العربي عبدالوهاب - رجل قصير يعشق الظل...

هب أنك ارتقيت - ذات مساء متأخر - سطح عمارة عالية - كتلك - على طريق عام يغطيه سواد المازوت ، ويمتد كعامود مخترقا صدر هذه الأحياء .. تماماً .. تماماً كهذى العمارة الخازوق.
صعدت - هكذا - بلا مبرر ، وقت أن غلف الضباب أسطح البيوت وعشش الدجاج.
وحين تطلعت للوراء ، رويدا ، كانت الأيام الفائتة تسحب العمر بخفة باردة ، حاولت الذاكرة أن تطفو بالزمان العابر .. ورويدا .. رويدا تراءت أرض الشونة والعم حامد يبتعد ، يداه خلف ظهره ، يدب بقدمه فوق أشواك برية، وللبعيد يتطلع حيث آخر حدود الشونة وأكوام القطن.. وعربات النقل .. شحن .. وتفريغ .. ضجيج .. ساعتئذ فتش جيب جلبابه الكستور عن كوبون الجاز .. لم يكن .
كما لم يكن إبراهيم سوى لحمة حمراء.
كنتُ أرتكز ـ بصعوبة ـ على قدمىَّ ، حتى تمرق رأسى ـ بالكاد ـ من بوابة صفيح واطئة بفعل الشارع والتراب ، تمرق رأسى فينفتح براح الشونة أمامى ، يحفه سور طينى ودروس الثانوى العام ومباريات كأس العالم فى حجرة وحيدة على يسار البوابة ..
إلى أين انسربت الأيام ؟؟!
إلى مدافن المبرز المجاورة ؟؟! للعم حامد بقصَره الملحوظ ؟! أم لشجيرات الصبار .. كأنه استعاض عن العالم - الآن – بها ؛ ثم انتقل بضعة أمتار ليرقد فى مقبرة بلا شاهد .. ربما يقوم كل مساء ، دائرا حول أرض الشونة التى سارت سوقا للباعة من كل صنف ولون ، ربما يستند بظهره إلى جدار حجرى من مخلفات حجرة الحراسة .. ويتراءى له زمانه العابر.
* * *
قال العم حامد لا مرأته :
ترعرعت الصبارة ، هزت رأسها بلا اهتمام ، بينما كانت تراقب دخول الشاى فى الغليان .. ناولته الكوب . ونادت إبراهيم ليأخذ الشاى
: نحتاج الرفاعى يا رجل
: أأ ضرب الأرض فيخرج ؟!
كان مغتاظاً لكثرة ظهور الثعابين فى الشونة ولم يقل لها : كله بسبب الشقوق ، تنهدت ولم ترغب في التهوين عليه ..
: أنا خائفة على العيال .
: الثعابين لا تؤذي إلا من يعترضها .
* * *
ذلك الصباح ، كان يرص قوالب الطوب بتأنٍ ويكوِّم فوقها الطين لزجاً في شتاء طوبة ، ثمة شبورة تحط على العم حامد . كادت قدمه تنزلق عندما مررت عليه بكراريس الدرس .
: صباح الخير يا عم..
همهم بصوت خافت.. نادانى قبيل ابتعادى .
التفت للوراء . كان يبدو كطيف وسط الضباب :
: لماذا لا تصطحب إبراهيم معك !!
كان إبراهيم يتطلع للبعيد عندما سألته ، وأجاب .
لا أحب الدروس الخاصة .
انصرفت بلا وداع قائلا :
المرة القادمة
من الذى دفعنى فجأة ، كى ألتفت .. وأراه ثانية .. وحيداً فى شارع طويل ضيق ، يسند بيديه سور الطين ، سور يتداعى ، بلا أحد ..
كان فراغ الشونة هالة من ضوء تزحزح الظلمة . ويثبت المشهد فى ذاكرتى .
.. مؤكدأن ورشة الأتوبيس وعزبة التل والمقابر ينامون تحت كثافة الضباب والعجوز يرتعش ، كلما تغلغلت البرودة فى المسام يثبت قوالب الطين - فى مواضعها - بطين لزج . ذلك الصباح ببرودته وضبابه والعم حامد .. هم وقود عربتى المتخلعة الآن.
* * *
قال إبراهيم : حبسوه
يوم معركة المطاوى والنبابيت والسنج ، بين الغرباء القادمين لنجدة أبناء العزبة من فتوات العزبة المجاورة ، قال : كنت أدل السائل على المختبئ وراء الأحواش والمتقوقع فى العيون المهجورة ..أشير يمينا ويسارا كاشارة المرور وأفكر أيمكننى أن أغير مقعدى .. وأمشى عشرين مترا تقريباً لأفتح الباب الصاج ، مزيحا الترباس منجداً أبى ؟!!.. بينما كان لسانى يردد وحد ه مكَرٍ .. مفَرٍ ، مقبلٍ ، مدبرٍ معا كجلمود صخر ، حطه السيل من عل .
* * *
تهدمت تماما .. انفتحت أرض الشونة على بيوت العزبة والمقابر ، مهدها الأولاد للعب الكرة .. بمهارة العفاريت والأيام ، اقتلعوا الأشواك البرية ، ونصبوا حدود ملعبهم بعد العركة تقريباً .. وغاصت بذور القطن فى الشقوق . تلك الشقوق التى التأمت ، بتناقل الكرة بين العفاريت ، وباعتلاء أبناء العزبة أسوار الأحواش والمقابر للتهليل والصفير .
وكانت الحكومة قد خسرت قضيتها ، وتركت المصنع والأراضى المجاورة والشونة ، فتقرفص العم حامد فوق حجر أبيض يؤثره . أمام بيته ذى الغرفة الوحيدة ، وراء ظهره مقبرة أبناء القنطرة شرق وأمامه الشونة كالأرض البوار ، تعلقت عيناه باللافتة الحديدية الواضحة ( أرض ملك )
ورثة عبدالعزيز باشا رضوان
* * *
قبيل الغروب .. يتوقف فى بلكونة غرفته شاخصا للمقابر والكافور والصبار ، والعيال الذين يتقافزون من حوش الباشا على شجرة دقن الباشا ، هابطين إلى مدافن الصدقة .
* * *
كان انتقاله يسيرا ، نسمة صيف . لم تبكه سوى امرأته ، وابنته ، وجيرانه ، بعض أقاربه الحميمين وإبراهيم . ولم يمر بحوش الباشا ، لأنه قدم رأسا من المستشفى أثر نزيف بالمخ ، فأسقطته الإسعاف هنا .. لم يطر بالنعش فقط ارتفع قليلاً بأيادى مشيعيه .. وأسرع .. ربما يكون قد ألقى نظرة للوراء .. على الشونة .. دقيقة واحدة ، قبيل المغرب تقريباً ثم سار فى طريقه .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى