محمد فتحي المقداد - الرواية السورية بين الأمس واليوم

الرواية

في الحقيقة لا نستطيع الفصل في دراسة واقع الرواية السوريّة عن المحيط الإقليمي و العربيّ، وذلك من خلال المؤثرات على الحياة بشكل عام، فكثيرًا ما انعكس هذا على أداء الأعمال الروائيّة السوريّة، اعتبارًا من بداية القرن العشرين، وحتى يومنا.
وتعتبر رواية "مفترق المطر" للروائي (يوسف المحمود) من الروايات التعليميّة، وهي المُؤسِّسَة للرواية السوريّة، وتتحدّث عن بيئة الساحل الفقيرة أو المُعدَمة. و يعدّ يوسف المحمود من آهم الروائيين السوريين
فالأعمال الرواية السوريّة على مختلف توجّهاتها وانتماءاتها الفكريّة و العقائديّة جاءت جزءًا لا يتجزّأ من الأدب العربي عامةّ، خاصة في معالجة قضية محاربة الاستعمار والقضيّة الفلسطينيّة و الاشتراكية وقوانين التأميم و الإصلاح الزراعي و الإنقلابات العسكريّة والحراك الاجتماعيّ وقضايا الفقر والأميّة ومحاربة الجهل، والثورة على الظلم و الإرهاب و الربيع العربي.
واكبت الرواية السورية التطوّر المجتمعي والفكري الثقافي والسياسي والاقتصادي، فانطلقت من عقال الإتّكاء على التاريخ الذي كان بداية المدخل للفنّ الروائيّ بشكل عام، والنهل من الحياة الريفيّة؛ فكانت مادة دسمة في فترة التحديث، وما أطلقت عليه الأنظمة السياسية آنذاك (ثورة)، و الصراع الطبقيّ.
فتميزت روايات هذه الفنرة بمعالجة الحالة و الغوص فيها، وكان خطابها الأيديولوجي بالصبغة القومية هو السمة الظاهرة لروايات تلك المرحلة المتلفّعة بغطاء اللغة و الصنعة اللغويّة، التي غطّت على بساطة الحياة في الأرياف، وفي السنوات الأخيرة تأثرت الكتابات الروائيّة بعصر العولمة و ثورة الإتصالات؛ فتجاوزت الحدود و تأثير الأحزاب القوميّة التي عانت من انحسار مدّها الفكري وضعف أدواتها.
وجاءت المحاولات الأولى للرواية العربية على يد (سليم البستاني 1848-1884)، أحد كتّاب مجلّة الجنان اللبنانيّة، وقد اتّسمت روايات ذلك الجيل بالسرد التاريخيّ العشوائي الذي لا يخضع لقوانين الفنّ، وانضمّ لهذا الجيل (يعقوب صرّوف 1852- 1914) مؤسس مجلة المقتطف، و (جورجي زيدان 1861- 1914) الذي ارتكز في سرد رواياته على التاريخ الإسلامي، وإعادة تدوير الحدث التاريخي على شكل أعمال روائيّة، تبّنت منظورًا اسشتراقيًّا مليئًا بالطعن الممنهج و المغالطات.
تسارع الأحداث لم يمهل بلادنا للحظة أن تتنفّس بهدوء، فبعد الحرب العالمية الأولى فرض المنتصرون مشاريعهم الإستعماريّة بالقوّة الغاشمة على بلادنا، ففي العام 1917 أعلنت بريطانيا وعدها المشؤوم (وعد بلفور)، وقبلها بعام (1916) كان الإعلان عن إتفاقية (سايكس بيكو)، فيما بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، التي عملت على تقسيم بلاد الهلال الخصيب وهي (بلاد الشام و العراق)؛ فخلقت واقعًا جديدًا، اقتسمت البلاد فيما بينها، ورسمت خطوطًا وهميّة على الورق، ومن ثمّ جرى تطبيقها على الواقع بالإستعمار العسكريّ المباشر، وزحفت القوّات الفرنسيّة إلى لبنان بقيادة الجنرال (غورو)، وفي (14 تموز 1920) وجه إنذاره الشهير (إنذار غورو) للحكومة العربيّة في دمشق عندما قرّر الزحف عليها، وغادر الملك فيصل ابن الشريف حسين إلى العراق، ودخلت قوّات فرنسا دمشق بعد معركة ميسلون (24 تموز 1920)، واستشهد فيها (يوسف العظمة) وزير الحربيّة وقائد المعركة.
الشعب السوريّ بجميع فئاته هبّ لمقاومة المحتلّين بشتى الوسائل، وكان للرواية السوريّة الإسهام المباشر على يد أحد أعلامها وروّادها (فارس زرزور)، في العام 1962 كتب بحثًا تاريخيًّا بعنوان "معارك الحريّة في سورية"، ومن ثمّ أتبعه بثلاثيّته "حسن جبل" 1969، و"لن تسقط المدينة" 1969، و "كل ما يحترق يلتهب" 1986، استطاع في أعماله تلك إعادة تدوير المادة التاريخيّة إلى أعمال روائيّة، استطاعت تسليط الضوء على المقاومة الصلبة ضد الفرنسيين، وفضح جرائمهم بواقعيّة سرديّة مُتقنَة أوصلت رسالتها بِيًسرٍ وسهولة.
وفي رائعة الروائي (حنّه مينه) "المصابيح الزرق" فقد عالج من خلالها الفقر و العَوَز في مجتمع الساحل السوري خلال فترة الإستعمار الفرنسي، وأبرز دور المقاومة وأعلى من شأنها، وسلّط الضوء على عملاء الإستعمار من خلال تجنيدهم لكسب قوت عيشهم من خلال العمل مع الفرنسيّين.
وفي تطوّر لاحق انتقلت الرواية إلى عالم أرحب وأوسع، حيث اتّخذت من الإنسان مادّتها، ورسمت الحياة الإجتماعية بكلّ تفاصيلها ما بين الريف و المدينة، وطبيعة العلاقات الناظمة للمشهد, جاءت من خلال روايات (عبدالسلام العجيلي) بنقلتها النوعيّة في رصد الحياة الفراتيّة من مدينته الرّقة، الذي أخرجها من عالم النسيان إلى المشهد الثقافي في أعماله العديدة (عيادة في الريف - وباسمة بين الدموع)، وفي (أزاهير تشرين المدماة)‘ قصة حبّ من الريف انتهت بموت البطل في حرب تشرين 1973 في الدّفاع عن الوطن، وثماثلت رواية "وجوه من زمن الحرب" للروائيّة (يُمنى الزيبق) مع رواية أزاهير تشرين المُدماة في وحدة الموضوع عن حرب تشرين، سوى أنها كانت مع أسرة دمشقيّة جرت أحداثها في أحياء دمشق، ووثّقت من خلالها العادات الدمشقيّة الأصيلة في الطعام والشراب و الأفراح والأمثال الشعبية التي كان لها النصيب الوافر من أحداث الرواية.
رواية "ملكوت البُسطاء" للروائي (خيري الذهبي)، استمدّت أحداثها من الحياة الإجتماعية في دمشق في فترة قديمة الخمسينيات من القرن الماضي، فكانت سجّلًا شاهدًا توثيقيًّا على ما قبل التطوّر التقني و التكنولوجي، كما أن رواية "مصرع ألماس" للروائي (ياسين رفاعيّة)، جاءت ملحمة أسطوريّة واقعيّة عبقة بالحبّ المكتوم و الجنس و الجريمة، و الصراعات الإجتماعيّة اليد الطُّولى فيه للأقوى الذي يبطش بالآخرين، فيخضعون لإرادته خوفًا من الإنتقام و الثأر.
في الآونة الأخيرة انطلقت الرواية السوريّة من عقالها المحليّ إلى رحاب العالم المعاصر الأوسع و الأشمل، وتقديمه بعاداته وتقاليده وفنونه ولهجاته المتعدّدة، وبرزت أسماء مُهمّة أظهرت صوتها عاليًا، وكرّست رؤيتها بوضوح في رسم المشهد الروائي الجديد و الحديث في سورية، [أمثال "خيري الذهبي" و "فواز حداد" في دمشق و"هيفاء بيطار" في اللاذقية و "ابراهيم الخليل" في الرقة و "فيصل خرتش" في حلب، و "ممدوح عزام" في السويداء، مع التحفّظ على البيئة التي يرصدها] فقرة مقتبسة، و"محمد الحفري" و"علي أحمد العبدالله" من درعا.
هذا الجيل أبدع أعمالًا روائيّة أضاءت فترة الأيديولوجيّة القوميّة، مُتمازجة مع منابتهم وأصولهم الريفيّة و المدينيّة. وسيطر هوس المرحلة سياسيًّا ما عُدّ نوعًا ما من الإنطلاقة الأقوى.
ورغم صرامة الرقابة على المصنّفات الأدبية عامّة، لم يمنع من بعض الروائيين من المغامرة في طرْق باب المحظور و المسكوت عنه قهرًا، فجاءت رواية "العلم" للروائي (محمد الحفري) عام 2005، ورواية (دوّامة الأوغاد) عام 2016 للروائي (محمد فتحي المقداد)، لتشكّلا ثنائيًّا رساليًّا في كشف واقع فساد الأجهزة البوليسيّة القابضة على مجاري تنفّس المجتمع السوريّ، و العمل على تفتيته وإعادة تشكيله بما يخدم أغراضهم، فسقطوا في مهاوي الفساد، وأسقطوا المجتمع بكافّة تشكيلاته خاصة أنساقه الثقافيّة، أمّا رواية "مملكة الصمت" للروائيّة (ناديا خوست)، فقد عالجت قضايا الفساد والرشوة وسرقة المال العام على كلّ الأصعدة، وعلى الأخصّ في مجال القضاء، بأسلوب رمزيّ مثبطّن للخروج من المحظور، وعدم الإصطدام بالجدار.
وفي الخمسينيات من القرن الماضي جاءت روايتا "كسرة خبز"، و "البعث" للروائي (سامي الجندي)؛ لفضح الانتهازيين عندما ركبوا موجة الحزب وسرقوه من واقعه؛ ليحرفوا مساره في اتّجاه مصالحهم ليضمنوا بقاءهم في سدّة السلطة. وفي السنوات الأخيرة ظهرت رواية "أبي البعثي" للروائي (ماهر شرف الدين) لتتماهي في موضوعها مع رواية "كسرة الخبز"، لتكوّنا مخرجًا موحّدًا للقضيّة التي أرّقت سوريّة على مدار أكثر من خمسن عامًا.
ونتيجة للقبضة الأمنيّة الصارمة تشكّلت ظاهرة أدب السجون لدى طائفة من الروائيين السوريين، وعلى سبيل المثال: فإنّ رواية "القوقعة" للروائيّ (مصطفى خليفة)، ورواية "الرحيل إلى المجهول" للروائيّ (آرام كرابيت)، ورواية "خمس دقائق وحسب" للروائيّة (هبة الدبّاغ)، هذه الأعمال ستبقى سجلًّا موثّقا على مرحلة هامّة في تاريخ سوريّة، ففي هذه الأعمال كفاية في كشف المستور و المخفي داخل السجون، بينما تعمّقت رواية "رجل منسي" للروائي (علي أحمد العبدالله) في فلسفة الزنزانة التي تكتسب قيمتها من السجين، ولولا السجين لفقدت أهميّتها وبقيت مجرّد مكان حقير غائب في غياهب الظلمات.
وفلسفة المكان الواحد استمدّها "وليد إخلاصي" من ذاته، والتواشح العاطفي مع المكان ليكون الأساس فيما جاءت به روايته "دار المتعة"، حيث أن [المتعة مشروطة بالنشاط الميتافيزيائي للطبيعة البشرية داخل جدران البيت نفسه فهو بؤرة ونواة. حتى أن روايته "رحلة السفرجل"، التي تفترض وجود رحلة وانتقال في المكان، تقود بطلها الأستاذ سفرجل للموت على متن القطار بأزمة قلبية، وهذا لا يكتفي باحتجازه في مُربّع أو مستطيل مُتحرّك يترادف في استراتيجيّته مع حياة ملؤها العبث والمحدوديّة والروتين، ولكنّه يضع أمامه سدًّا منيعًا يحرمه من قدراته على الإحاطة والتمدّد]* مقتبس.
وفي قراءة الروائي (هاني الراهب) للواقع العربي وسط خياليّة سرديّة فنتازيّة فائقة الثقافة نهلت من التراث الشعبي ممزوجًا بثيمةٍ اجتماعيّة، هذا ما نطقت به روايته الأخيرة "رسمتُ خطًّا في الرمال"، تجاوز بها الرّاوي تحليقًا خارج حدود الزمان و المكان بتداخلات حكائية مشوّقة.
وفي مسار آخر قدّم الروائي (سليم بركات)، منجزه "فقهاء الظلام"؛ ليسترجع بها ذاكرة منطقة الأكراد في الشمال السوريّ، ومعظم أعماله دارت حول حركة الشّخوص الأكراد لاستنهاض الذاكرة الشعبيّة.
ثمّ انطلقت فئة من الرُواة السوريّين في عصر العولمة إلى رحاب الخيال العلميّ، كما تجلّى ذلك في روايتيْ "رواية المستقبل" و" من أنا؟ من أكون؟" للروائية (لينا كيلاني)، وهي تسشترف آفاق المستقبل العلمّي، وفي وقت سابق من سبعينيّات القرن الماضي، جاءت رواية "كانوا همجًا" للروائيّ (عبدالودود يوسف)، لتكون ضربًا من الجنون و الهلوسة؛ لخياله الواسع وهو يستشرف الآفاق العلميّة المتقدّمة التي ستكون في مستقبل رآه الكاتب المُتقدم برؤيته السّابقة لزمانه بسنوات عديدة.
في الآونة الأخيرة مرحلة الخراب و الدمار الناتجة عمّا اصطلح على تسميته بالربيع العربي، ظهرت على الواجهة كتابات روائيّة؛ ستكون صاحبة شأن عظيم، وخير شاهد على المرحلة السوداء في حياة السوريّين من القتل و الدمار و التشريد و التهجير، ومنها علي سبيل المثال "الموت عمل شاق" للروائي (خالد خليفة)، و"الطريق إلى الزعتري" و"دع الأزهار تتفتح" للروائي (محمد فتحي المقداد)، و"ماقبل الولادة الثانية" للروائيّ (وليد رشيد الحراكي)، و "شاهد عيان" للشاعر (محمد إبراهيم الحريري).
تبقى السّاحة الثقافيّة السوريّة مُكتنزة بالأعمال الأدبيّة الروائيّة الكثيرة، والتي لا يمكن تغطيتها جميعًا بمقال محدود بعدد كلماته، بل بحاجة لجهود النقّاد المُضنية والحثيثة؛ لإبراز قيمة ما كُتب خاصّة في السنوات الأخيرة، ولم ينتبه إليه أحد.

عمّان \ الأردن
15 \ 6 \ 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى