حوار مع الشاعر والمترجم المغربي مبارك وساط... أجراه: الشّاعر سعيد الباز

1- تعرّف القارئ المغربي على مبارك وساط من خلال "على درج المياه العميقة". كانت لحظة اتّسمت بالفعل بطابع الدهشة والانبهار، ورسمت بشكل حاسم حضور هذه التجربة الجديدة القادمة إلى المشهد الشعري المغربي، ووضعت لها مكانها الخاص في خريطة الشعر المغربي. كيف كانت البدايات التي أسست ل"على درج المياه العميقة"؟
* يُمكن إيجاز البدايات التي تسألني عنها في كلمة واحدة: القراءة، أعني قراة الشِّعر (والأدب على العموم) على امتداد سنوات طويلة، وبِشَغف مُتجدّد. في سِنّ مُبَكِّرة، كانت لديّ كتب شِعريّة وكنتُ أقرأ فيها باستمرار، فلا غرابة إذن في كوني كتبتُ نصوصاً عموديّة المظهر وأنا في نحو الرّابعة عشرة... وبعد تلك المرحلة التّمهيديّة، حلّت مرحلة القراءة الأدبية المرفوقة بالاطّلاع على النّظريّات الأدبيّة وتاريخ الأدب...
منذ البداية، توطّد ارتباطي بالشِّعر العربيّ القديم، وما أزال إلى الآن أقرأ من من حين لآخر، لكنّ قناعةً ترسَّخَتْ لديّ حدّ أنّها صارت عندي بمثابة شعور "طبيعيّ" أو تلقائيّ، وهي أنّ كتابة الشِّعر اليوم يجب ألّا تُخضَع لما كان يُسَمّى بعمود الشِّعر، ولا لمعايير أيّامٍ خَلَتْ... ولأنّي كنتُ، في المرحلة الثّانويّة، أَدْرُسُ بالفرنسيّة أساساً، فقد اطّلعتُ من خلال هذه اللغةعلى شِعر كثير، وأُعبتُ بشكل خاصّ بشعراء دادائيّين وسورّياليين وغيرهم، وشدّني إلى كتاباتهم ما كانت تحفل به من مظاهر التّمرّد. وبالطّبع، فقد اكتشفتُ شعراء عرباً من زماننا، كانوا يَسعون إلى كتابة شِعر جديد حقّاً. كلّ هذه عوامل حفّزتني على الكتابة الشِّعريّة، وشكّلت مُمهّدات لتكوّن كتابي الشِّعري الأوّل، وما سيليه من إصدارات. لكنْ، إضافة إلى ما سبق، فهنالك عامل ذاتي أساسيّ، مِن دونه ما كان لتلك العوامل الأُخرى أن تجعلني أكتب شِعْراً، وهذا العامل هو، ببساطة: الرّغبة في الإبداع عن طريق الكلمات.

2- المتتبّع لقصيدة مبارك وساط، وهو يدنو منها، أنّه مشرع تماما على نافذتين متجاورتين تُفضيان معا إلى مشهد متوحّد ومتناغم بشكل آسر: نافذة تشدّه إلى جمالية اللغة العربية بمتانتها ورصانتها وأسرارها الخفية، ونافذة أخرى تسرح به في عوالم الشعر الغربي بمنجزه الأكثر حداثة، خاصة الفرنسي في إرثه السوريالي. في نظرك كيف تلازم لديك هذا التعبير الشعري المتناغم بين هذين المستويين حيث يرفد أحدهما الآخر مثل رفيقي طريق؟
* لا شكّ أنّ لِقصائدي أجواءها الواقِعِيّة والحُلُميّة أيضاً، وأنّ فيها صُوَراً مستقاة من العالَم الحِسّيّ وأخرى مِن خيال قد يكون مُجنّحاً في كثير من الأحيان. وبالتّأكيد، فلثقافتي الشِّعريّة دورها في كلّ ذلك، وهذا من البديهيّات. وإعجابي بالسّورّيالية لا يدعني إلى اقتناص الصُّوَر العجيبة كيفما اتّفق. كلّا، فأنا لا أميل بتاتاً إلى القصائد المشحونة بِصور اعتباطية تماماً. أعتقد أنّ قصائدي تبقى ذات ارتباط، بشكل غير مباشر ولا شكّ، بشخصي وبحياتي الواقِعيّة وعوالمي الدّاخليّة... سأعطيك مثالاً غريباً بعض الشّيء، وهو يستثير منّي ابتسامة خفية الآن: في وقت ما، كنتُ قد أدمنتُ أفلاماً من النّوع الهيتشكوكي وكنتُ قد خضعتُ لعمليّة جراحية وأحوالي النّفسيّة طالَها بعضُ الانقباض، وأصبحتُ أرى كوابيس في منامي، لكنّي كنتُ أتتبّع تلك الكوابيس كأنّها مشاهد في فيلم لا أشاهده فحسب، بل أُمثّل فيه أيضاً، وفي ذلك السّياق، كتبتُ قصيدتي التّالية، وعنوانها "بحنين": "أحياناً، أستدرجُ كوابيس / إلى غرفة نومي / صمتي جَـبَـلٌ / مكسوّ بالجليد / فـما عليّ إلا أنْ أُمسك عن الكلام / لأتزلَّج وأنْـتَـشي / لكنْ أمتعُ من هذا بعضُ الكوابيس / التي تندثرُ فيها سُلالات / وتتبخّر جُزُر مغناج / وتتذكّر الصّحراءُ البحر / بِحنين"... مثل ثانٍ: هذا مقطع من قصيدة "خيمة الغُبار"، المُدرَجة ضمن مجموعتي الأولى، "على دَرج المياه العميقة": "مِن جديد، بدأَتِ القوارب الكاسرة تَخيط بمِسلّاتِها الذّهبيّة أفواهَ الأنهار، بينما الخريف يَنسج علاماتِ استفهام على وجوه العابرين! نبوءاتٌ وخِيمةٌ أستشفُّها في عيني يمامةٍ تُحتضر، وأخبارٌ غامضة تبثُّها إذاعة الزَّبَد عن مصيري الأكثر غموضاً..." إنّ هنالك طبعاً صوراً شِعريّة ذات طابع سورّياليّ (قوارب تخيط أفواه الأنهار بِمسلّات ذَهَبِيّة، خريف ينسج علامات استفهام...)، لكن لهذا النّصّ أيضاً خلفيّة رهيبة ومأساويّة بصورة ما، تشهد على خُصوصيّات تجربة كاتبه في مرحلة مُعيّنة، بل والخصوصيّات السّياسيّة-الاجتماعيّة التي عرفها المجتمع المغربيّ خلال سبعينيّات وبدايات ثمانينيّات القرن الماضي، وهي نفس الظروف التي عاشها خلال ما أصبح معروفاً بسنوات الرّصاص...
بعد أن تحدّثتُ عمّا أَسميتَه النّافذة الثّانية، أعود إلى الأولى: جماليّة اللغة العربية. في هذا الصّدد، أقول: لولا محبّتي لِلعربيّة، لما كتبتُ بها. لقد قضيتُ زمناً طويلاً قارئاً أدبنا العربيّ قديمه وحديثه، ولا أزال أقوم بذلك. لا أحبّ التّقعّر في التّعبير، ولا أستعمل الألفاظ المُماتة طبعاً، لكنّ العربيّة المعاصرة غنيّة إلى أبعد الحدود، ولا أتحمّل قراة كتابات فقيرة لُغَوّياً إلى حدّ مؤسِف. في أحيان نادرة جِدّاً، قد يكون هنالك تلميح في إحدى قصائدي إلى بيت من التّراث الشِّعريّ العربيّ. لنقرأ هذا المقطع (وهو من قصيدة لي بعنوان "خيمة الغُبار"): "... جاء حرّاس قوس قُزح. وأناسٌ عديدون وغلايينُ سُودٌ كأنَّها من شُيوخِ بني حام... ". الإشارة هنا هي إلى بيت مِن إحدى خمريّات الشّاعر أبي الهنديّ، وهو التّالي: "يَمجّ سُلافاً من زِقَاق كَأنّها / شُيوخُ بني حام تحنَّتْ ظُهورها"... وهذه الإشارة جاءتني بشكل عفويّ، وأعجبتني بالتّأكيد...

3- تبدو تجربة وساط مبارك الشعرية قد تخلّصت مبكرا من أعطاب جيل الثمانينات وما قبله بهمومه الأيدولوجية والسياسية، واختطت لنفسها مسارا شعريا مختلفا. هل كان ذلك لأسباب ذاتية أو موضوعية؟
* في مرحلة ما، ساد توهّم بأنّ الشِّعر يجب أن يكون حاملاً لخطاب سيّاسي مباشر، ولشعارات... لكنّ القصائد المكتوبة انطلاقاً من ذلك التّصوّر كانت تُكَرّر نفسها باستمرار، وبِالطّبع، فهي لم يكن لها أيّ تأثير فِعليّ على الصّراعات الاجتماعيّة. فكيف يُعقَل أن يكتب شاعر بشكل هتافيّ كلاماً مكروراً لافائدة منه في الواقع، ولا قيمة له من النّاحية الفنّية. خلال الثّمانينيّات، لم أكن الوحيد الذي طرح على نفسه مثل هذه التّساؤلات ورغب في كتابة شِعر ينجم عن مغامرة استكشافية تُعتمد فيها اللغة والخيال والحواسّ... من أجل إنتاج نصوص لا تُكرّر نفسها ولا تُحاكي غيرها. فهنالك شعراءء آخرون كتبوا في تلك الأيّام برغبة تجديديّة، من بينهم: أحمد بركات، محمّد الصّابر، محمد عزيز الحصيني، الزّهرة المنصوري، محمّد بودويك، إدريس عيسى... لا أقول إنّهم قاموا بذلك بشكل متزامن تماماً، وليس هذا بالأمر المُهِمّ على أيّ حال...
إذا أردتُ العودة إلى حالتي الشّخصِيّة، فسأقول إنّي كنتُ (ولا أزال) يساريَّ الهوى، لكنّي كنتُ واعياً بأنّ "النّوايا الحسنة" وحدها لا تُعطينا شِعراً جيّداً...

4- شغلت الترجمة حيّزا هاما من نشاطك الإبداعي، وقدّمت للقارئ المغربي والعربي أعمالا أدبية مهمّة تميّزت بالدقة والحرص على عبورها بأمان بين ضفتي لغتين متباعدتين أحيانا، بشكل يحفظ للنص الأصلي جماليته والنص المستقبل حُسن وفادته. كيف تتمّ لديك اختياراتك في الترجمة، وطريقة اشتغالك عليها؟
* لا أُترجم إلّا نصوصاً تُعجبني. ترجمت لشعراء لهم حضور في ذاكرتي كقارئ، وأثّر بعضهم في ثقافتي الشِّعرِيّة. حين أترجم لشاعر، فأنا أسعى إلى أنْ أعيش تجربته مِن خلال لغتي، وأعمل على تقديم تلك القصيدة في الصّيغة الأكثر ملاءمة لها.

5- كلّ الشعراء مهووسون بأمكنتهم الخاصة. ماذا تعني لك هذه المدن التي نكاد نجد أطيافها تلوح في قصائدك: اليوسوفية، كلميم، أكادير…
* - اليوسفية: عِشْتُ فيها سنوات في الطّفولة وبدايات الشّباب. ذكرياتي عنها طيّبة. زُرتُها قبل نحو سنة. لي فيها عائلة وأصدقاء.
- كلميم: درّستُ فيها، ذكرياتي عنها وعن أهلها جميلة. لي فيها أصدقاء.
- أكادير: ما قُلته عن كلميم يصحّ أيضاً عن هذه المدينة.
وإذا ما أردتُ الإجابة عن سؤالك بِإسهاب، فيلزمني تأليف كتاب في هذا المضمار.

6- الصداقات الأدبية والشعرية تحضر خاصة في ترجماتك، حيث يبدو الكثير منهم أنّهم أصفياؤك وتدين لهم بالمحبة، أذكر هنا: محمد خير الدين أندري بروتون روني شار... كيف تحدد لُحمة هذه الصداقات وروابطها القوية؟
* كما أشرتُ سابِقاً، فإنّي لا أُترجم مِن الشِّعر في الغالب - إلّا ما يُعجبني شَخْصِيّاً. لِذا يُمكن الحديث عن محبّة وإعجاب أُكنّهنا لشاعرات وشعراء وفنّانين بوجه عامّ. أمّا تجديد أواصر القُربى مع من ذكرتَ ومع آخرين غيرهم، فيتمّ بالاهتمام بنصوصهم، إمّا عن طريق إعادة قراءة بعضها أحياناً، أو ترجمتها إلى العربيّة إن توافر لي الوقت والعزيمة...

7- بعد "محفوفا بأرخبيلات" و "راية الهواء" و"فراشة من هيدروجين" و "رجل يبتسم للعصافير" و"عيون طالما سافرت"، تُصدر روايتك الأولى"وديعة خُفاف" كيف كان هذا الانتقال من الشعر إلى الرواية ودواعيه؟
* هذا ليس انتقالاً، وكتابة رواية أمر لا يتطلّب دواعي خاصّة. كيف ذلك؟ إنّ الذين يُزاوجون بين الكتابة الشِّعريّة وكتابة الرّواية هم كثيرون جِدّاً، أذكر منهم فيكتور هيغو وغوته وريلكه وبول أوستر ومحمد ديب وسليم بركات... فالمسألة عادية جِدّاً، وليست انتقالاً بالطبع من جنس أدبيّ إلى آخر. أنا معجب بالكتاب الذين يرتادون مجالات إبداعيّة عِدّة، فمنهم مَن يُمارس الصّباغة (التّشكيل) أو الإخراج السّينمائيّ أيضاً... ومن الكتاب المغاربة من يكتبون الشّعر والرّواية أيضاً... فأنا لا أعرف عداوة ما بين نمطي الكتابة المذكورين...
فيما يخصّني شَخْصِيّاً، فخلال الثّمانينيّات وما بعدها، نشرتُ قصصاً قصيرة في نفس الوقت الذي كنتُ أنشر فيه قصائدي، لكنّي لم أجمع تلك القصص في مجموعة، وسأفعل ذلك في يوم ما. كما أنّي كنتُ قد بدأتُ كتابة رواية في منتصف التّسعينيّات، وأنجزتُ منها بضعة فصول، لكنّي أضعتُ تلك الفصول للأسف...
فيما يَخصّ "وديعة حُفاف"، فممّا كتبه عنها النّاقد عبد الله كرمون: "... تطرق فيها الكاتب وسارده والشخصيات الأخرى المتناوبة على السرد لهموم جيل بأكمله. بالعودة إلى سنوات السبعينيات..."، وليس هذا كلّ ما في الرّواية، لِذا أترك أمر استكشاف مضمونها للقارئ.

[HEADING=2] - جريدة الأخبار المغربيّة: عدد 14 - 08 - 2024 )[/HEADING]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى