مما عشت في بيت والدي..
_ عانيت معه منذ زواجك، يكفي، دعيني أرعاك أنا، تسافرين معنا، تلاعبين صغاري، وصباح تحبك ستعاملك كأمها.
_ أبوك قال لي قبل أن يحصل له هذا " أنت حبيبتي التي تستحق مني هدايا الدنيا كلها.
قالتها، وبكت، كأنها أحست أن هذه العبارة، لم يكن يخاطبها بها هي وإنما خاطب بها Lauren.
أنت السبب، دائما تثرثرين، وتكثرين لغطك حتى أنسى المفتاح.
استغربت حليمة من صراخ زوجها بهذا الشكل فجأة، وظلت تنظر بذهول ليسراه تلوح بالمفاتيح، وهو يحاول صب غضبه عليها بشتى وسائل التعبير، لعل لعنة ثرثرة حليمة تزول عنه.. حليمة التي لم تتمكن من استيعاب اللحظة، حليمة التي وقفت مشدوهة تتساءل: كيف لزوجها الذي قبل رأسها قبل خروجه، وهو يسألها ماذا تحتاج فابتسمت، ورد هو على ابتسامتها أنها هي حبيبته التي تستحق منه هدايا الدنيا كلها، ثم خرج، ولم يمر على خروجه بضع ثوان أن يعود ثورا هائجا لم تره منذ كان أطفالهما صغارا؟ أيمكن أن يكون قد تلقى اتصالا امتعض منه لهذا الحد؟
انتبه المختار أن المفاتيح بيده فثار أكثر وصاح مخاطبا تلك الواجمة أمامه
أنت السبب .. أنت السبب
ثم خرج؛ فتبعت حليمة خطاه كآلة وضع لها صاحبها بطارية جديدة، فتحت الباب، وسارت خطوات لتتأكد أنه حقا خرج من باب العمارة، وحين رأته خرج فعلا عادت لتدخل شقتها والدموع تتجمع بعينيها مع دهشة تطرح تساؤلات عديدة .. فكرها الذي ظل مشغولا منعها من متابعة أشغال البيت، وراحت تطل من شرفة المطبخ، وإن كان المختار لم يعد يظهر له وجود بالشارع، لتسمع طرق الباب فأسرعت ودقات قلبها تتضاعف، أيعقل أن يكون زوجها عاد غاضبا من جديد؟ ما علته هذه المرة؟ ترى ما الذي جعله هكذا؟ الأسئلة مازالت تصب وابلها على رأس حليمة التي فتحت الباب في خشية، لكنها اطمأنت متنهدة حين رأت ابنها يدخل بعد فتح الباب، إلا أنه كان منفعلا أيضا فقد قلق عليها حين اتصل بها ولم ترد، ودق الباب ولم تفتح سريعا، حتى طرقه بقوة، وقبل أن تنبس ببنت شفة سألها:
ماذا طلبت من أبي أن يحضر لك؟ إنه واقف بالأسفل ينتظرني، يقول إنه نسي طلبك، ويخشى قلقك منه إذا عرفت أنه نسي ما تريدين..
ردت في استغراب هادئ:
أنا لم أطلب منه شيئا.
ثم صاحت كمن تذكر أمرا مهما، يجب إدراكه:
الحق أباك، وعد به سريعا إلى البيت، الحقه قبل أن ينسى نفسه.
حاول المصطفى أن يستوعب كلام أمه، لكنها منعته من أي تفكير أو سؤال ، دافعة إياه نحو الباب ليخرج ويعود بوالده، وخرج فعلا، وحين عاد بعد أقل من خمس دقائق، عاد دون أبيه وأخبرها أنه ربما تذكر ما كان يريد، وأنه ليس واقفا حيث تركه، وجن جنون المرأة، فصاحت معاتبة ابنها، وقلق ما يرتبك بلسانها، أما الدموع التي تكدست قبل لحظة بعينيها، فقد تحولت إلى عرق كأنها تعوم به. لم تعد تحس الماء الذي بوجهها أهو دمع أم العرق الذي ولده القلق ولسان حالها يؤكد أن المختار فقد عقله فجأة، وأنه الآن فقط صار كما كانت تقول له لحظات الغضب " المخ طار "، فيبتسم ابنها البكر، ويضمها إليه ليذكرها دون أن ينتبه أحد: { ولا تنابزوا بالألقاب}، ويظن أباه أنه يضحك لما تقول أمه، لكن الابن يعانق غضب الأب بلطف، ثم يغني له مقطعا من الأغنية الشعبية " العطار يا العطار" مستبدلا " العطار بالمختار؛
" آش دواك يا المختار
المختار يا المختار
دوايا ودواك يا المختار
المختار يا المختار
لالة حليمة يا المختار
المختار يا المختار"
وأحيانا قد يختار تهدئته بقوله إن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو المصطفى المختار وأن اسمه من اسمه عليه الصلاة والسلام .. هكذا كان جمال يصلح ذات البين بين والديه منذ كان صبيا، فينقلب الغضب سريعا لطرافة وفرح، لكن جمال فقد حياته إثر حادثة سير قبل ما يناهز السنة، غابت فيها لحظات ضحك كثيرة بغيابه، وغربت طرائف ولحظات ابتسامات كانت دائمة الإشراق بوجوده.
عاهدت حليمة روح ابنها بعد وفاته، ألا تنادي أباه ب" المخ طار" فقد كانت أحيانا تقولها لوالده، فقط لتعيش تلك اللحظات الجميلة مع ابنها، لكن من سيخلق هذا الجمال بعد غياب جمال؟! ألحت حليمة على المصطفى أن يعود للبحث عن أبيه، لكنه بعد خروجه بوقت وجيز، اتصل بأمه يخبرها أن أباه لابد عائد، أما هو فمضطر للعودة إلى بيته حتى يأخذ صغيريه إلى فضاء الألعاب كما وعدهما. تقبلت الأمر على مضض وظلت بالبيت وحدها، تراها تنبس بكلمات غير مفهومة في غضب، تذهب إلى الشرفة أو النافذة تتفقد وجوه المارين، لعل وجها من الوجوه لزوجها، أو لعلها تعرفه من الخلف بمشيته العسكرية كما يقول أصحابه، لكن دون جدوى .. كثيرة هي الأفكار التي جالت بخاطرها؛ زهايمر؟ جنون؟ صدمة؟ ظلت تتذكر ما حدث منذ خروجه الأول من البيت هذا الصباح ،وكيف سمحت نفس ابنه له أن يعود لبيته وهو لا يعرف أين أباه، وماذا يمكن أن يكون قد حصل له؟ تحاول حليمة الاتصال برقم المختار، ولا مجيب يمكنه الرد على الهاتف، تتمنى لو أن أحدهم يتفقده ويرد بدلا عنه، ويخبرها أين هو لتذهب إليه وترجعه لبيته، لكن لا شيء من هذا يحصل، تفكر في الاتصال بالمصطفى ثم تتراجع حين تتذكر أنه مع صغيريه فلا ترغب في إزعاجهم.. تفكر في الخروج للبحث عنه، وتخشى أن يعود للبيت ولا يجد أحدا.. تأخر المختار عن الغذاء، ثم عن درس المسجد الذي أخبرها أنه يريد حضوره هذا الأسبوع، وبدأت خيوط الشمس الحمراء تنتشر في زرقة السماء، وليس للمختار أثر، ولم تعد حليمة تتحمل، أخذت هاتفها لتتصل بالمصطفى. يداها المرتجفتان تحاولان كتابة الحروف الأولى لاسم ابنها على الهاتف، وإذا بهذا الاسم يسبقها للظهور على الشاشة مع رنين، وترد حليمة سريعا فتسمع:
ماما أنا عائد إلى البيت مع أبي، قد وجدته أخيرا.
- الحمد لله.. الحمد لله .
فرحت بالخبر، وأغرقت ابنها دعاء والدموع تفيض من عينيها، وطال وقت الانتظار وهي تسير من هنا إلى هناك .. تائهة لا تعرف ماذا عليها أن تفعل! وأين كان، وهل أكل؟ ولماذا وكيف غاب فجأة؟ وماذا حصل ؟ .... وها هي من الشرفة ترى ابنها يقترب من البيت برفقة والده، فتسرع ناحية الباب لتتفقد (زمانها) وتطمئن عليه
.. يظهر الزوج مستندا كتف ابنه في صمت، والمصطفى يمرر سبابته على شفتيه أمام أمه، حتى لا تتحدث، ويدخلان معا، وتبقى حليمة صامتة في ذهول بينما أحداث اليوم تمر أمام عينيها حدثا حدثا في صخب.
كان المصطفى قد أخذ والده لغرفته حتى ينام، ثم عاد لأمه يحكي لها تفاصيل إيجاده، وكيف اتصل به الطبيب أحمد الذي لفظ أخوه أنفاسه الأخيرة بعد حادثة السير، ليخبره أن الأب دخل يسأل عن جمال، وحين أخبروه أن هذا الاسم لا يوجد عندهم، ظل يصرخ هناك ويطلب رؤية ابنه، ويقول إنه لن يتحرك إلا إذا رأى فلذة روحه أمامه. سمع الطبيب أحمد صراخه، عرفه فاتصل بالمصطفى، ووعد المختار برؤية ابنه محاولا تهدئته، وحين قدم المصطفى أخبره أنها بداية الزهايمر، وأن عليه وعلى أسرته تحمله مستقبلا مع صبر كثير .. لم تتفاجأ الأم مما ذكره المصطفى، فقد توقعت هذا بعد ما جرى بينهما صباحا، لكنها ظلت وحيدة تفكر في صمت طويل بعد خروج ابنها كيف ستصبح حياتها بعد حلول هذا الضيف الثقيل ببيتها، هذا الزهايمر الذي يمثل دور مجموعة رجال في رجل واحد؟ وكيف ستتحمل رؤية رفيق العمر وهو لا يذكرها؟
ظلت كذلك ساهرة لوقت طويل، والمختار في سبات عميق، ثم أخذتها سنة فجأة، ولم تعرف كم مر من الوقت حين أحست بحركات غريبة، ففتحت عينيها، لترى رفيق الدرب، قد ردته ثورة الشباب لبزته العسكرية، وهو يردد
"إنا حلفنا القسم ألا نخون الوطن
و أن نجود بالدما للذوذ عن حمى الوطن [•••]"
ظلت تنظر إليه دون أن تصدر حركة، لولا أن دمعة فاجأتها بدفء خفيف على خدها ..، لكنه حين خرج من الغرفة حاولت أن تتبعه، فرأت أنه يبحث عن أي باب يفتحه يريد الخروج منه إلى الشارع، وينادي باسم أمه يسألها إن كانت قد رأت عطره المفضل ، ولكن كيف سترد عليه أمه؟ قد تجيبه روحها في غياب عن الواقع، إلا أن حليمة كانت تحاول في كل لحظة مسايرته لعل هذا يخفف عنه، ولتمنعه عن الخروج بطريقة ما، فكان أن مدته بعطر تركزت فيه رائحة العود، لتفاجأ به يقول لها _ كل ما يأتي من عندك " أمي" فضل وبركة يا لالة الغالية. وضع بضع رشات، ثم سألها أن تدعو له، وتحدث أباه لأجل أن يقبل زواجه ب " لورين" ، (Lauren) التي أحبت هذا البلد، كما أحبه والدها، فاستقر على غير عادة الفرنسيين الذين يجعلون الفيلا سكنا لهم بحي جديد غالبا برياض في المدينة القديمة، وأكد لها أن Lauren تحبه أكثر من حبه لها
ذرفت حليمة دمعات ، فقبل المختار رأسها ورجاها أن تقنع أباه قبل عودته، وإلا فقد لا يرى لورين، أما حليمة ابنة صديقه المناضل فلن يتزوجها ولا يريدها لأن قلبه لا يحب غير لورين.
في هذا الوقت كان المصطفى قد عاد ليطمئن على والديه، ويرى إن كان يلزم أمه شيئا قبل أن يذهب لعمله، فأحزنته الدموع الساخنة التي مسحها بأنامله على خد أمه، وتلعثمت الكلمات بلسانه فسكت. أمسك بيد أمه، وطلب منها ألا تبالي بوالده مادام هادئا، وأن تهتم بنفسها أكثر وبصحتها، وقاطع حديثهما مشهد الأب وهو يغني:
"C'était un jeune marin
Qui revenait de guerre
Qui revenait de guerre avec son régiment
Pour aller voir Adèle
Adèle sa bien aimée,
Le jeune marin s'en va chez son capitaine :
Bonjour mon capitaine ,
donner moi un congé
Pour aller voir Adèle ,
Adèle m'a bien aimée "
لم يتمالك المصطفى نفسه، فقال لأمه:
سأحاول بأقرب وقت أن أجد له مكانا بدار المسنين، سيعتنون به، لا يمكنك أنت الاعتناء به وهو على هذه الحال ،وأكيد أنها ستشتد وتصعب.
_ لا أستطيع أن أرمي عشرة عمر في رمشة عين، وأن أسمح لشخص آخر بأن يعتني بزماني، هذا أبوك وأبو جمال، وسيظل والدكما .. عشت معه أكثر مما عشت في بيت والدي..
_ عانيت معه منذ زواجك، يكفي، دعيني أرعاك أنا، تسافرين معنا، تلاعبين صغاري، وصباح تحبك ستعاملك كأمها.
_ أبوك قال لي قبل أن يحصل له هذا " أنت حبيبتي التي تستحق مني هدايا الدنيا كلها.
قالتها، وبكت، كأنها أحست أن هذه العبارة، لم يكن يخاطبها بها هي وإنما خاطب بها Lauren.