(إهداء إلى جوان أرمترايدينج)
حمل الشرطيون الجثة على ظهر السيارة المكشوفة ، وجلسوا حولها وهم يتجادلون عن مباراة كرة القدم ، وحين تحركت السيارة نحو المشرحة ، تحدث بعض زملاء المجني عليه وهم بروفيسورات عن وضوح القضية ، فبعد أن قام الشيخ كرارالدين بإهدار دم البروفيسور صالح زياد وتكفيره نفذ أحد تلاميذ الشيخ هذه الفتوى المقدسة. وكالعادة تنصل الشيخ من علاقته بالقاتل معترضاً على عملية قتل فرد بدون اللجوء إلى ولي الأمر أي عبر القضاء حتى ولو ثبت كفره. وعلى أية حال ، هرب القاتل أو تم تهريبه من السجن قبل أن يتم تنفيذ حكم الإعدام عليه. وفي الذكرى السنوية الأولى لمقتل البروفيسور اجتمع الزملاء وأخذوا يناقشون كعادتهم مشكلة التطرف . وكان من بينهم شاب خجول يدعى أبشيبة ، كان قصيراً ونحيلاً ، وذو عينين واسعتين كلؤلؤتين داخل قطيفة سوداء ، فقد كان جلده شديد السواد . كان قليل الحديث ، ويبدو قليل الثقة بنفسه ، فهو يتلعثم حين يتحدث، فينصرف زملاؤه عن الإستماع له لينخرطوا في حديثهم المشوق عن موت الإله، وكانوا يتجادلون دئماً في قضية أساسية تشغلهم وهي كيفية إثبات نفي وجود الله كأساس لإنهاء التطرف، إنها القضة الأزلية ، التي أضحت سخيفة جداً بالنسبة للجميع بما فيهم أشد الناس كفراً . وقال الحسيني وهو أربعيني ذو بشرة صفراء ، وابتسامة لا تغادر شفتيه ، أن النقاش الأزلي لم يفض إلى إثبات أو نفي الله ، بل هو في النهاية يصل إلى ذات النتيجة وهي الوصول إلى اللا نتيجة . والقضية أضحت سخيفة بالنسبة له. رغم ارتباطها بقوة بحركة البشرية وتأثيرها الذي لا يضاهيه تأثير على التوجهات النفسية والسياسية والإجتماعية بل وحتى الإقتصادية على المجتمعات والشعوب والدول.
أما دكتور الصادق المتحدث اللبق والمتأنق دائماً بربطة عنقه ودبابيس الأكمام الذهبية ، فقد كان يرى أن هذه القضية لا يمكن أن تنتهي إلا بنهاية الإنسان نفسه ، فهناك أجيال ستأتي لتناقشها مرة أخرى ، وأن النتيجة التي يتوصل إليها جيل ربما تكون هي نفس النتيجة التي ستتوصل إليها الأجيال التالية له ومع ذلك فإن لكل جيل الحق في النقاش ، ولعل جيلاً ما يتوصل إلى نتيجة قاطعة رغم أن هذا مستبعد وربما هو مستحيل.
ورابعهم كان الرجل ذو الكرش ، والوجه الدائري والعينين الغاضبتين ذو الشارب الدقيق ولم يكن له حاجبين ، وقال بذات الغضب غير المبرر :
-علينا أن نكف عن ذلك بل و علينا أن نخبر الأجيال القادمة أنها قضية سخيفة وأن عليهم ألا يضيعوا وقتهم في نقاشها ذلك الجدل السفسطائي غير المنتج. علينا أن نقول لهم كلمةواحدة: (لا نتيجة).
إلا أن ثلاثتهم التفتوا إلى أبشيبة حين قال بسرعة ، وتوتره يزداد:
- هناك نتيجة .
قال الحسيني وهو ينهض:
- حسناً عليَّ أن أذهب .
فصمت أبشيبة بخجل ولم يعقب ، وحين خرج الجميع من منزل المرحوم ، أدار أبشيبة سيارته وهو يحاول بقدر الإمكان أن يرى عبر زجاج السيارة ، فبالرغم من أنه يضع مسنداً تحته ليرفع من قامته إلا أن ذلك ما كان ليجديه نفعاً وكان عليه أن يشرئب بعنقه دائماً ليرى الطريق ، وكانت قيادته متوترة هي أيضاً فقد كان يدير مقود السيارة يميناً ويساراً وهو يحاول أن يوازن بين ثقل السيارة وسرعتها ، ثم أنه وصل إلى عيادة طبيبته النفسية ، فركن سيارته ، ومسح جبهته السوداء اللامعة بكم قميصه كعادته، ثم دلف إلى العيادة ، وإذ وجد بها قرابة سبعة من المرضى الذين ينتظرون دورهم ، تخير مقعداً وجلس ، فطلبت منه سكرتيرة الطبيبة رقم دفتره ، فأخبرها به، وبسرعة تحركت السكرتيرة وأخذت تبحث في دولاب قصير ممتلي بالملفات الزرقاء والحمراء عن ملفه ، فأخرجته ، وقالت:
- أنت الثامن في طابور الإنتظار برقم (303) أرجو أن تتذكره .
أومأ إيجاباً ، ثم أخرج هاتفه المحمول دوَّن فيه الرقم بيد مرتعشة ، وبعد مرور ثلاث ساعات ، طلبت منه السكرتيرة الدخول ، فدخل ، ورأى الطبيبة تجلس على طاولة حديدية مبرقعة بالصدأ ، ورغم أن عيادة هذه الطبيبة بصورة عامة كانت غير منظمة وقديمة ، بل ومتسخة في بعض زواياها ؛ إلا أن الطبيبة كانت شهيرة بكفاءتها . ولم يقل رواد عيادتها يوماً عن ثلاثين مريضاً. حصلت الطبيبة على معلوماته الشخصية كما هي عادتها ، إسمه وسنه وعنوانه وقارنتها بما هو مكتوب في تقريره ، ثم أنها سألته عن مدى تحسنه بعد تناوله السيبرالكس لمدة أربعة أشهر ، فقال بأن وضعه لم يتحسن كثيراً . قال ذلك وهو خائف من رد فعل الطبيبة ، وبالفعل شعر بأن الطبيبة امتعضت قليلاً وكأنما أشعرها حديثه بفشلها . فطلبت منه زيادة الجرعة ، وأخبرته بأن العلاج يحتاج إلى وقت وصبر ومتابعة . وبنبرة متلعثمة طلب منها رأيها في الصدمة الكهربية فأخبرته –بنفاد صبر-بأن حالته لا تستدعي إستخدام الكهرباء بعد. فخرج منها وهو يشعر بخيبة كبيرة ، لكنه عزم على متابعة تناول الدواء بصورة منتظمة رغم عدم جدواه .
أدار محرك سيارته ، وبقى ساكناً لثوانٍ قبل أن يندفع بها بقفزة لا إرادية ، ثم قادها في أزقة خالية ، قبل أن ينحرف بها إلى شارع رئيسي ، كان بالكاد يرى السيارات التي تتجاوزه عبر المرآة الجانبية ، كانت المرآة منحرفة بحيث لا تكشف عن شيء خلفه ، هدأ من سرعة السيارة ثم مدَّ يده لإصلاحها ، وخيل له في هذه اللحظة أنه يرى كوثر جالسة في إحدى الحدائق ، كان يرى ثوبها الذي يحفظ تشكيلاته التي لا تخطؤها عينه ، ذلك الثوب الأسود الذي تزركشه ورود حمراء ضخمة ، فدار بسيارته ورآها بالفعل جالسة قبالة رجل ، أوقف سيارته على جانب الطريق ثم اتصل بها ،رآها تنظر إلى الهاتف وتلغي إتصاله فأعاد الإتصال حينها سمع صوتها وهي تقول :
- نعم ..
قال :
- أين أنتِ؟
- أنا عند خالتي .
قال وقد خفق قلبه :
- حسنٌ أنظري إلى يسارك .
رآها تلتفت نحوه بخوف ، فأشار بيده ثم قاد سيارته عائداً إلى المنزل . كان يفكر فيما حصل ، غير أن ما أثار عجبه هو أنه لم يشعر بأي غيرة وهو يرى زوجته مع رجل آخر ، وهنا خطر له خاطر ، فغير اتجاهه إلى منزل والديْ كوثر ، وبالفعل تلقاه والدها بحبور ، وأثناء ذلك ، كان يلغي إتصالات كوثر المتكررة بتهافت. وحين جلس إلى والدها قال:
- سوف أختصر لك سبب زيارتي لك .. فهو ليس مفرحاً .
بدا القلق على وجه والدها ، حاول أبشيبة ألا يتلعثم بقدر الإمكان ، ثم قال :
- قبل قليل رأيت كوثر بإحدى الحدائق .
قال والدها بحدة:
- ومعها رجل آخر؟
أومأ أبشيبة برأسه ، فقال والدها:
- إتصلت بها فكذبت عليك ؟ أليس كذلك ؟
أعاد أبشيبة إيماءته .
سأله والدها:
- وماذا قررت ؟
- قررت أن أطلقها . هي حرة .
قال والدها وهو يخرج هاتفه من جيبه:
- هاهي تتصل .. ألو .. كوثر .. نعم إنه معنا هنا ..
ثم أضاف:
- سأعود لك بعد قليل .
- حسنٌ .
جلس أبشيبة وحده ، وقد شعر بأن والد كوثر قد أصيب بصدمة . وأنه الآن يحاول استجماع شتات نفسه. إلا أنه عاد وتعجب من خلو مشاعره تماماً من أي إحساس تجاه ما فعلته كوثر . وحاول استرجاع عواطفه تجاهها فلم يجد شيئاً ، حتى وهما يمارسان الجنس ، كان يشعر بالقرف ، كانت تقول :
- ابتعد عن ثديَيَّ لا أحب أن تعتصرهما .
ثم كانت تفرض عليه طرقاً محددة للممارسة دون أي تفاوض . وكان ذلك يجعله فاتر الهمة . أدرك أنها تحب القيادة في كل شيء ، كانت خالية من الروح ، وربما قاسية ، وهي فوق ذلك تعشق المال عشقاً جماً ، ورغم عشقها له إلا أنها لم تكن تنفقه ، بل تشتري به ذهباً وتخزنه ، ثم علم أنها استأجرت صندوقاً خاصاً بالبنك أودعت فيه ذهبها الذي بلغ أوزانا كبيرة وحين وصلت به أفكاره إلى هذه النقطة ، رآها تدخل بعينين محمرتين جزعتين . ورأى شعرها الخشن القصير منكوشاً ، لم يكن فيها شيء جميل سوى جسدهاً ، كانت ممشوقة القوام بردفين متصلين بإليتين دائرتين ،وراء حوض ضخم وظهر ذو سلسلة فقرية طويلة ، إلا أن بشرتها لم تكن كذلك ، فرغم سمرتها الهادءة إلا أن هناك بقعاً سوداء ، وداخل فخذيها كانت البقع واضحة وكبيرة وكان مهبلها كثيف الشعر ، يمتد حتى فتحة الشرج وكأنها شمبانزي ، لم يكن يوماً قادراً على النظر إليه بشهوة . ولم تكن هي نفسها تسمح له بذلك ، كانت تدعي بأنها تكره النظر إلى فرجها ، كان لديها في الواقع قواعد صارمة للممارسة الجنسية ، قواعد مملة ، فيخرج منها صفر اليدين . لكنه رغم ذلك اكتفى بالقليل . مؤثراً هدوءه العائلي على رغباته الجنسية . سمعها تصرخ:
- صدقني أنا لم أفعل شيئاً .. إنني أحبك أنت .. ما رأيته كان مجرد جلسة مع صديق لي في العمل .
عاد والدها وحين رآها جالسة تتحدث بهذا الصوت الصارخ ، دار على عقبيه واختفى .
قال أبشيبة بهدوء لم يشعر به من قبل حتى وهو يبتلع السيبراليكس:
- أنتِ طالق.
صاحت وهي تحرك يديها ، ورأى ثوبها يسقط من على الجانبين لتظهر تلك الجبال اللحمية التي تهبط من ذراعها :
- لا تتسرع يا أبشيبة .. لا تخرب بيتنا بكل هذه السهولة ..
وقالت كلاماً كثيراً لم يسمعه ، ثم أنها لما رأته غير متأثر بشيء ، قالت كقائدٍ عسكري :
- أنا حامل .
توقعت أن يرفع رأسه لينظر إليها إلا أنه قال بهدوء:
- يمكنك أن تتزوجي بعد أن تنجبي مباشرة فعدتك وفقاً للشرع تنتهي بوضع الحمل .
هزت رأسها ككلب ينفض عن رأسه الماء وهي غير مصدقة :
- ولكني لا أقصد ذلك ..
قال:
- حسنٌ يمكنك أن تنسبيه لي أو إلى والده ..
صاحت بغضب ودموعها تجري :
- ماذا تقصد .. لا .. أرجوك لا تصدق ذلك .. إنني لست كذلك ..
قال :
- ما قصدته أنك أنتِ الوحيدة القادرة على معرفة هذا الأمر .. وأنني لا أمانع .. وصدقيني أنا لا أشعر بغضب فكل ما كان بيننا هو عقد زواج ، يلزمنا نحن الأثنين بأن نحتكر العلاقة بيننا ، ويمكن لأي منا أن يلغي هذا العقد .. ثم عليك أن تعرفي أنني لم أطلقك لأنني غاضب بل لأنني فقدت الثقة فيك .. قد تكوني بريئة ولكنك كاذبة أيضاً وهذا يجعل هناك إحتمالاً آخر بأنك تكذبين الآن أو ستكذبين غداً . في الواقع أنا لا أريد أن أخرج من المنزل والشكوك تملأ رأسي عن تحركاتك من ورائي . أريد أن أعيش بهدوء . وبما أنك كنتِ زوجتي فإنه ليس من مصلحتي أن أشوِّه صورتك . وإذا كنتِ بالفعل حُبلى فإن لك أن تحتضني الصغير حين تنجبيه أو تتركيه لي . إنني باختصار أريد أن ينتهي الأمر بهدوء .
أدارت رأسها تجاه كتفها الأيمن بملامح مكفهرة و مندهشة ودموعها تجري ، أدركت بأنه جاد ، وأن القضية انتهت . وهنا استخدمت آخر أسلحتها فقالت بجنون:
- حسنٌ وهل تظن أنك آخر الرجال .. إنني جميلة وهناك ألف من يتمناني .. نعم سأتزوج بمجرد أن تنتهي العدة .. وهذا الذي رأيته معي هو القادر على إمتاعي وليس أنت ..
لم يخف على أبشيبة الأمر ، وأدرك بأنها تحاول استفزازه ، رغم أنه في الواقع كان مثل جبل الجليد في أقاصي المحيطات. بل كان يشعر بأن الكارثة التي قضى معها سنة كاملة تكاد تنتهي . كان يشعر برعب وهو يتخيل أنه سيرضخ لها . قال:
- من حقك أن تتزوجي مرة أخرى .. وأنا أقولها لك بكل صدق .. أنا لا أريد أن تنتهي علاقتنا بشكل سيء .. كل ما أريده هو أن تنتهي ونحن أصدقاء ، إن لم يكن ذلك لأجل هذه الفترة التي قضيناها سوياً فلأجل أسرتينا . إن والدك رجل مهذب ولا أريد أن أخسره . ووالدتك سيدة كريمة .
ثم نهض وقال:
- سوف أذهب .. وسوف تصلك ورقة الطلاق غداً .
وحين خرج وضرب سموم الحر وجهه شعر بأنه نسيم عليل ، وأخذ يبتسم بسعادة ، لقد انتهت أيام البؤس ، إنتهت إلى غير رجعة.
***
كان منزله خالياً ، فكر في جمع أغراض كوثر لكنه عدل عن ذلك ، فلتأتِ لتفعل ذلك هي بنفسها. ثم خرج إلى الحديقة الخلفية ، ورفع عن الأرض غطاءاً خشبياً ، ثم أخذ يهبط أدراج سلم حجري . كانت رائحة القبو كريهة ، وذلك جراء جثث حيوانات مختلفة ، كانت موزعة داخل صناديق مفتوحة ، رفع درجة الإضاءة ، ثم نظر إلى زجاجة نقية ، عليها سائل أحمر ، وقال:
- هناك نتيجة .
ثم سحب نفساً وفمه على أُسطوانة بلاستيكية رفيعة تدفق إليها السائل ، ثم غطى رأسها العلوي بإبهامه وأخرج فأراً ميتاً من صندوقه ، قرب الأسطوانة من أنف الفأر ، ورفع إبهامه عن رأسها فانزلقت نقطة واحدة وتسربت إلى خياشيم الفأر. أخذ ينظر إلى الفأر بعينين حزينتين ، ورآه ينتفض انتفاضات متتالية ، قبل أن يرفع رأسه . فابتسم أبشيبة ابتسامة نصر.
همس :
-حان الآن وقت التجربة على البشر.
ألقى نظرة على ساعة معصمه ،فوجدها السابعة مساء ، أخذ الأسطوانة . وأدخلها بقلب أُسطوانة أخرى كبيرة ذات لون فضي ، ثم خرج وركب سيارته وأدارها متجهاً إلى المقابر .
تذكر أحاديث زملائه القانطة فضحك منهم ، ماذا لو علموا ، ماذا سيكون موقفهم؟ بل ماذا سيكون موقف العالم بأسره؟ وحين وصل وجد مجموعة من الرجال تنزل جثة إلى القبر وهم يبكون ، وضوء فانوس شاحب ينهزم في عتمة الليل ،فكر أبشيبة بسرعة ، هل يتحدث إليهم ، إن عملية إخراج جثة من قبرها ستكون صعبة . فعليه أن يجرف كل ذلك التراب ، ويزيح الكفن والقطن عن فتحات الميت . لكنه ما كان ليجازف بجهده بإخبار الناس ، لذلك قرر أن ينتظر ذهابهم. ولكنه فجأة لاحظ وجود مجموعة من الشرطة تخيم على الركن الغربي من المقبرة . فاتجه مباشرة إلى الرجال وقال بصوت متلعثم :
- المعذرة .
التفت بعض الرجال إليه وتجاهله الباقون فقال بتردد :
- هذا الشخص ..
صمت قليلاً ثم قال:
- إنه لم يمت..
دفعه أحدهم بقسوة وصاح:
-من أنت ؟ هل انت مجنون !.. إذهب ..
قال كرجل آلي:
-أنا طبيب وأرى بعض عروق هذا الميت تنبض.
قال رجل آخر:
-تراها في الظلام وتحت الكفن؟
صمت قليلاً ثم أضاف:
- لو سمحتم لي أن ألقي نظرة فقط .
حاول أحدهم التهجم عليه فمنعه آخر ، وأخذوا يصيحون :
- إذهب يا مجنون .. إذهب من هنا حالاً..
وعندما شعر بالإهانة قال بشجاعة:
- حسنٌ أنتم الخاسرون .. إن هذا الرجل لم يمت بعد وأنتم تدفنونه حياً ..
صاح أحدهم بنفاد صبر :
- هذا الرجل قتل بطلق ناري أصابه في دماغه فانفجر.. أرجوك أن تذهب .
وحين رأى شرطياً يتحرك بإتجاههم قرر العدول عن الأمر ، فركب سيارته وغادر المقبرة.
حدث نفسه وهو يقود السيارة ، (كان قريباً .. قريباً جداً .. أمام أعين الجميع لكنهم لم يلحظوه .. إن التعقيدات التاريخية للموت وخوفهم منه جعلهم يبحثون في الطرق الأصعب حتى أعماهم ذلك عن أن يروا الحل ماثلاً أمام أعينهم وأيديهم).
ماذا سيحدث إذا علم به الناس ، كيف ستتغير البشرية ؟ إن كل جوائز الدنيا لن تساوي ما أنجزه هو للبشرية. هل سيجعلونه مقدساً أو إلهاً ، قرر أن يتريث وأن لا يتحرك بسرعة ، عليه أن يخطط للأمر على نحو متزن . وإذا أراد ذلك فإن أول خطوة له هو أن يغادر هذا البلد . عليه أن يغادره إلى دولة تمنحه حرية أكبر في إظهار الأمر وكشفه دون خوف. قال بنواجذ ضاحكة:
- لقد هزمته في عقر داره ...
ضرب على المقود وقال :
- في عقر داره .
***
من سيقرصه من حلمة أذنه ليصدق تحرره من كوثر ، كان الليل مسدلاً أستاره على الشوارع الخالية ، وكان يقود ببطء وكأنه لا يرغب في الوصول إلى مكان ما ، الليل أيها الرائع ، وهنا خطر له أن يسافر ، عليه أيضاً أن يتحرر من هنا ، من أفريقيا ، أفريقيا التي لم تتحرر أبداً من لعنتها ، وأخذ يفكر في دولة تمنحه ذلك الشغف الذي يحلم به ، تلك الدولة التي يمكنها أن تفجره كإنسان ، ليتفتح كزهرة الأقحوان التي تنبت على أطراف تل أخضر وهي مقبلة على المرج المنشرح بإبتسامة واسعة دون أن تغمض عينيها عن الرياح الباردة الهاربة من أسطح البحيرات .
وحين بلغ سريره ألقى بنفسه عليه وعيناه تتسعان تحت الظلام ، "لن أتخيل نفسي داخل كهفي المظلم مع كلبي الأليف لأنام" ، قال ذلك لنفسه ، فقد كان يتخيل نفسه داخل كهف مظلم في قمة جبل ، والثلوج والظلمة تحيط به من كل جانب ، فيشعل نار تدفئة ببعض الحطب ، ثم يبدأ بمسامرة كلبه الأليف وهو يصنع الشاي الأخضر على نار التدفئة ، كان ذلك الخيال يمنحه الشعور بالنعاس ، وكان إذا أراد أن يناقش قضايا هامة ، يقوم بمناقشتها مع كلبه المتخيل الذي يقطن معه داخل الكهف ، فإذا انتهى ورغب في النوم ، كان يغلق –في خياله- فوهة الكهف الصغيرة بصخرة كروية. وهو يستمع إلى صوت زمهرير الثلوج. أما هذا اليوم فهو لن يحتاج إلى ذلك ، سوف ينام ملء جفنيه ؛ فالشيطان المدعو بكوثر لم يعد بجانبه اليوم . شخيرها المقرف ، ضراطها تحت اللحاف ، ضربات يدها المتكررة على وجهه ، سحبها للغطاء ، استيقاظها في الساعة الخامسة صباحاً ، ضجيجها بحركاتها التي لا تنقطع وحديثها المسموع لنفسها . سيطرتها المتواصلة على كل تصرفاته ، لسانها السليط المليء بالقاذورات الإصطلاحية والأمثال عديمة الأدب .
إكفهر وجهه ، وحين لاحظ ذلك قرر ألا يتذكرها أبداً ، حتى يسعد بلحظة التحرر كما يجب . وقبل أن يغمض عينيه سمع رنين هاتفه ، فنظر إلى ساعة هاتفه ووجدها الواحدة ليلاً ، فهمس:
- ماذا يريد هذا السخيف ؟
كان المتصل هو الحسيني ، وهو أسخف زملائه في الجامعة ، وفوق سخفه كان يتعمد الإستخفاف به دائماً ، وهو فوق ذلك كله شخص متملق ومتسلق ، ولا شك أنه الآن يتصل لمصلحة خاصة ، دار في خلده ذلك وقرر أن يرد عليه بقرف وأن يطلب منه عدم الإتصال به مرة أخرى في مثل هذا الوقت المتأخر .
وحين أجاب الإتصال سمع صوتاً آخر هو صوت الصادق الذي كان يقول:
- افتح الباب نحن أمام باب منزلك . إنها حالة عاجلة. هيا إنهض .
صمت قليلاً ثم قال بعد أن زفر زفيراً يائساً :
- حسنٌ .
ثم نهض بتكاسل . واتجه نحو باب المنزل ، توقف قليلاً دون أن يدري سبب ذلك ، ثم فتح الباب ووجد الصادق والحسيني كما لمح ظل جسد أنثوي رشيق ، قال الصادق:
- سنحكي لك حينما ندخل .. ابتعد قليلاً .
مدَّ الصادق يده وأزاح أبشيبة ثم دخل ، ودخل وراءه الحسيني وهو يبتسم ، ولم يمد أي من الرجلين يده لمصافحته، ثم أن الصادق عاد وهو يقول :
- هيا يا ليزا أدخلي .
رأى أبشيبة الجسد الأنثوي الرشيق يتحرك تجاهه بخجل ، فأدرك أنها عاهرة ، وساءه ذلك ، ثم رآها تمدُّ يدها إليه في حين كانت يسراها تمسك بصندوق مستطيل ضخم . وحين أراد أن يمد يده ليسلم عليها رأى الصادق يعود أدراجه إلى سيارته ثم يعود حاملاً أكياساً سوداء ، كذلك أدرك أبشيبة أنها الخمرة ، وكان يكره الخمرة ومن يشربونها أيما كره . ثم صافح الفتاة. ودخل بها إلى الصالة ، وحين أضاء المصابيح نظر إلى ليزا عن كثب ، كانت نحيلة سوداء البشرة ، تحمل على رأسها شعراً رجالياً قصيراً وخشناً ، بشفتين غليظتين وعينين غائرتين في محجريهما ، كانت أقبح مما يمكنه أن يتخيل . وكانت تحمل بيدها صندوق جيتار أسود. همس لنفسه : (كيف سيفعلونها معها .. اللعنة .. إنهم زبالة ) . كان وجهه يعبر عن دواخله المشمئزة بوضوح . وقد شعرت ليزا بذلك فطأطأت رأسها بخجل .
جلس أربعتهم فقال أبشيبة:
- حسنٌ ما هو الأمر العاجل يا بروفيسورات .
ضغط على كلمة (بروفيسورات) بأضراسه ليشعرهم بالخزي من مضاجعة امرأة قبيحة كليزا . أدخل الصادق يده داخل الكيس وأخرج زجاجات بيرة ، وقال :
- أنت لا تشرب صحيح رغم أنك لست متديناً . ومع ذلك فقد جئنا لنسري عنك بحسب اقتراح الحسيني.
قال بقلق:
- لماذا تسرون عنِّي؟
قال الصادق :
- أنا ابن خالتك يا رجل وقد علمت بأمر الطلاق . حسناً إذا كان وجود الخمر معنا يزعجك يمكنك أن تأتي معنا إلى منزلي . نحن نعلم بأنه سيسبب لك مسئولية جنائية إذا وجد بحيازتك .
أجابه:
- لا يزعجني .. ما يزعجني حقاً أن خبر الطلاق قد انتشر على هذا النحو . ثم أنني لست مستاءاً من الطلاق بل على العكس أنا مسرور جداً .
قال الحسيني :
- مسرور ؟
لم ينتظر الصادق إجابة أبشيبة على تعجب الحسيني بل قال:
- سنجد لك امرأة أخرى . صدقني .. هناك معيدة جديدة تم تعيينها وهي فتاة شابة ذكية ، كما أنها جميلة . ولكنها تجاوزت الخامسة والثلاثين واعتقد بأنها لن ترفض رجلاً مثلك ، هادئ الطباع ومحترم ومتعلم وله وظيفة محترمة .
ثم مدَّ بعلب البيرة إلى الحسيني ورفضت ليزا الشرب ، فقال الصادق بمرح:
- هيا يا رجل .. لا تكن صامتاً وبائساً هكذا .. هل تريد كأساً .
تلعثم أبشيبة وهزَّ رأسه ، فمدَّ له الصادق علبة ، ثم قال :
-نسيت أن أعرفك بليزا .. إنها أستاذة موسيقى بمدرسة خاصة.. و ستسافر بعد ساعات إلى روما للمشاركة في حفل موسيقيٍّ شبابي .. سنوصلها إلى المطار معنا.
قال الحسيني :
- لا أحب موسيقى الشباب .. أنا مدمن على موسيقى السبعينات والثمانينات .
قالت ليزا :
- وأنا كذلك أحب موسيقى السبعينات والثمانينات .
قال الصادق:
- حسناً في السبعينات والثمانينات كانوا يسمون موسيقى ذلك الوقت أيضاً بموسيقى الشباب .
قال الحسيني :
- ليس كذلك .. إن الثمانينات تحديداً شهدت قفزة إبداعية في الموسيقى .. الآن هناك تردي وانحطاط .. صخب وضجيج وإيقاعات مزعجة .
ثم التفت إلى أبشيبة قائلاً :
- ما رأيك ؟
هزَّ أبشيبة كتفيه وقال :
- لا أعرف .. أنا لست خبيراً في الموسيقى .
قال الحسيني باستخفاف :
- أنت لست خبيراً في أي شيء .
اكتفى أبشيبة بالصمت ، وقال الصادق :
- حسنٌ لا تقسو عليه أكثر من ذلك . إنه عبقري في علمه وهذا كافٍ تماماً . إنه الوحيد الذي نال جائزة دولية حتى الآن في جامعتنا المتهالكة هذه .
تجاهل الحسيني هذا المديح وقال لليزا :
- ألن تسمعينا شيئاً يا ليزا ؟
كانت ليزا تشعر بالخجل ، خاصة أن نظرات أبشيبة المشمئزة أشعرتها بالغربة عن هذه المجموعة . فقالت:
- الجيتار غير موزون .. أنا آسفة .
أدرك أبشيبة ذلك ، وقرر أنه إذ أخطأ حين إعتقد أنها عاهرة فعليه أن يكفر عن معاملته القاسية لها ، فقال:
- يمكنك أن توزنيه . هل هذا صعب ؟
هزت رأسها ببطء وقالت بصوت خفيض:
- لا ..
ثم أخرجت الجيتار من صندوقه الأسود . وأخذ الرجال يتجاذبون أطراف الحديث ، وهي منشغلة بوزن الجيتار ، في الواقع كانت قلقة أكثر من أي يوم مضى ، كانت تشعر بضعف شديد ، وأنها تصغر في نظر نفسها كل ثانية . ثم أنها قالت بتردد:
- لقد .. لقد انتهيت .
قال الصادق :
- مرحى .. هيا .. قبل أن تغادر طائرتك .
ضربت بأصباعها على الجيتار ، فأصدر تسلسلاً موسيقياً عميقاً ، ثم أخذت تصنع إيقاعاً منتظماً ، كان الكورد بطيئاً ، ثم أنها نظرت إلى الأرض ، ورأى أبشيبة قرطاً فضياً يتدلى من شحمتي أذنيها ، وهو الشيء الوحيد الذي يعطيها مظهر الأنثى ، ثم أنها أخذت تغمغم ، قبل أن تنفجر بصوت رخيم ، كان صوتها يجمع بين الصوت الرجولي والأنثوي في آن واحد ، وكانت طبقاته تعلوا وتنخفض بمرونة عالية ، وخلال ثوانٍ وجد أبشيبة نفسه محلقاً داخل نوتة موسيقية . كانت تغني بألم وبفرح بكلمات مليئة بالألغاز .. الوجع القلبي .. النوم .. السقوط .. الحلم .. لكن كل هذه الكلمات التي تبدو غير مترابطة ، تجمعت في عقل أبشيبة كصورة واحدة .. كان ينظر إلى ليزا بعينين متسعتين . وكانت كل دقة من دقات أصابعها على أوتار الجيتار تخترق عظامه بصدمة كهربية موجعة . ثم ارتج صوت ليزا والدموع تنهال من عينيها .. وازداد اتساع عينيه ، ورأى أن عاصفة تكتسح كل الصور ، كلبه الأليف المتخيل ، زهرة الأقحوان ، الثلوج ، الكهف ، كوثر ، والد كوثر ، الطبيبة النفسية ، السيبراليكس ، الجوائز التي نالها ، هو نفسه يتفتت ويتشظى إلى ذرات ، الماضي بأسره ، وجوده ، آلامه ، وأحلامه وطموحاته ، لقد اكتسحتها عاصفة صوت ليزا في دقائق معدودة .
وحين انتهت . وصفق الرجلان ، ظل أبشيبة متجمداً ، وهو يحملق في ليزا برعب . قال الصادق:
- أين أنت يا رجل ؟ ألا يمكنك حتى أن تجامل ليزا بكلمة .
إلا أنه ظل صامتاً ، وعيناه تتلاقيان بعيني ليزا ، ولوهلة شعرت ليزا بقلبها يخفق وهي تحدق في عيني أبشيبة ، كان شعوراً مفاجئاً وغير منتظر ، قال أبشيبة بصوت مختنق :
- هل .. هل أنتِ مضطرة للسفر الليلة ؟
قالت :
- نعم .
قال:
- هل .. هل يمكنني أن أسافر معك ؟
أومأت برأسها ببطء وملامح متجمدة ، فقال أبشيبة:
- سأعود بعد دقائق .
كان قلبه يخفق ، وهو يهبط إلى قبوه المتعفن ، حمل عصا وأخذ يحطم كل الأدوات وجثث الحيوانات . وبعد أن انتهى ، مسح فمه بكم قميصه ، وهو يلهث ، ثم خرج ووقف أمام الحديقة ، وحينما رأى ليزا تتقدم نحوه تذكر زهرة الأقحوان فمد يده إليها وأستقبل أصابعها الرقيقة بين أصابعه.
(تمت)
السبت 4 يناير 2014م
الجريف غرب
حمل الشرطيون الجثة على ظهر السيارة المكشوفة ، وجلسوا حولها وهم يتجادلون عن مباراة كرة القدم ، وحين تحركت السيارة نحو المشرحة ، تحدث بعض زملاء المجني عليه وهم بروفيسورات عن وضوح القضية ، فبعد أن قام الشيخ كرارالدين بإهدار دم البروفيسور صالح زياد وتكفيره نفذ أحد تلاميذ الشيخ هذه الفتوى المقدسة. وكالعادة تنصل الشيخ من علاقته بالقاتل معترضاً على عملية قتل فرد بدون اللجوء إلى ولي الأمر أي عبر القضاء حتى ولو ثبت كفره. وعلى أية حال ، هرب القاتل أو تم تهريبه من السجن قبل أن يتم تنفيذ حكم الإعدام عليه. وفي الذكرى السنوية الأولى لمقتل البروفيسور اجتمع الزملاء وأخذوا يناقشون كعادتهم مشكلة التطرف . وكان من بينهم شاب خجول يدعى أبشيبة ، كان قصيراً ونحيلاً ، وذو عينين واسعتين كلؤلؤتين داخل قطيفة سوداء ، فقد كان جلده شديد السواد . كان قليل الحديث ، ويبدو قليل الثقة بنفسه ، فهو يتلعثم حين يتحدث، فينصرف زملاؤه عن الإستماع له لينخرطوا في حديثهم المشوق عن موت الإله، وكانوا يتجادلون دئماً في قضية أساسية تشغلهم وهي كيفية إثبات نفي وجود الله كأساس لإنهاء التطرف، إنها القضة الأزلية ، التي أضحت سخيفة جداً بالنسبة للجميع بما فيهم أشد الناس كفراً . وقال الحسيني وهو أربعيني ذو بشرة صفراء ، وابتسامة لا تغادر شفتيه ، أن النقاش الأزلي لم يفض إلى إثبات أو نفي الله ، بل هو في النهاية يصل إلى ذات النتيجة وهي الوصول إلى اللا نتيجة . والقضية أضحت سخيفة بالنسبة له. رغم ارتباطها بقوة بحركة البشرية وتأثيرها الذي لا يضاهيه تأثير على التوجهات النفسية والسياسية والإجتماعية بل وحتى الإقتصادية على المجتمعات والشعوب والدول.
أما دكتور الصادق المتحدث اللبق والمتأنق دائماً بربطة عنقه ودبابيس الأكمام الذهبية ، فقد كان يرى أن هذه القضية لا يمكن أن تنتهي إلا بنهاية الإنسان نفسه ، فهناك أجيال ستأتي لتناقشها مرة أخرى ، وأن النتيجة التي يتوصل إليها جيل ربما تكون هي نفس النتيجة التي ستتوصل إليها الأجيال التالية له ومع ذلك فإن لكل جيل الحق في النقاش ، ولعل جيلاً ما يتوصل إلى نتيجة قاطعة رغم أن هذا مستبعد وربما هو مستحيل.
ورابعهم كان الرجل ذو الكرش ، والوجه الدائري والعينين الغاضبتين ذو الشارب الدقيق ولم يكن له حاجبين ، وقال بذات الغضب غير المبرر :
-علينا أن نكف عن ذلك بل و علينا أن نخبر الأجيال القادمة أنها قضية سخيفة وأن عليهم ألا يضيعوا وقتهم في نقاشها ذلك الجدل السفسطائي غير المنتج. علينا أن نقول لهم كلمةواحدة: (لا نتيجة).
إلا أن ثلاثتهم التفتوا إلى أبشيبة حين قال بسرعة ، وتوتره يزداد:
- هناك نتيجة .
قال الحسيني وهو ينهض:
- حسناً عليَّ أن أذهب .
فصمت أبشيبة بخجل ولم يعقب ، وحين خرج الجميع من منزل المرحوم ، أدار أبشيبة سيارته وهو يحاول بقدر الإمكان أن يرى عبر زجاج السيارة ، فبالرغم من أنه يضع مسنداً تحته ليرفع من قامته إلا أن ذلك ما كان ليجديه نفعاً وكان عليه أن يشرئب بعنقه دائماً ليرى الطريق ، وكانت قيادته متوترة هي أيضاً فقد كان يدير مقود السيارة يميناً ويساراً وهو يحاول أن يوازن بين ثقل السيارة وسرعتها ، ثم أنه وصل إلى عيادة طبيبته النفسية ، فركن سيارته ، ومسح جبهته السوداء اللامعة بكم قميصه كعادته، ثم دلف إلى العيادة ، وإذ وجد بها قرابة سبعة من المرضى الذين ينتظرون دورهم ، تخير مقعداً وجلس ، فطلبت منه سكرتيرة الطبيبة رقم دفتره ، فأخبرها به، وبسرعة تحركت السكرتيرة وأخذت تبحث في دولاب قصير ممتلي بالملفات الزرقاء والحمراء عن ملفه ، فأخرجته ، وقالت:
- أنت الثامن في طابور الإنتظار برقم (303) أرجو أن تتذكره .
أومأ إيجاباً ، ثم أخرج هاتفه المحمول دوَّن فيه الرقم بيد مرتعشة ، وبعد مرور ثلاث ساعات ، طلبت منه السكرتيرة الدخول ، فدخل ، ورأى الطبيبة تجلس على طاولة حديدية مبرقعة بالصدأ ، ورغم أن عيادة هذه الطبيبة بصورة عامة كانت غير منظمة وقديمة ، بل ومتسخة في بعض زواياها ؛ إلا أن الطبيبة كانت شهيرة بكفاءتها . ولم يقل رواد عيادتها يوماً عن ثلاثين مريضاً. حصلت الطبيبة على معلوماته الشخصية كما هي عادتها ، إسمه وسنه وعنوانه وقارنتها بما هو مكتوب في تقريره ، ثم أنها سألته عن مدى تحسنه بعد تناوله السيبرالكس لمدة أربعة أشهر ، فقال بأن وضعه لم يتحسن كثيراً . قال ذلك وهو خائف من رد فعل الطبيبة ، وبالفعل شعر بأن الطبيبة امتعضت قليلاً وكأنما أشعرها حديثه بفشلها . فطلبت منه زيادة الجرعة ، وأخبرته بأن العلاج يحتاج إلى وقت وصبر ومتابعة . وبنبرة متلعثمة طلب منها رأيها في الصدمة الكهربية فأخبرته –بنفاد صبر-بأن حالته لا تستدعي إستخدام الكهرباء بعد. فخرج منها وهو يشعر بخيبة كبيرة ، لكنه عزم على متابعة تناول الدواء بصورة منتظمة رغم عدم جدواه .
أدار محرك سيارته ، وبقى ساكناً لثوانٍ قبل أن يندفع بها بقفزة لا إرادية ، ثم قادها في أزقة خالية ، قبل أن ينحرف بها إلى شارع رئيسي ، كان بالكاد يرى السيارات التي تتجاوزه عبر المرآة الجانبية ، كانت المرآة منحرفة بحيث لا تكشف عن شيء خلفه ، هدأ من سرعة السيارة ثم مدَّ يده لإصلاحها ، وخيل له في هذه اللحظة أنه يرى كوثر جالسة في إحدى الحدائق ، كان يرى ثوبها الذي يحفظ تشكيلاته التي لا تخطؤها عينه ، ذلك الثوب الأسود الذي تزركشه ورود حمراء ضخمة ، فدار بسيارته ورآها بالفعل جالسة قبالة رجل ، أوقف سيارته على جانب الطريق ثم اتصل بها ،رآها تنظر إلى الهاتف وتلغي إتصاله فأعاد الإتصال حينها سمع صوتها وهي تقول :
- نعم ..
قال :
- أين أنتِ؟
- أنا عند خالتي .
قال وقد خفق قلبه :
- حسنٌ أنظري إلى يسارك .
رآها تلتفت نحوه بخوف ، فأشار بيده ثم قاد سيارته عائداً إلى المنزل . كان يفكر فيما حصل ، غير أن ما أثار عجبه هو أنه لم يشعر بأي غيرة وهو يرى زوجته مع رجل آخر ، وهنا خطر له خاطر ، فغير اتجاهه إلى منزل والديْ كوثر ، وبالفعل تلقاه والدها بحبور ، وأثناء ذلك ، كان يلغي إتصالات كوثر المتكررة بتهافت. وحين جلس إلى والدها قال:
- سوف أختصر لك سبب زيارتي لك .. فهو ليس مفرحاً .
بدا القلق على وجه والدها ، حاول أبشيبة ألا يتلعثم بقدر الإمكان ، ثم قال :
- قبل قليل رأيت كوثر بإحدى الحدائق .
قال والدها بحدة:
- ومعها رجل آخر؟
أومأ أبشيبة برأسه ، فقال والدها:
- إتصلت بها فكذبت عليك ؟ أليس كذلك ؟
أعاد أبشيبة إيماءته .
سأله والدها:
- وماذا قررت ؟
- قررت أن أطلقها . هي حرة .
قال والدها وهو يخرج هاتفه من جيبه:
- هاهي تتصل .. ألو .. كوثر .. نعم إنه معنا هنا ..
ثم أضاف:
- سأعود لك بعد قليل .
- حسنٌ .
جلس أبشيبة وحده ، وقد شعر بأن والد كوثر قد أصيب بصدمة . وأنه الآن يحاول استجماع شتات نفسه. إلا أنه عاد وتعجب من خلو مشاعره تماماً من أي إحساس تجاه ما فعلته كوثر . وحاول استرجاع عواطفه تجاهها فلم يجد شيئاً ، حتى وهما يمارسان الجنس ، كان يشعر بالقرف ، كانت تقول :
- ابتعد عن ثديَيَّ لا أحب أن تعتصرهما .
ثم كانت تفرض عليه طرقاً محددة للممارسة دون أي تفاوض . وكان ذلك يجعله فاتر الهمة . أدرك أنها تحب القيادة في كل شيء ، كانت خالية من الروح ، وربما قاسية ، وهي فوق ذلك تعشق المال عشقاً جماً ، ورغم عشقها له إلا أنها لم تكن تنفقه ، بل تشتري به ذهباً وتخزنه ، ثم علم أنها استأجرت صندوقاً خاصاً بالبنك أودعت فيه ذهبها الذي بلغ أوزانا كبيرة وحين وصلت به أفكاره إلى هذه النقطة ، رآها تدخل بعينين محمرتين جزعتين . ورأى شعرها الخشن القصير منكوشاً ، لم يكن فيها شيء جميل سوى جسدهاً ، كانت ممشوقة القوام بردفين متصلين بإليتين دائرتين ،وراء حوض ضخم وظهر ذو سلسلة فقرية طويلة ، إلا أن بشرتها لم تكن كذلك ، فرغم سمرتها الهادءة إلا أن هناك بقعاً سوداء ، وداخل فخذيها كانت البقع واضحة وكبيرة وكان مهبلها كثيف الشعر ، يمتد حتى فتحة الشرج وكأنها شمبانزي ، لم يكن يوماً قادراً على النظر إليه بشهوة . ولم تكن هي نفسها تسمح له بذلك ، كانت تدعي بأنها تكره النظر إلى فرجها ، كان لديها في الواقع قواعد صارمة للممارسة الجنسية ، قواعد مملة ، فيخرج منها صفر اليدين . لكنه رغم ذلك اكتفى بالقليل . مؤثراً هدوءه العائلي على رغباته الجنسية . سمعها تصرخ:
- صدقني أنا لم أفعل شيئاً .. إنني أحبك أنت .. ما رأيته كان مجرد جلسة مع صديق لي في العمل .
عاد والدها وحين رآها جالسة تتحدث بهذا الصوت الصارخ ، دار على عقبيه واختفى .
قال أبشيبة بهدوء لم يشعر به من قبل حتى وهو يبتلع السيبراليكس:
- أنتِ طالق.
صاحت وهي تحرك يديها ، ورأى ثوبها يسقط من على الجانبين لتظهر تلك الجبال اللحمية التي تهبط من ذراعها :
- لا تتسرع يا أبشيبة .. لا تخرب بيتنا بكل هذه السهولة ..
وقالت كلاماً كثيراً لم يسمعه ، ثم أنها لما رأته غير متأثر بشيء ، قالت كقائدٍ عسكري :
- أنا حامل .
توقعت أن يرفع رأسه لينظر إليها إلا أنه قال بهدوء:
- يمكنك أن تتزوجي بعد أن تنجبي مباشرة فعدتك وفقاً للشرع تنتهي بوضع الحمل .
هزت رأسها ككلب ينفض عن رأسه الماء وهي غير مصدقة :
- ولكني لا أقصد ذلك ..
قال:
- حسنٌ يمكنك أن تنسبيه لي أو إلى والده ..
صاحت بغضب ودموعها تجري :
- ماذا تقصد .. لا .. أرجوك لا تصدق ذلك .. إنني لست كذلك ..
قال :
- ما قصدته أنك أنتِ الوحيدة القادرة على معرفة هذا الأمر .. وأنني لا أمانع .. وصدقيني أنا لا أشعر بغضب فكل ما كان بيننا هو عقد زواج ، يلزمنا نحن الأثنين بأن نحتكر العلاقة بيننا ، ويمكن لأي منا أن يلغي هذا العقد .. ثم عليك أن تعرفي أنني لم أطلقك لأنني غاضب بل لأنني فقدت الثقة فيك .. قد تكوني بريئة ولكنك كاذبة أيضاً وهذا يجعل هناك إحتمالاً آخر بأنك تكذبين الآن أو ستكذبين غداً . في الواقع أنا لا أريد أن أخرج من المنزل والشكوك تملأ رأسي عن تحركاتك من ورائي . أريد أن أعيش بهدوء . وبما أنك كنتِ زوجتي فإنه ليس من مصلحتي أن أشوِّه صورتك . وإذا كنتِ بالفعل حُبلى فإن لك أن تحتضني الصغير حين تنجبيه أو تتركيه لي . إنني باختصار أريد أن ينتهي الأمر بهدوء .
أدارت رأسها تجاه كتفها الأيمن بملامح مكفهرة و مندهشة ودموعها تجري ، أدركت بأنه جاد ، وأن القضية انتهت . وهنا استخدمت آخر أسلحتها فقالت بجنون:
- حسنٌ وهل تظن أنك آخر الرجال .. إنني جميلة وهناك ألف من يتمناني .. نعم سأتزوج بمجرد أن تنتهي العدة .. وهذا الذي رأيته معي هو القادر على إمتاعي وليس أنت ..
لم يخف على أبشيبة الأمر ، وأدرك بأنها تحاول استفزازه ، رغم أنه في الواقع كان مثل جبل الجليد في أقاصي المحيطات. بل كان يشعر بأن الكارثة التي قضى معها سنة كاملة تكاد تنتهي . كان يشعر برعب وهو يتخيل أنه سيرضخ لها . قال:
- من حقك أن تتزوجي مرة أخرى .. وأنا أقولها لك بكل صدق .. أنا لا أريد أن تنتهي علاقتنا بشكل سيء .. كل ما أريده هو أن تنتهي ونحن أصدقاء ، إن لم يكن ذلك لأجل هذه الفترة التي قضيناها سوياً فلأجل أسرتينا . إن والدك رجل مهذب ولا أريد أن أخسره . ووالدتك سيدة كريمة .
ثم نهض وقال:
- سوف أذهب .. وسوف تصلك ورقة الطلاق غداً .
وحين خرج وضرب سموم الحر وجهه شعر بأنه نسيم عليل ، وأخذ يبتسم بسعادة ، لقد انتهت أيام البؤس ، إنتهت إلى غير رجعة.
***
كان منزله خالياً ، فكر في جمع أغراض كوثر لكنه عدل عن ذلك ، فلتأتِ لتفعل ذلك هي بنفسها. ثم خرج إلى الحديقة الخلفية ، ورفع عن الأرض غطاءاً خشبياً ، ثم أخذ يهبط أدراج سلم حجري . كانت رائحة القبو كريهة ، وذلك جراء جثث حيوانات مختلفة ، كانت موزعة داخل صناديق مفتوحة ، رفع درجة الإضاءة ، ثم نظر إلى زجاجة نقية ، عليها سائل أحمر ، وقال:
- هناك نتيجة .
ثم سحب نفساً وفمه على أُسطوانة بلاستيكية رفيعة تدفق إليها السائل ، ثم غطى رأسها العلوي بإبهامه وأخرج فأراً ميتاً من صندوقه ، قرب الأسطوانة من أنف الفأر ، ورفع إبهامه عن رأسها فانزلقت نقطة واحدة وتسربت إلى خياشيم الفأر. أخذ ينظر إلى الفأر بعينين حزينتين ، ورآه ينتفض انتفاضات متتالية ، قبل أن يرفع رأسه . فابتسم أبشيبة ابتسامة نصر.
همس :
-حان الآن وقت التجربة على البشر.
ألقى نظرة على ساعة معصمه ،فوجدها السابعة مساء ، أخذ الأسطوانة . وأدخلها بقلب أُسطوانة أخرى كبيرة ذات لون فضي ، ثم خرج وركب سيارته وأدارها متجهاً إلى المقابر .
تذكر أحاديث زملائه القانطة فضحك منهم ، ماذا لو علموا ، ماذا سيكون موقفهم؟ بل ماذا سيكون موقف العالم بأسره؟ وحين وصل وجد مجموعة من الرجال تنزل جثة إلى القبر وهم يبكون ، وضوء فانوس شاحب ينهزم في عتمة الليل ،فكر أبشيبة بسرعة ، هل يتحدث إليهم ، إن عملية إخراج جثة من قبرها ستكون صعبة . فعليه أن يجرف كل ذلك التراب ، ويزيح الكفن والقطن عن فتحات الميت . لكنه ما كان ليجازف بجهده بإخبار الناس ، لذلك قرر أن ينتظر ذهابهم. ولكنه فجأة لاحظ وجود مجموعة من الشرطة تخيم على الركن الغربي من المقبرة . فاتجه مباشرة إلى الرجال وقال بصوت متلعثم :
- المعذرة .
التفت بعض الرجال إليه وتجاهله الباقون فقال بتردد :
- هذا الشخص ..
صمت قليلاً ثم قال:
- إنه لم يمت..
دفعه أحدهم بقسوة وصاح:
-من أنت ؟ هل انت مجنون !.. إذهب ..
قال كرجل آلي:
-أنا طبيب وأرى بعض عروق هذا الميت تنبض.
قال رجل آخر:
-تراها في الظلام وتحت الكفن؟
صمت قليلاً ثم أضاف:
- لو سمحتم لي أن ألقي نظرة فقط .
حاول أحدهم التهجم عليه فمنعه آخر ، وأخذوا يصيحون :
- إذهب يا مجنون .. إذهب من هنا حالاً..
وعندما شعر بالإهانة قال بشجاعة:
- حسنٌ أنتم الخاسرون .. إن هذا الرجل لم يمت بعد وأنتم تدفنونه حياً ..
صاح أحدهم بنفاد صبر :
- هذا الرجل قتل بطلق ناري أصابه في دماغه فانفجر.. أرجوك أن تذهب .
وحين رأى شرطياً يتحرك بإتجاههم قرر العدول عن الأمر ، فركب سيارته وغادر المقبرة.
حدث نفسه وهو يقود السيارة ، (كان قريباً .. قريباً جداً .. أمام أعين الجميع لكنهم لم يلحظوه .. إن التعقيدات التاريخية للموت وخوفهم منه جعلهم يبحثون في الطرق الأصعب حتى أعماهم ذلك عن أن يروا الحل ماثلاً أمام أعينهم وأيديهم).
ماذا سيحدث إذا علم به الناس ، كيف ستتغير البشرية ؟ إن كل جوائز الدنيا لن تساوي ما أنجزه هو للبشرية. هل سيجعلونه مقدساً أو إلهاً ، قرر أن يتريث وأن لا يتحرك بسرعة ، عليه أن يخطط للأمر على نحو متزن . وإذا أراد ذلك فإن أول خطوة له هو أن يغادر هذا البلد . عليه أن يغادره إلى دولة تمنحه حرية أكبر في إظهار الأمر وكشفه دون خوف. قال بنواجذ ضاحكة:
- لقد هزمته في عقر داره ...
ضرب على المقود وقال :
- في عقر داره .
***
من سيقرصه من حلمة أذنه ليصدق تحرره من كوثر ، كان الليل مسدلاً أستاره على الشوارع الخالية ، وكان يقود ببطء وكأنه لا يرغب في الوصول إلى مكان ما ، الليل أيها الرائع ، وهنا خطر له أن يسافر ، عليه أيضاً أن يتحرر من هنا ، من أفريقيا ، أفريقيا التي لم تتحرر أبداً من لعنتها ، وأخذ يفكر في دولة تمنحه ذلك الشغف الذي يحلم به ، تلك الدولة التي يمكنها أن تفجره كإنسان ، ليتفتح كزهرة الأقحوان التي تنبت على أطراف تل أخضر وهي مقبلة على المرج المنشرح بإبتسامة واسعة دون أن تغمض عينيها عن الرياح الباردة الهاربة من أسطح البحيرات .
وحين بلغ سريره ألقى بنفسه عليه وعيناه تتسعان تحت الظلام ، "لن أتخيل نفسي داخل كهفي المظلم مع كلبي الأليف لأنام" ، قال ذلك لنفسه ، فقد كان يتخيل نفسه داخل كهف مظلم في قمة جبل ، والثلوج والظلمة تحيط به من كل جانب ، فيشعل نار تدفئة ببعض الحطب ، ثم يبدأ بمسامرة كلبه الأليف وهو يصنع الشاي الأخضر على نار التدفئة ، كان ذلك الخيال يمنحه الشعور بالنعاس ، وكان إذا أراد أن يناقش قضايا هامة ، يقوم بمناقشتها مع كلبه المتخيل الذي يقطن معه داخل الكهف ، فإذا انتهى ورغب في النوم ، كان يغلق –في خياله- فوهة الكهف الصغيرة بصخرة كروية. وهو يستمع إلى صوت زمهرير الثلوج. أما هذا اليوم فهو لن يحتاج إلى ذلك ، سوف ينام ملء جفنيه ؛ فالشيطان المدعو بكوثر لم يعد بجانبه اليوم . شخيرها المقرف ، ضراطها تحت اللحاف ، ضربات يدها المتكررة على وجهه ، سحبها للغطاء ، استيقاظها في الساعة الخامسة صباحاً ، ضجيجها بحركاتها التي لا تنقطع وحديثها المسموع لنفسها . سيطرتها المتواصلة على كل تصرفاته ، لسانها السليط المليء بالقاذورات الإصطلاحية والأمثال عديمة الأدب .
إكفهر وجهه ، وحين لاحظ ذلك قرر ألا يتذكرها أبداً ، حتى يسعد بلحظة التحرر كما يجب . وقبل أن يغمض عينيه سمع رنين هاتفه ، فنظر إلى ساعة هاتفه ووجدها الواحدة ليلاً ، فهمس:
- ماذا يريد هذا السخيف ؟
كان المتصل هو الحسيني ، وهو أسخف زملائه في الجامعة ، وفوق سخفه كان يتعمد الإستخفاف به دائماً ، وهو فوق ذلك كله شخص متملق ومتسلق ، ولا شك أنه الآن يتصل لمصلحة خاصة ، دار في خلده ذلك وقرر أن يرد عليه بقرف وأن يطلب منه عدم الإتصال به مرة أخرى في مثل هذا الوقت المتأخر .
وحين أجاب الإتصال سمع صوتاً آخر هو صوت الصادق الذي كان يقول:
- افتح الباب نحن أمام باب منزلك . إنها حالة عاجلة. هيا إنهض .
صمت قليلاً ثم قال بعد أن زفر زفيراً يائساً :
- حسنٌ .
ثم نهض بتكاسل . واتجه نحو باب المنزل ، توقف قليلاً دون أن يدري سبب ذلك ، ثم فتح الباب ووجد الصادق والحسيني كما لمح ظل جسد أنثوي رشيق ، قال الصادق:
- سنحكي لك حينما ندخل .. ابتعد قليلاً .
مدَّ الصادق يده وأزاح أبشيبة ثم دخل ، ودخل وراءه الحسيني وهو يبتسم ، ولم يمد أي من الرجلين يده لمصافحته، ثم أن الصادق عاد وهو يقول :
- هيا يا ليزا أدخلي .
رأى أبشيبة الجسد الأنثوي الرشيق يتحرك تجاهه بخجل ، فأدرك أنها عاهرة ، وساءه ذلك ، ثم رآها تمدُّ يدها إليه في حين كانت يسراها تمسك بصندوق مستطيل ضخم . وحين أراد أن يمد يده ليسلم عليها رأى الصادق يعود أدراجه إلى سيارته ثم يعود حاملاً أكياساً سوداء ، كذلك أدرك أبشيبة أنها الخمرة ، وكان يكره الخمرة ومن يشربونها أيما كره . ثم صافح الفتاة. ودخل بها إلى الصالة ، وحين أضاء المصابيح نظر إلى ليزا عن كثب ، كانت نحيلة سوداء البشرة ، تحمل على رأسها شعراً رجالياً قصيراً وخشناً ، بشفتين غليظتين وعينين غائرتين في محجريهما ، كانت أقبح مما يمكنه أن يتخيل . وكانت تحمل بيدها صندوق جيتار أسود. همس لنفسه : (كيف سيفعلونها معها .. اللعنة .. إنهم زبالة ) . كان وجهه يعبر عن دواخله المشمئزة بوضوح . وقد شعرت ليزا بذلك فطأطأت رأسها بخجل .
جلس أربعتهم فقال أبشيبة:
- حسنٌ ما هو الأمر العاجل يا بروفيسورات .
ضغط على كلمة (بروفيسورات) بأضراسه ليشعرهم بالخزي من مضاجعة امرأة قبيحة كليزا . أدخل الصادق يده داخل الكيس وأخرج زجاجات بيرة ، وقال :
- أنت لا تشرب صحيح رغم أنك لست متديناً . ومع ذلك فقد جئنا لنسري عنك بحسب اقتراح الحسيني.
قال بقلق:
- لماذا تسرون عنِّي؟
قال الصادق :
- أنا ابن خالتك يا رجل وقد علمت بأمر الطلاق . حسناً إذا كان وجود الخمر معنا يزعجك يمكنك أن تأتي معنا إلى منزلي . نحن نعلم بأنه سيسبب لك مسئولية جنائية إذا وجد بحيازتك .
أجابه:
- لا يزعجني .. ما يزعجني حقاً أن خبر الطلاق قد انتشر على هذا النحو . ثم أنني لست مستاءاً من الطلاق بل على العكس أنا مسرور جداً .
قال الحسيني :
- مسرور ؟
لم ينتظر الصادق إجابة أبشيبة على تعجب الحسيني بل قال:
- سنجد لك امرأة أخرى . صدقني .. هناك معيدة جديدة تم تعيينها وهي فتاة شابة ذكية ، كما أنها جميلة . ولكنها تجاوزت الخامسة والثلاثين واعتقد بأنها لن ترفض رجلاً مثلك ، هادئ الطباع ومحترم ومتعلم وله وظيفة محترمة .
ثم مدَّ بعلب البيرة إلى الحسيني ورفضت ليزا الشرب ، فقال الصادق بمرح:
- هيا يا رجل .. لا تكن صامتاً وبائساً هكذا .. هل تريد كأساً .
تلعثم أبشيبة وهزَّ رأسه ، فمدَّ له الصادق علبة ، ثم قال :
-نسيت أن أعرفك بليزا .. إنها أستاذة موسيقى بمدرسة خاصة.. و ستسافر بعد ساعات إلى روما للمشاركة في حفل موسيقيٍّ شبابي .. سنوصلها إلى المطار معنا.
قال الحسيني :
- لا أحب موسيقى الشباب .. أنا مدمن على موسيقى السبعينات والثمانينات .
قالت ليزا :
- وأنا كذلك أحب موسيقى السبعينات والثمانينات .
قال الصادق:
- حسناً في السبعينات والثمانينات كانوا يسمون موسيقى ذلك الوقت أيضاً بموسيقى الشباب .
قال الحسيني :
- ليس كذلك .. إن الثمانينات تحديداً شهدت قفزة إبداعية في الموسيقى .. الآن هناك تردي وانحطاط .. صخب وضجيج وإيقاعات مزعجة .
ثم التفت إلى أبشيبة قائلاً :
- ما رأيك ؟
هزَّ أبشيبة كتفيه وقال :
- لا أعرف .. أنا لست خبيراً في الموسيقى .
قال الحسيني باستخفاف :
- أنت لست خبيراً في أي شيء .
اكتفى أبشيبة بالصمت ، وقال الصادق :
- حسنٌ لا تقسو عليه أكثر من ذلك . إنه عبقري في علمه وهذا كافٍ تماماً . إنه الوحيد الذي نال جائزة دولية حتى الآن في جامعتنا المتهالكة هذه .
تجاهل الحسيني هذا المديح وقال لليزا :
- ألن تسمعينا شيئاً يا ليزا ؟
كانت ليزا تشعر بالخجل ، خاصة أن نظرات أبشيبة المشمئزة أشعرتها بالغربة عن هذه المجموعة . فقالت:
- الجيتار غير موزون .. أنا آسفة .
أدرك أبشيبة ذلك ، وقرر أنه إذ أخطأ حين إعتقد أنها عاهرة فعليه أن يكفر عن معاملته القاسية لها ، فقال:
- يمكنك أن توزنيه . هل هذا صعب ؟
هزت رأسها ببطء وقالت بصوت خفيض:
- لا ..
ثم أخرجت الجيتار من صندوقه الأسود . وأخذ الرجال يتجاذبون أطراف الحديث ، وهي منشغلة بوزن الجيتار ، في الواقع كانت قلقة أكثر من أي يوم مضى ، كانت تشعر بضعف شديد ، وأنها تصغر في نظر نفسها كل ثانية . ثم أنها قالت بتردد:
- لقد .. لقد انتهيت .
قال الصادق :
- مرحى .. هيا .. قبل أن تغادر طائرتك .
ضربت بأصباعها على الجيتار ، فأصدر تسلسلاً موسيقياً عميقاً ، ثم أخذت تصنع إيقاعاً منتظماً ، كان الكورد بطيئاً ، ثم أنها نظرت إلى الأرض ، ورأى أبشيبة قرطاً فضياً يتدلى من شحمتي أذنيها ، وهو الشيء الوحيد الذي يعطيها مظهر الأنثى ، ثم أنها أخذت تغمغم ، قبل أن تنفجر بصوت رخيم ، كان صوتها يجمع بين الصوت الرجولي والأنثوي في آن واحد ، وكانت طبقاته تعلوا وتنخفض بمرونة عالية ، وخلال ثوانٍ وجد أبشيبة نفسه محلقاً داخل نوتة موسيقية . كانت تغني بألم وبفرح بكلمات مليئة بالألغاز .. الوجع القلبي .. النوم .. السقوط .. الحلم .. لكن كل هذه الكلمات التي تبدو غير مترابطة ، تجمعت في عقل أبشيبة كصورة واحدة .. كان ينظر إلى ليزا بعينين متسعتين . وكانت كل دقة من دقات أصابعها على أوتار الجيتار تخترق عظامه بصدمة كهربية موجعة . ثم ارتج صوت ليزا والدموع تنهال من عينيها .. وازداد اتساع عينيه ، ورأى أن عاصفة تكتسح كل الصور ، كلبه الأليف المتخيل ، زهرة الأقحوان ، الثلوج ، الكهف ، كوثر ، والد كوثر ، الطبيبة النفسية ، السيبراليكس ، الجوائز التي نالها ، هو نفسه يتفتت ويتشظى إلى ذرات ، الماضي بأسره ، وجوده ، آلامه ، وأحلامه وطموحاته ، لقد اكتسحتها عاصفة صوت ليزا في دقائق معدودة .
وحين انتهت . وصفق الرجلان ، ظل أبشيبة متجمداً ، وهو يحملق في ليزا برعب . قال الصادق:
- أين أنت يا رجل ؟ ألا يمكنك حتى أن تجامل ليزا بكلمة .
إلا أنه ظل صامتاً ، وعيناه تتلاقيان بعيني ليزا ، ولوهلة شعرت ليزا بقلبها يخفق وهي تحدق في عيني أبشيبة ، كان شعوراً مفاجئاً وغير منتظر ، قال أبشيبة بصوت مختنق :
- هل .. هل أنتِ مضطرة للسفر الليلة ؟
قالت :
- نعم .
قال:
- هل .. هل يمكنني أن أسافر معك ؟
أومأت برأسها ببطء وملامح متجمدة ، فقال أبشيبة:
- سأعود بعد دقائق .
كان قلبه يخفق ، وهو يهبط إلى قبوه المتعفن ، حمل عصا وأخذ يحطم كل الأدوات وجثث الحيوانات . وبعد أن انتهى ، مسح فمه بكم قميصه ، وهو يلهث ، ثم خرج ووقف أمام الحديقة ، وحينما رأى ليزا تتقدم نحوه تذكر زهرة الأقحوان فمد يده إليها وأستقبل أصابعها الرقيقة بين أصابعه.
(تمت)
السبت 4 يناير 2014م
الجريف غرب