رسائل الأدباء : رسالة من حسن عبد العزيز الدالى إلى الآنسة عفاف

23 - 04 - 1945

إلى ابنتي عفاف

في الربيع النضر، حين سرى الماء في العود اليابس، ونبضت الحياة في البراعم النابتة، وتألق الجمال بألوانه الزاهية في الزهور المتفتحة؛ في الربيع النضر يا ابنتي، حين أشرق كل شيء بالبهجة، ورقص كل حي من المرح، ونعم كل ألف بإلفه؛ وسكن كل طير إلى عشه، تذبلين أنت يا زهرتي الغضة، وربيع شبابك لا يزال في إبانه، ويذوي غصنك الرطيب في غير أوانه، ويخلو عشك الناعم من بسمتك الحلوة ونظراتك الأنيسة وصوتك الغرد!

وفي الربيع الماضي، وفي مثل هذا الشهر، ذوت أختك الجميلة أمام عينيك وبين يديك، فعلمت كيف يروع البين، ويتصدع الشمل، ويوحش الأليف، ويرمض الحزن، فهلا رثيت لأبيك الواله فلا تجعلي بذبولك في هذا الربيع روضة من غير زهر، وقلبه من غير أمل، وبيته من غير أنس!

ثلاثون يوماً يا عفاف رقدتها على جنب واحد تتبخرين كما تتبخر دمعة الحب، وتذوبين كما تذوب شمعة العرس، وبسمات الرضا لا تغيب عن ثغرك، وومضات الأمل لا تخبو في صدرك، وداء السل الوبيل يخادعنا ويخادعك، فيتورد خدك، ويرهف إحساسك، ويرق حديثك، ويتسع رجؤك، فتنذرين النذور للشفاء، وترسمين الخطط لتغيير الهواء، فنصدق الظواهر ونكذب الأطباء ونتعلق بأهداب الأمل!

ماذا دهاك يا عفاف وقد تركتك في المساء وأنت على حالة مطمئنة، ونفس راضية مؤمنة، وقلت لك مساء الخير فقلت أنت مساء الخير والسعادة. أين الخير وأين السعادة؟

وا لهفتاه حين أصمني صوت الناعيات المروع وأذهلني عن نفسي، وأخرجني عن حسي، فلم أعد أعلم مما جرى شيئاً.

أختك يا عفاف طال عليها الكرى، وهاهي ذي في جوارك، فحلى دثارك، ودعي أزاهيرك البيض والحمر تتناثر على جسدها البالي برفق، ثم ارقدي مطمئنة يا عفاف فليس وراءك في هذه الحياة ما يقلقك في قبرك، فابنتك الصغيرة قد ماتت منذ أشهر، وأمك منذ ثماني حجج في جوار الله، فحييها تحية صامتة كدموع أبيك، ولا نقضي عليها ما كان من أمر (عواطف) وهي تندبك وتبكيك!

نامي طويلاً كيف شئت يا عفاف فقد طال بك السهاد ونال منك التعب، وقد قلت لي ليلة عدت من حلوان:

أنا بخير! لا أحب البكاء! أريد أن أستريح! فاستريحي يا ابنتي المحبوبة، واسمحي لي يا زهرتي الأولى أن أقدم إليك هذه العبرات الجافة الصامتة وإن كنت تكرهينها؛ فإن فيها تفريجاً عن قلب أبيك الثاكل، وما أملك لك يا أعز الناس عندي غير الذكريات الطيبة طول حياتي، والدعوات الطاهرة في خلواتي وصلواتي. وإلى اللقاء.

والدك الحزين

حسن عبد العزيز الدالى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى