- لماذا..؟ ليس إلا صندوق خشبى فقد قيمته..
قالها الرجل بائع الروبابيكيا باستنكار وراح يتفحص الصندوق بعناية خبير, حين زعقت أمى التى تقف فى مواجهته, حاجزة بيدها وجسدها ذلك الصندوق, ومتهيأة للبكاء "إلا هذا .. إنه مثل أمى" ..قالتها بانفعال مفاجئ, أسكن الرجل فى مكانه وهو يتأمل الصندوق صامتا.
كان صندوق قديم فعلا مصنوعا من الخشب ومركونا بعيدا عن قطع الأثاث التى تم الإتفاق على بيعها .. بدا من لمعة عين البائع من اللحظة الأولى التى وقع نظره عليه, أنه تحفة فنية فقد الكثير من جماله وإن بقى محتفظ بمهارة الفنان الذى صنعه .. كان طوله متر تقريبا وعرضه نصف المتر ويرتفع نصف متر عن قاعدته التى تحتوى على أربعة أدراج, زينت بمقابض من العاج الأبيض .. مبطن من الداخل بقطيفة حمراء لا تزال تحتفظ بلونها ونعومتها, كما كانت الجدران من الخارج مزينة بقطع من الصدف والنحاس, وقع معظمها بفعل الإهمال والزمن .
كنا جميعا نعرف, أنه ميراث من عائلة جدتى, ورثته لتضع فيه حليها وملابسها وحاجاتها القيمة وقت أن كان عليها الإنتقال وهى عروس إلى بيت جدى, ومع مرور السنوات اعتبرته جدتى شئ آخر, وراحت تستخدمه فيما بعد لغرض أكثر قيمة وبشكل لم يكن يخطر على بالها وقت أن ورثته عن أمها وهو أن تستخدمه كمكان لتخزين ذكرياتها ..لم يكن شيئا مهما وقتها للآخرين, بل على الأكثر كان سببا مضحكا, وهو أن ذكرياتها أصبحت هاجس مصيرى .. ومع مرور السنوات اكتسب الصندوق هذه الصفة, ومن ثم أطلقنا عليه الإسم الذى ظل مرتبطا به إلى الأبد وهو صندوق الذكريات ..
من هذا الوقت, حرصت جدتى أن ترمى فيه كل ما كان له صله بأيامها, وكانت لا تنسى أن تقف فى نهاية كل يوم قبل أن تذهب لنومها وتنزع ورقة التقويم من نتيجة الحائط وتلقيها فى الصندوق بتأشيرة مكتوبة بخط يدها على ظهر الورقة, ومع مرور الوقت راح الصندوق يمتلأ بأشياء عديدة .. شهادات ميلاد, شهادات دراسية لمراحل عمرية مختلفة, قطعة قماش من فستان ذات أهمية خاصة ومرتبط ارتباطا وثيقا بأحداث غير عادية .. فساتين لأمى وشقيقاتها وهن فى أعمار صغيرة مختلفة, حين كن يتعلمن استخدام أدوات المائدة والتى كانت لاتزال تحمل أثار الطعام المسكوب عليها، اوراق مالية متنوعة عليها عبارات حب فى مناسبات أعياد الميلاد, صور بالأبيض والأسود لمراحل العمر المختلفة, ملابس جدتى الداخلية والتى لبستها فى أيام زفافها, أيضا ملاءة سرير عليها أثار أول علاقة حميمية مع جدى .. شوك وملاعق وأطباق مكسورة تسببت فى أحزان عاطفية, كتب ومجلات قديمة، خطابات من جدى إليها من أيام الحب الأولى مجمعة مع بعضها, ومرتبة بتواريخ إرسالها ومربوطة بشريط من الساتان الأزرق ..
جدى كره الصندوق من اللحظة الأولى التى رآه فيها حيث اعتبره مثل توابيت الموتى, وارتعب من أن يكون ذلك نذير شؤم لحياته القادمة, إلا أن رغبته الجادة فى إسعاد جدتى جعلته يشاركها فيما بعد هذا الإهتمام الغريب, فراح هو الآخر يلقى فى الصندوق كل ماكان يمر فى حياته من لحظات عابرة حيث كان قد اقتنع مؤقتا بأفكار جدتى من أنه من الممكن تحويل اللحظات العابرة إلى ذكريات ذات قيمة يمكن تخزينها من أجل السنوات القادمة ..
بعد سنوات طويلة وكانت جدتى قد تخطت العقد السادس من عمرها,لم يستطع جدى أن يخفى استيائه من هذا الصندوق, حيث بدأ الأمر يشكل له ألما مريرا كان يأتيه على شكل مخاوف مستمرة فى رأسه, بدأ هذا عندما راحت جدنى تعانى مرض فقدان الذاكرة فى مراحله الأولى, ودون أن تدرى كانت تلجأ إلى صندوقها, حيث كانت تبدو لنا وكأنها فى حالة نهم شديد لكل مايقع فى يدها من الصندوق, بادية لمن يراها فى هذه الحالة أنها على وشك أن تلقى ما فى يدها إلى فمها .. حدث هذا مرة, عندما أصرت أمى من أن تنزع من فمها أحد الخطابات القديمة ألقتها بين أسنانها وراحت تلوكها .. كان يحدث فى حالة شديدة من دهشة جدى الذى لم يكن يجد التفسير المطمئن للحالة التى كانت جدتى تمضى إليها .
مع مرور الوقت, راح المرض يسيطر على ذاكرتها بقوة ويجعلها تنسى أشيائها الهامة, فكانت تنسى أين تضع كيس نقودها ولا تعود تسأل عنه .. الأشياء السهلة والبسيطة والتى كانت تمارسها بشكل يومى,لم تعد تستطيع أن تقوم بها لدرجة أنها عجزت عن صنع فنجان قهوة بعد أن وقفت لمدة نصف ساعة أمام عدة القهوة, تائهة وهى ترتعش, لا تعرف كيف تبدأ تحت زعيق وصراخ جدى ..
بدأت تخطىء الأماكن, فكانت تقف طويلا فى مكان ما وهى ساهمة, وكأنها تسأل نفسها كيف وصلت إلى هنا, كما يبدو عليها الفزع حين كان يتعين عليها العودة ولا تستطيع.. أمام حالات الغضب التى تنتاب كل من كان يتعامل معها, أصبحت حادة المزاج .. ارتضت بعزلة نفسها, وظللتها سحابة من الكآبة لم تكن تفارقها أينما ذهبت .. أصبحت قليلة الكلام وراحت معانى الكلمات تختلط فى رأسها حتى أنها فى الأوقات التى كانت تتكلم فيها كان يبدو أنها تستخدم الكلمات فى غير مكانها, لكن ما بدأ يلفت انتباهى وينبهنى إلى أن جدتى قد مرضت مرضا حقيقيا فى ذاكرتها هو أننى لاحظت, أنها فقدت الإهتمام بصندوق ذكرياتها .
بالنسبة لى كنت أستغرب كثيرا لتلك الطريقة التى تجلس بها فجأة عند أى مكان يقابلها، غارقة فى أسى لا يتوقف كأنها تذكرت شيئا بعيدا قفز للتو إلى ذهنها .. أحيانا كانت تنهض من نومها و تقف على باب غرفتها، تقف فترة طويلة ثابتة فى مكانها لا تتعدى الخط الذى يفصل بين غرفتها و الصالة, حين ترانى تفرش ابتسامة ضعيفة, سريعة وخبيثة على محيط وجهها ثم تتسلل ببطء، حذرة، خائفة إلى خارج البيت .. عندما تلمحها أمى, تصرخ وهى واقفة فى المطبخ أن ألحق بها .. تقول وهى تجرى ورائى .. بسرعة .. وبسرعة أجرى، كأنى سأجدها قد تسامت فى الهواء، لكننى أجدها على عتبة الباب الخارجى واقفة تنظر إلى الشارع بعيون تمتلىء بالرعب .. حين ترانى تمسك يدى وتعود معى دون مقاومة كأنها بنت صغيرة وجدت أباها فى شارع غريب, أجد أمى تقف على مدخل الشقة، تضع يديها مشبوكة فوق صدرها وهى تنظر إلى الأرض فى صمت حزين .
فى طريقى إلى داخل البيت ، أفكر كثيرا فى المكان الذى يجب أن أتركها فيه, وكانت تتركنى أفعل هذا ، ربما لأنها كانت تحب أن أبقى معها أطول فترة ممكنة .. أو ربما كانت كل الأمكنة تتساوى عندها .. أقطع المسافة إلى حجرة نومها فى لمح البصر خوفا أن تلمح فى عين أمى ذعرا يقلقها .. كانت لا تبدى مقاومة وأنا أقبض على يدها.. أشعر بضعف يدها وهشاشة أصابعها بين أصابعى, أحسها خفيفة كريشة، لدرجة أنى كنت لا أتركها تفلت من يدى خوفا عليها من أن تطير .
أضعها على حافة سريرها, تنظر ناحيتى بشكل متكرر، تجهد نفسها فى البحث عنى حين أتحرك من أمامها, تلتفت دائما ناحية مدخل الغرفة، تشبك يديها وهى تنظر الى ضوء المصباح حيث تحوم الفراشات .. كان يقلقها هوام الذبابات العنيدة, ألمح قلقا فى عينيها ، تقف فى حيرة من لا يعرف إلى أين يذهب .. أتخيل أنها لم تعد هناك أمكنة أثيرة لديها، أمكنة تفكر فيها، تحلم بها أو تتخيلها حتى، كأن ذاكرة الأشخاص حين تتلاشى، تختفى معها الأماكن الخاصة بهم أيضا.. تتحرك دون قصد ناحية الشباك، أحسه الفضول الذى دفع الإنسان الأول ليكتشف حياته .. تقف على بعد خطوة من حافة الشباك، تتوجس وهى تنصت إلى خطوات المارين فى الخارج، تلتفت ناحيتى بريبة الأسئلة التى تتجول فى رأسها بحثا عن اجابات .
غالبا ما كانت تعود لتجلس هادئة فى ركن الغرفة على حافة سريرها ، كاسفة بوجهها .. تائهة فى غيابها الأبدى , وحيدة و بعيدة .. خف جسدها وشف ، وحين كانت تمشى لا يصدر عنها صوتا كأنها ظل يتحرك على الحائط ..لم تكن تتكلم ولم يسمع أحد صوتها من فترة طويلة, كنت أحسها وهى تجتهد فى البحث عن أى كلمات تنقذها من هذا الخرس الذى حل بها, فقط تصدر همهمة وهى كاسفة بعينيها إلى الأرض كأنها تحادث اناس آخرين .. كلمة أو كلمتان بالعافية وبنفس الغرابة التى كانت تنظر بها إلينا ..
مع مرور الوقت تدهورت صحتها, فقدت الكثير من وزنها لعدم تناولها الطعام بما يكفى لسد جوعها, حيث فقدت السيطرة على بلع الطعام وشرب المياة, التى كانت تندلق فوق صدرها دون أن تدرى, مما جعلها تعانى إلتهاب الرئة طول الوقت؛ وهكذا أصبحت حالتها متأخرة إلى الحد الذى عشنا فيه ننتظر كل صباح أن ننهض من نومنا على فجيعة موتها .
فى هذا الوقت اختار جدى غرفة مكتبه لينام فيها, حيث وجد أنه من غير المعقول أن ينام بجوار إمرأة لا تعرفه, بل أنها نسيت أسمه, وراح يعانى تأثير طعنات مؤلمة فى ذاته, ليس بسبب عجزه على منع انهيار جدتى الوشيك, ولكن بسبب خمسون عاما من عمره قضاها معها, على وشك أن تذهب إلى بئر سحيق من النسيان .. كان هلعه من النكران يقتله, لذا كان يتسلل كل ليلة إلى مخدعها يحاول تنشيط ذاكرتها كى يفوز بابتسامة أو تنطق أسمه ولو لمرة أخيرة, حتى يطفئ النار التى تشتعل فى جوفه.
فى تلك المرات التى ضبطته أمى جالسا معها, قالت إنهما بديا كغريبين, لدرجة أن جدى كان خائفا من أن يضع يده على جسدها .. قالت أيضا أن جدتى حين شعرت به, انسحبت مذعورة إلى طرف السرير كأنها فوجئت بشخص غريب فى حجرتها، ثم شدت الغطاء حولها وهى تنظر بنفس حالة الفزع ناحية الباب.
لم يفق جدى من صمته إلا حينما دخلت إليه أمى تسأله إذا كان يريد شيئا .. رفع رأسه عاليا كأنما استفاق لتوه من كابوس مخيف .. رفض أن ينظر فى عيني جدتى، وحين أراد أن يختلس نظرة إليها كانت عيناه لا تثبتان فى مكانهما ..
جدتى فى اللحظات القليلة التى كان يتوقف فيها عن الكلام لم تكن تفعل شيئا سوى أن تكرر محاولة شد الغطاء حولها وهى تتطلع إلى الباب على مرات متعاقبة وسريعة .. كانت ظلمة عينها تهب عليه كأنها أمواج عاتية راحت تتقاذفه وتأخذه إلى جوفها, حتى أنه كان يتكلم وكأنه يصارع الموت غرقا, فراح يتشبث بأى شىء يلوح فى ذاكرته حتى لا يبتلعه هذا النسيان المعتم.. جرى إلى ركن الغرفة حيث الصندوق الكبير الذى كان يغطيه كليم مصنوع من بقايا قطع قماش ملونة .. تململت جدتى فى سريرها وهى ترفع رأسها عاليا حتى تتمكن من رؤيته وهو يرفع غطاءه, فى الوقت الذى بدأ يلوح لها بما كان يخرجه من جوف الصندوق كأنه ساحر سيفاجئ جمهوره بتحويل كل الذكريات الموجودة داخله إلى حقيقة حاضرة, ويجعلها تردد أسمه ألف مرة حتى لا تنساه .
بعدما راح الوقت يمضى دون أى اشارة منها تدل على استجابة ما, توقف جدى نهائيا عن الكلام .. ناله التعب, وراح عرق غزير يتصبب ويبلل ياقة قميصه .. جلس منهكا على حافة السرير بعيدا عنها, معتقدا بما لا يقبل أى شك أن دائرة الغياب راحت تكتمل وتعزلها عن ما حولها.. رفع رأسه ونظر ناحيتها نظرة ثابتة لأول مرة, كان ينتظر منها أن تتكلم, أن تمد يدها إليه .. كان يريد تأكيدا أنها لاتزال موجودة وأنها لم تذهب إلى صحراءها وحيدة .. بدت نظرته أكثر حدة وهو يقترب منها .. جسده ينتفض, خائفا أكثر منه غاضبا .. ضاقت عينيه وتغير لونهما وسرعان ما عصفت به حالة من الهياج الهستيرى لم تتوقف إلا حينما بكت جدتى وخرج بكاؤها بصوت ..
كعادة كل صباح, دخلنا عليها لنوقظها .. كانت الليلة الفائتة صعبة, وحزينة .. جاء صباحها بعد عذاب طويل من الأرق، كنت قد سبقت الجميع إلى سريرها, وقبل أن يدخلوا من باب الغرفة, كنت أنا أقف أمامهم أخبرهم أن جدتى ليست نائمة فى سريرها.
اندفع الجميع يجرى فى كل مكان, وقبل أن يهلع جدى على فقدانها، صرخت أمى, بأنها نائمة فى صندوقها، تغطى نفسها بقصاصات الورق والمجلات القديمة .
بعد لحظات من زوال أثر المفاجأة, اقترب جدى على مهل وألقى نظرة .. كان واضح أنه خائف, وجسده لا يقوى على حمله وهو فى طريقه إليها .. يبدو من منظره انه ظل ساهرا طول الليل, عيناه مجهدتان ويده التى كانت ممدودة فى اتجاهها بدت نحيلة وكأنه نهض لتوه من مرض طويل .. كانت جدتى نائمة على ظهرها ومقرفصة ساقيها, عيناها مفتوحتان وثابتتان, وثمة ابتسامة تغطى وجهها.. مد جدى يده بتوجس ليهزها, صدمته برودة جسدها, أعاد هز جسدها مرة أخرى, لم تتحرك, وعندما رفع يدها عاليا ليتأكد من صدق حدسه, اكتشف ما كان يرعبه طول الوقت .. كانت أمى واقفة خلفه ترتعش بعنف, لم يتوقف جسدها عن الارتجاف, حينما التفت جدى إليها, وقبل أن ينطلق صراخها, سحبها من يدها إلى خارج الغرفة, ضغط على فمها بأطراف أصابعه واستحلفها أن لا تصرخ .
قالها الرجل بائع الروبابيكيا باستنكار وراح يتفحص الصندوق بعناية خبير, حين زعقت أمى التى تقف فى مواجهته, حاجزة بيدها وجسدها ذلك الصندوق, ومتهيأة للبكاء "إلا هذا .. إنه مثل أمى" ..قالتها بانفعال مفاجئ, أسكن الرجل فى مكانه وهو يتأمل الصندوق صامتا.
كان صندوق قديم فعلا مصنوعا من الخشب ومركونا بعيدا عن قطع الأثاث التى تم الإتفاق على بيعها .. بدا من لمعة عين البائع من اللحظة الأولى التى وقع نظره عليه, أنه تحفة فنية فقد الكثير من جماله وإن بقى محتفظ بمهارة الفنان الذى صنعه .. كان طوله متر تقريبا وعرضه نصف المتر ويرتفع نصف متر عن قاعدته التى تحتوى على أربعة أدراج, زينت بمقابض من العاج الأبيض .. مبطن من الداخل بقطيفة حمراء لا تزال تحتفظ بلونها ونعومتها, كما كانت الجدران من الخارج مزينة بقطع من الصدف والنحاس, وقع معظمها بفعل الإهمال والزمن .
كنا جميعا نعرف, أنه ميراث من عائلة جدتى, ورثته لتضع فيه حليها وملابسها وحاجاتها القيمة وقت أن كان عليها الإنتقال وهى عروس إلى بيت جدى, ومع مرور السنوات اعتبرته جدتى شئ آخر, وراحت تستخدمه فيما بعد لغرض أكثر قيمة وبشكل لم يكن يخطر على بالها وقت أن ورثته عن أمها وهو أن تستخدمه كمكان لتخزين ذكرياتها ..لم يكن شيئا مهما وقتها للآخرين, بل على الأكثر كان سببا مضحكا, وهو أن ذكرياتها أصبحت هاجس مصيرى .. ومع مرور السنوات اكتسب الصندوق هذه الصفة, ومن ثم أطلقنا عليه الإسم الذى ظل مرتبطا به إلى الأبد وهو صندوق الذكريات ..
من هذا الوقت, حرصت جدتى أن ترمى فيه كل ما كان له صله بأيامها, وكانت لا تنسى أن تقف فى نهاية كل يوم قبل أن تذهب لنومها وتنزع ورقة التقويم من نتيجة الحائط وتلقيها فى الصندوق بتأشيرة مكتوبة بخط يدها على ظهر الورقة, ومع مرور الوقت راح الصندوق يمتلأ بأشياء عديدة .. شهادات ميلاد, شهادات دراسية لمراحل عمرية مختلفة, قطعة قماش من فستان ذات أهمية خاصة ومرتبط ارتباطا وثيقا بأحداث غير عادية .. فساتين لأمى وشقيقاتها وهن فى أعمار صغيرة مختلفة, حين كن يتعلمن استخدام أدوات المائدة والتى كانت لاتزال تحمل أثار الطعام المسكوب عليها، اوراق مالية متنوعة عليها عبارات حب فى مناسبات أعياد الميلاد, صور بالأبيض والأسود لمراحل العمر المختلفة, ملابس جدتى الداخلية والتى لبستها فى أيام زفافها, أيضا ملاءة سرير عليها أثار أول علاقة حميمية مع جدى .. شوك وملاعق وأطباق مكسورة تسببت فى أحزان عاطفية, كتب ومجلات قديمة، خطابات من جدى إليها من أيام الحب الأولى مجمعة مع بعضها, ومرتبة بتواريخ إرسالها ومربوطة بشريط من الساتان الأزرق ..
جدى كره الصندوق من اللحظة الأولى التى رآه فيها حيث اعتبره مثل توابيت الموتى, وارتعب من أن يكون ذلك نذير شؤم لحياته القادمة, إلا أن رغبته الجادة فى إسعاد جدتى جعلته يشاركها فيما بعد هذا الإهتمام الغريب, فراح هو الآخر يلقى فى الصندوق كل ماكان يمر فى حياته من لحظات عابرة حيث كان قد اقتنع مؤقتا بأفكار جدتى من أنه من الممكن تحويل اللحظات العابرة إلى ذكريات ذات قيمة يمكن تخزينها من أجل السنوات القادمة ..
بعد سنوات طويلة وكانت جدتى قد تخطت العقد السادس من عمرها,لم يستطع جدى أن يخفى استيائه من هذا الصندوق, حيث بدأ الأمر يشكل له ألما مريرا كان يأتيه على شكل مخاوف مستمرة فى رأسه, بدأ هذا عندما راحت جدنى تعانى مرض فقدان الذاكرة فى مراحله الأولى, ودون أن تدرى كانت تلجأ إلى صندوقها, حيث كانت تبدو لنا وكأنها فى حالة نهم شديد لكل مايقع فى يدها من الصندوق, بادية لمن يراها فى هذه الحالة أنها على وشك أن تلقى ما فى يدها إلى فمها .. حدث هذا مرة, عندما أصرت أمى من أن تنزع من فمها أحد الخطابات القديمة ألقتها بين أسنانها وراحت تلوكها .. كان يحدث فى حالة شديدة من دهشة جدى الذى لم يكن يجد التفسير المطمئن للحالة التى كانت جدتى تمضى إليها .
مع مرور الوقت, راح المرض يسيطر على ذاكرتها بقوة ويجعلها تنسى أشيائها الهامة, فكانت تنسى أين تضع كيس نقودها ولا تعود تسأل عنه .. الأشياء السهلة والبسيطة والتى كانت تمارسها بشكل يومى,لم تعد تستطيع أن تقوم بها لدرجة أنها عجزت عن صنع فنجان قهوة بعد أن وقفت لمدة نصف ساعة أمام عدة القهوة, تائهة وهى ترتعش, لا تعرف كيف تبدأ تحت زعيق وصراخ جدى ..
بدأت تخطىء الأماكن, فكانت تقف طويلا فى مكان ما وهى ساهمة, وكأنها تسأل نفسها كيف وصلت إلى هنا, كما يبدو عليها الفزع حين كان يتعين عليها العودة ولا تستطيع.. أمام حالات الغضب التى تنتاب كل من كان يتعامل معها, أصبحت حادة المزاج .. ارتضت بعزلة نفسها, وظللتها سحابة من الكآبة لم تكن تفارقها أينما ذهبت .. أصبحت قليلة الكلام وراحت معانى الكلمات تختلط فى رأسها حتى أنها فى الأوقات التى كانت تتكلم فيها كان يبدو أنها تستخدم الكلمات فى غير مكانها, لكن ما بدأ يلفت انتباهى وينبهنى إلى أن جدتى قد مرضت مرضا حقيقيا فى ذاكرتها هو أننى لاحظت, أنها فقدت الإهتمام بصندوق ذكرياتها .
بالنسبة لى كنت أستغرب كثيرا لتلك الطريقة التى تجلس بها فجأة عند أى مكان يقابلها، غارقة فى أسى لا يتوقف كأنها تذكرت شيئا بعيدا قفز للتو إلى ذهنها .. أحيانا كانت تنهض من نومها و تقف على باب غرفتها، تقف فترة طويلة ثابتة فى مكانها لا تتعدى الخط الذى يفصل بين غرفتها و الصالة, حين ترانى تفرش ابتسامة ضعيفة, سريعة وخبيثة على محيط وجهها ثم تتسلل ببطء، حذرة، خائفة إلى خارج البيت .. عندما تلمحها أمى, تصرخ وهى واقفة فى المطبخ أن ألحق بها .. تقول وهى تجرى ورائى .. بسرعة .. وبسرعة أجرى، كأنى سأجدها قد تسامت فى الهواء، لكننى أجدها على عتبة الباب الخارجى واقفة تنظر إلى الشارع بعيون تمتلىء بالرعب .. حين ترانى تمسك يدى وتعود معى دون مقاومة كأنها بنت صغيرة وجدت أباها فى شارع غريب, أجد أمى تقف على مدخل الشقة، تضع يديها مشبوكة فوق صدرها وهى تنظر إلى الأرض فى صمت حزين .
فى طريقى إلى داخل البيت ، أفكر كثيرا فى المكان الذى يجب أن أتركها فيه, وكانت تتركنى أفعل هذا ، ربما لأنها كانت تحب أن أبقى معها أطول فترة ممكنة .. أو ربما كانت كل الأمكنة تتساوى عندها .. أقطع المسافة إلى حجرة نومها فى لمح البصر خوفا أن تلمح فى عين أمى ذعرا يقلقها .. كانت لا تبدى مقاومة وأنا أقبض على يدها.. أشعر بضعف يدها وهشاشة أصابعها بين أصابعى, أحسها خفيفة كريشة، لدرجة أنى كنت لا أتركها تفلت من يدى خوفا عليها من أن تطير .
أضعها على حافة سريرها, تنظر ناحيتى بشكل متكرر، تجهد نفسها فى البحث عنى حين أتحرك من أمامها, تلتفت دائما ناحية مدخل الغرفة، تشبك يديها وهى تنظر الى ضوء المصباح حيث تحوم الفراشات .. كان يقلقها هوام الذبابات العنيدة, ألمح قلقا فى عينيها ، تقف فى حيرة من لا يعرف إلى أين يذهب .. أتخيل أنها لم تعد هناك أمكنة أثيرة لديها، أمكنة تفكر فيها، تحلم بها أو تتخيلها حتى، كأن ذاكرة الأشخاص حين تتلاشى، تختفى معها الأماكن الخاصة بهم أيضا.. تتحرك دون قصد ناحية الشباك، أحسه الفضول الذى دفع الإنسان الأول ليكتشف حياته .. تقف على بعد خطوة من حافة الشباك، تتوجس وهى تنصت إلى خطوات المارين فى الخارج، تلتفت ناحيتى بريبة الأسئلة التى تتجول فى رأسها بحثا عن اجابات .
غالبا ما كانت تعود لتجلس هادئة فى ركن الغرفة على حافة سريرها ، كاسفة بوجهها .. تائهة فى غيابها الأبدى , وحيدة و بعيدة .. خف جسدها وشف ، وحين كانت تمشى لا يصدر عنها صوتا كأنها ظل يتحرك على الحائط ..لم تكن تتكلم ولم يسمع أحد صوتها من فترة طويلة, كنت أحسها وهى تجتهد فى البحث عن أى كلمات تنقذها من هذا الخرس الذى حل بها, فقط تصدر همهمة وهى كاسفة بعينيها إلى الأرض كأنها تحادث اناس آخرين .. كلمة أو كلمتان بالعافية وبنفس الغرابة التى كانت تنظر بها إلينا ..
مع مرور الوقت تدهورت صحتها, فقدت الكثير من وزنها لعدم تناولها الطعام بما يكفى لسد جوعها, حيث فقدت السيطرة على بلع الطعام وشرب المياة, التى كانت تندلق فوق صدرها دون أن تدرى, مما جعلها تعانى إلتهاب الرئة طول الوقت؛ وهكذا أصبحت حالتها متأخرة إلى الحد الذى عشنا فيه ننتظر كل صباح أن ننهض من نومنا على فجيعة موتها .
فى هذا الوقت اختار جدى غرفة مكتبه لينام فيها, حيث وجد أنه من غير المعقول أن ينام بجوار إمرأة لا تعرفه, بل أنها نسيت أسمه, وراح يعانى تأثير طعنات مؤلمة فى ذاته, ليس بسبب عجزه على منع انهيار جدتى الوشيك, ولكن بسبب خمسون عاما من عمره قضاها معها, على وشك أن تذهب إلى بئر سحيق من النسيان .. كان هلعه من النكران يقتله, لذا كان يتسلل كل ليلة إلى مخدعها يحاول تنشيط ذاكرتها كى يفوز بابتسامة أو تنطق أسمه ولو لمرة أخيرة, حتى يطفئ النار التى تشتعل فى جوفه.
فى تلك المرات التى ضبطته أمى جالسا معها, قالت إنهما بديا كغريبين, لدرجة أن جدى كان خائفا من أن يضع يده على جسدها .. قالت أيضا أن جدتى حين شعرت به, انسحبت مذعورة إلى طرف السرير كأنها فوجئت بشخص غريب فى حجرتها، ثم شدت الغطاء حولها وهى تنظر بنفس حالة الفزع ناحية الباب.
لم يفق جدى من صمته إلا حينما دخلت إليه أمى تسأله إذا كان يريد شيئا .. رفع رأسه عاليا كأنما استفاق لتوه من كابوس مخيف .. رفض أن ينظر فى عيني جدتى، وحين أراد أن يختلس نظرة إليها كانت عيناه لا تثبتان فى مكانهما ..
جدتى فى اللحظات القليلة التى كان يتوقف فيها عن الكلام لم تكن تفعل شيئا سوى أن تكرر محاولة شد الغطاء حولها وهى تتطلع إلى الباب على مرات متعاقبة وسريعة .. كانت ظلمة عينها تهب عليه كأنها أمواج عاتية راحت تتقاذفه وتأخذه إلى جوفها, حتى أنه كان يتكلم وكأنه يصارع الموت غرقا, فراح يتشبث بأى شىء يلوح فى ذاكرته حتى لا يبتلعه هذا النسيان المعتم.. جرى إلى ركن الغرفة حيث الصندوق الكبير الذى كان يغطيه كليم مصنوع من بقايا قطع قماش ملونة .. تململت جدتى فى سريرها وهى ترفع رأسها عاليا حتى تتمكن من رؤيته وهو يرفع غطاءه, فى الوقت الذى بدأ يلوح لها بما كان يخرجه من جوف الصندوق كأنه ساحر سيفاجئ جمهوره بتحويل كل الذكريات الموجودة داخله إلى حقيقة حاضرة, ويجعلها تردد أسمه ألف مرة حتى لا تنساه .
بعدما راح الوقت يمضى دون أى اشارة منها تدل على استجابة ما, توقف جدى نهائيا عن الكلام .. ناله التعب, وراح عرق غزير يتصبب ويبلل ياقة قميصه .. جلس منهكا على حافة السرير بعيدا عنها, معتقدا بما لا يقبل أى شك أن دائرة الغياب راحت تكتمل وتعزلها عن ما حولها.. رفع رأسه ونظر ناحيتها نظرة ثابتة لأول مرة, كان ينتظر منها أن تتكلم, أن تمد يدها إليه .. كان يريد تأكيدا أنها لاتزال موجودة وأنها لم تذهب إلى صحراءها وحيدة .. بدت نظرته أكثر حدة وهو يقترب منها .. جسده ينتفض, خائفا أكثر منه غاضبا .. ضاقت عينيه وتغير لونهما وسرعان ما عصفت به حالة من الهياج الهستيرى لم تتوقف إلا حينما بكت جدتى وخرج بكاؤها بصوت ..
كعادة كل صباح, دخلنا عليها لنوقظها .. كانت الليلة الفائتة صعبة, وحزينة .. جاء صباحها بعد عذاب طويل من الأرق، كنت قد سبقت الجميع إلى سريرها, وقبل أن يدخلوا من باب الغرفة, كنت أنا أقف أمامهم أخبرهم أن جدتى ليست نائمة فى سريرها.
اندفع الجميع يجرى فى كل مكان, وقبل أن يهلع جدى على فقدانها، صرخت أمى, بأنها نائمة فى صندوقها، تغطى نفسها بقصاصات الورق والمجلات القديمة .
بعد لحظات من زوال أثر المفاجأة, اقترب جدى على مهل وألقى نظرة .. كان واضح أنه خائف, وجسده لا يقوى على حمله وهو فى طريقه إليها .. يبدو من منظره انه ظل ساهرا طول الليل, عيناه مجهدتان ويده التى كانت ممدودة فى اتجاهها بدت نحيلة وكأنه نهض لتوه من مرض طويل .. كانت جدتى نائمة على ظهرها ومقرفصة ساقيها, عيناها مفتوحتان وثابتتان, وثمة ابتسامة تغطى وجهها.. مد جدى يده بتوجس ليهزها, صدمته برودة جسدها, أعاد هز جسدها مرة أخرى, لم تتحرك, وعندما رفع يدها عاليا ليتأكد من صدق حدسه, اكتشف ما كان يرعبه طول الوقت .. كانت أمى واقفة خلفه ترتعش بعنف, لم يتوقف جسدها عن الارتجاف, حينما التفت جدى إليها, وقبل أن ينطلق صراخها, سحبها من يدها إلى خارج الغرفة, ضغط على فمها بأطراف أصابعه واستحلفها أن لا تصرخ .