نــص مسرحي:
الكُــمامَـــــــة
ما يمكن قوله بعـيدا عن تصنيف الأحداث والشخصيات والإضاءة لأننا الآن في:
زمن انتشار شدة وباء كورونا ، والوقت مساء. الإضاءة تلائم المساء، وتعانق جنوح الليل، وتتفاعل مع الفيروس وشخصيات هذا العمل. شخصيات ( تلك) لا تخرج عن واقع الحدث الذي أصاب العالم برمته، ربما شخصية ما يحمله هذا النص، تكون ولقد كانت منوجدة في دولة (ما) أو إقليم ( ما ) أو مدينة (ما) أو في شارع ( ما) لكن حينما سندقق أمرها وخطابها، كلنا كنا في فلك سوريالي، نعانق السراب، ونعانق حماقة الفيروس ، ونعانق الخوف والموت ، لا أحد يفهم الآخر، حتى إن فهمه ، بالتأكيد لا يفهم ما يقع ، والذي فهم ما يقع، عمليا لا يعـرف ماذا يفعل ! لأن البشرية كانت في متاهة العَـبث، كانت في مواجهة كائنات غير مرئية، كانت أمام الحجر، أمام سلطة مرئية، وقرارات فوقية.
وتنصيصا على ذلك؛ فكل من سيتناول هذا العمل سواء قراءة استلذاذية أواستئناسية أو إخراجية، من حقه إضافة تجربته جوانية الشخصيات، وخلق اختلاط و تركيب فني، بمعنى شخصية ما تتحول لشخصية أخرى. لأن تلك الشخصيات ربما أحدها مات جراء الاختراق الكوفيدي لجسده، ولكن تبقى نماذج من وحي تعاقب الأحداث ، وتعاقب كوفيد للفضاءات، واختراق الحياة العامة والخاصة، اختراق لعين ساهم في قتل الآلاف من عباد الله ، شراسته ساهمت في تمديد أسابيع الحجز أوالحجر الصحي والعـزلة الذاتية في أغلب اللحظات، إنها إقامة جبرية لا اختيارية، فرضتها طبيعة الحدث الوبائي ! فتاهـت بوصلة الكائنات البشرية ، ولكن " الكمامة" كنص درامي بمثابة استرجاع لتلك البوصلة.... لنرى ما رأيناه من صور عبر شاشة القنوات. وما سمعناه من أخبار متناثرة ، كشظايا الفيروس المثير للجدل بين العلماء والفقهاء والمرتزقة، والمشعوذين والرعاع.
على الورق قبل الركح:
[ برهة تنطفي الأنوار، وتظهر على الشاشة( فيديو) تحركات وبهلوانية الفيروس( كوفيد19) كما صوره العلماء ، مرفوقة بصرخات وهرولة هنا وهناك، ثم تنطلق صفارة الإنذار، مع دوران إضاءة حمراء في القاعة كلها، تم نسمع صوتا قـويا وجهوريا...]
صوت ذكوري :( بعنف وخشونة):
هيا ادخلوا منازلكم ، حفاظا على سلامتكم وسلامة أبنائكم لا تخالفوا الأوامر الصحية، أتسمعون التزموا منازلكم... أتسعمون...اغلق نوافذ شقتك أيها المعتوه... ادخل لشقـتك أنت... هيا اسرع ...ممنوع الوقوف... أتسمعين ؟
تنزل يافطة من الفوق كتب عليها (.ممنوع الحفلات)... أوقفوا هاته السيارة ؟ يظهر على الشاشة شريط رجال أمن، بملامح وزي غير واضح . يقفون على المتاريس والحواجز، يراقبون أوراق السائقين... يظل الشريط مشتغلا ،رغم نزول يافطة ثانية من الفوق ( حذاري من الوباء) وثالثة ( ممنوع حركة المرور) ورابعة ( ممنوع التجمعات) وخامسة( عليكم بالحجر الصحي)
صوت نسوي: ( بين العنف والليونة) :
تفرقوا يا بني قــردون... اخفض صوت التلفاز يامن بالداخل...هيا ادخل لبيتك أنت
وإلا سأعتقلك ؟ أتسمعين يا امرأة أغلقي النوافذ... تعال أنت يا رجل... أين أنت
ذاهــب ؟ ألا تسمع ؟ ياله من أهبل...ألا تسمع أوامري...إيـــه...إيــه... ممنوع أن
تظهر في الشارع الآن... توقف يا رجل كفانا متاعبا
[يظهر رجل مسن فوق الركح، يتعكز على عصى مقبوضة باليد اليمنى ، و في يده اليسرى قفة ، مرتديا جلبابا خشنا...تظهر سيدة بلباس وطربوش عسكري، واضعة كمامة على وجهها وهي في حالة جـري ، متعقبة المسن، فتجره من جلبابه ـ ليسقط أرضا ]
المسن: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ..ما هـذا ؟
السيدة: ( تنحني نحوه) هل أنا شيطان ؟
المسن : ماذا فعلت لك، حتى تسقطينني أرضا... ألا تخجلين من نفسك ؟
السيدة: ( تنهضه من الأرض) ألا تعرف أن الخروج ممنوع في هذا الوقت ؟
المسن: ( يضع يده اليمنى على أذنه، محاولا السمع أحسن) ماذا ...خروف مذبوح...؟ هل أنا
خروف...احترمي نفسك، يا بنيتي .واحترمي هذا اللباس على الأقل.
( يمرر يده اليسرى برفق وهدوء، على اللباس العسكري)
السيدة: ( بانفعال حاد تزيل يده تم تصرخ ) ألا تسمع ...الخروج ممنوع ؟
المسن: أه ...خدوج ...اسم زوجتي رحمها الله، ماتت، وهي لازالت شابة...تركت لي ابنتين
جميلتين... لا يشبهونك أبدا..
السيدة: (في ضجر) أين هي الكمامة ؟
المسن: (ببلادة، وحركات عفوية) نعم ...نعم ...خدوج كانت حمامة، ونعم الحمائم ( يبتعد عن السيدة) تطير أينما طلبتها تطير... مطيعة ، خدومة ، كانت أكثر مني مروءة وطيبوبة .
السيدة: ( تقف في وجهه) سيطير عقلي معك... أيها الطيب.
المسن: ( يقترب جدا منها) لم أكن طبيبا بل ممرضا في الجندية...كم عالجت من مصابين
وجرحى... لو أحكي لك كيف كنا نعيش على خط نار الحُـروب...وكم كنا نحترم هاته
البذلة التي تتبخترين بها
السيدة: لا أتبختر يا شيخ ، بل أقوم بواجبي أمام هذا الوباء..
المسن: اسمك وفاء... مثل اسم ابنتي البكر... حفظها الله...هي الآن متزوجة من قنصل القناصل
السيدة: هل أنت أصمك ؟
المسن:( يجلس على مصطبة تشبه صخرة) أه يا ابنتي وفاء !...اسمي لحسين بن عبدالله بن
أحمد بن إدريس ولد ابن عيسى بطيط الواسطي ولد الوجطاطي من مركز بطيط قبيلة
الحنش ... إنها بلدة مباركة وسكانها لا يمرضون ولا يصابون إلا بالنعيم والعيش الكريم!؟
السيدة: ( تصفر بصفارة، يحضر عون سلطة، تضع يدها على كتفه) لقد أتعبني كثيرا هذا المسن
...خذه للحجز... لينظروا في أمره...
عون سلطة: ( مستعطفا) يا سيدتي ، إنه رجل مسن ولن يستطيع مقاومة الحجز.
السيدة: ( متوترة جدا، تفتح الراديو) ألا تسمع ؟ قلت لك ، خذه للحجز.. إلى الحجز ؟
المسن: الخبز، إنه معي( يفتح القفة) ابنتي الصغرى جزاها الله خيرا، أعطتني خبزا ولحما مشويا لعشائي
( يأخذه عون سلطة برأفة ، ويخرجان، ثم ينعكس على الشاشة ، شريط للاعتقالات
والمطاردة بين شباب والسلطة ، والسيدة ، تصبح جزء من الشريط، وهي تتكلم
في جهاز الراديو)
السيدة: ( تزيل الكمامة) مركز القيادة...هل تسمعـني،،،، لقد حجزت على خمسة أشخاص
مخالفين لتعليمات الحجر الصحي، شابين يتسكعان في الشارع العام بدون رخصة ،
وفتاة شابة ترتدي كمامة مزورة... نعم كمامة غير طبية . وامرأة في حالة سكر...وقبل
قليل أوقفت رجلا مسنا كذلك بدون كمامة، ويبدو أنه أصمك
( يتوقف الشريط، لنسمع صوت صفير إنذار من سيارة السلطة . يدخل رجل بلباس
مهني، قريب من الميكانيكا، يمر أمامها. وغير عابئ بها )
ميكانيكي: ( يقدم التحية) تحياتي أيتها القائدة:
السيدة: ( بضجر) قف مكانك أيها المتسكع.
ميكانيكي: هل معي تتكلمين ؟
السيدة: ( ضاحكة ثم متهكمة عليه) مع خيالك أيها المتشرد... قـف، واعتدل...هل لديك رخصة
مغادرة المنزل؟
ميكانيكي: ( بهدوء) :طلبتها منذ أسبوع، ولم أتوصل بها
السيدة: كيف ؟
ميكانيكي: أنتِ أدرى بهذا الأمر
( يتحرك بعيدا عنها، يظهر شخص يجري من اليمين إلى اليسار)
السيدة: أنتَ نكتة ظريفة جــدا !
ميكانيكي: وأنتِ أظـرف من النكتة.. جدا ، جـدا !
السيدة: ربما نسيت نفسك ؟ ومقامك ؟ ونسيت لماذا أنا هنا ؟
( تصفرعـدة مرات بصفارة، وترتبك، يظهر شخص يجري من اليسار إلى اليمين)
ميكانيكي: ( يقترب منها) يبدو أنك خائفة... يـا خوخة .
السيدة: لست خائفة، منك ومن غيرك ....
ميكانيكي: ( مبتسما) والله...يـا خوخة !
السيدة: ( تبتعد قليلا عنه) أنا السلطة !
ميكانيكي: ( يبتعد عنها) والسلطة أنتِ... لقد حفظنا لازمتك يا مولاتي خوخــة .
السيدة: تتهكم علي أيها الوقح... ستعْـرفُ مصيرك معي ...
( تصفر مرتين بصفارة، فيدخل عون سلطة مهرولا)
ميكانيكي: ألا ترين جيدا حالتي( يحرك بذلته المهنية) ألم تفكري أين كنت ومن أين أتيت؟ :
السيدة:( تدفعه بشدة) أين كنت أيها التعـس ؟
عون سلطة : كنت أراقب سيارة الحجز...لقد تعطلت...فلولا هذا الشهم الذي أصلح العَـطـب،
لهرب منها المحتجزون ...ولبقي معالي الباشا ضائعا في منتصف الليل.
السيدة: كيف سيضيع وهو الباشــا؟
عون سلطة :( بحماسة) لقد تعطلت سيارته في النفق المؤدي لخارج المدينة ، فلولا هذا
الميكانيكي الشهم، الذي أصلح عطب سيارة الباشا، وأخرجها ، لأختنق خوفا من ظلام النفق.
السيدة: ( متهكمة) عمل جليل أيها الميكانيكي... وربما ستأخذ أجرا عليه...ولكن لا تتوفر على
رخصة الخروج ؟
عون سلطة : ما تقولين يا قائد ؟
السيدة: أقول ما يقوله قانون من يخترق الحجز الصحي....
عون سلطة: ( يقاطعها) ولكن يا سيدتي ... اتركيه يذهب نحو أبنائه...
ميكانيكي: ( يبعده من وجهها) اتركها تكمل ...إنها السلطة !
عون سلطة :( معترضا ومتوترا) لن أتركها ، تكمل .. فالسيد الباشا أوصاني ألا يقترب منك أحَـد
السيدة: (متوترة، وماسكة بلباسه) تتحاداني وتعارضني أيها الأجرب... سأوقفك عن
العمل...وستتشرد مثل هذا المتشرد
عون سلطة : (يتحرك بهستيريا) سيدتي... إذا سمحت ...كوني متعـقلة.
السيدة:( تصفعه بقوة) هل أنا مجنونة في نظرك ؟
عون سلطة : ( بين التوتر والخوف) إنه ميكانيكي ، ومن ساكنة هذا الحي...
السيدة: ( تقاطعه بإغلاق فمه ، ثم تمسكه من قفاه) ولقد أصلح عطب سيارة الباشا، وسيارة
الحجز... حتى لا يهرب المحتجزون...كل هذا لا يهمني...ما يهمني أنه لا يتوفر على
رخصة الخروج من بيته...وثانيا (متهكمة على الميكانيكي، وتزيل الكمامة من وجهه)
يضع كمامة مزورة، أليس كذلك ؟
ميكانيكي: ( متهكما) هل هناك فـرق بين كمامة مزورة، وأخرى غير مزورة ؟
السيدة: نعم...فكمامتك مزورة، لأنها ليست طبية ،
ميكانيكي: ( ساخرا) هو كذلك يا جناب القائد المحترمـة.
عون سلطة: ( منفعلا) كل هذا سيصل لسيد الباشا غدا( يبتعد عنها، ليجلس على المصطبة)
السيدة: (تلعب بالكمامة ، وتلمسها بعنف) هذه ليست كمامة طبية، فمن أين اشتريتها ؟
ميكانيكي: ( بهدوء تام) لم أشتريها، يا خوخة... !
السيدة:( تقاطعه بعنف وتنهره) تكلم بأدب واحترام.
ميكانيكي: لقد صنعتها لي زوجتي، من أحد الٌأقمصة البالية؟
السيدة: ( تضحك) أه؛ تستعمل البقايا... إنك وزوجك تساعدان العدو على البقاء ؟
ميكانيكي: ( حائرا، ومنفعلا) أي عـدو؟ وأي بقاء ؟( يصرخ)
السيدة: ( تدفعه) كوفيد اللعين... أسمعت ! لماذا لم تضع الكمامة الطبية التي تباع في الصيدليات.
ميكانيكي: ( يتهكم ) لا أملك نقودا، لكي أشتريها
السيدة: ولكن الكمامات توزع بالمجال ؟
ميكانيكي: ( متبخترا، ويرقص على ألفاظه) بل تباع في الصيدليات أيتها السلطة أنتِ !
السيدة: ( بحدة متناهية) تتهكم علي ، سأعتقلك الآن. (تمسك به ، و تخاطب عون السلطة) ضع
الكمامة على وجهك، واعتقله معي .
عون سلطة:( ينهض متوترا، ينزع الكمامة ويضرب بها على الأرض)....كفى!.....كفى! نريد
حلا... يا قائد.....نريد حلا .... يا سيدتي... ستجني علي وعليك . ( ظلام)
[ تنطفي الأنوار، لتنطلق صفارة الإنذار، مع دوران إضاءة حمراء في القاعة كلها، وبعدها يتم تشغيل( فيديو) يعكس على الشاشة حركات سيارات الإسعاف، وجري العباد قرب المستشفيات... ولحظة تنعكس إضاءة صفراء شاملة على الزنزانة - تضم المسن وعون سلطة والرجل- كل واحد في زاوية معينة، وبالإمكان إضافة أقنعة خلفية، بمثابة محتجزين. يسمع نباح كلاب وعواء الذئاب من بعيد]
ميكانيكي: ( جالسا على درج موضوع وسط الركح، بمثابة باب الزنزانة) أسمع نباحا وعواء ذئاب
...أين نـحن الآن يا عون السلطة ؟
المسن ( ينهض فرحا من المصطبة المركونة عن يسار الزنزانة) السَـلـَطة...أين هي...؟( بلهفة)
لقد طلبت ابنتي الصغرى أن تهيئها لي، فلم تجد ما يكفي من خضر لإنجازها.
عون سلطة : ( متدمرا) يا عمي... كفاك اشتهاء في هذا الليل البهيم... .فالجوع سيتضاعف بهذا
الاشتهاء...
ميكانيكي: ( جالسا) قلت لك ..أين نـحن الآن ؟
عون سلطة : ( يلعب بالكمامة) نحن في ضيعة خارج المدينة... إنها إقامة إجبارية لا اختيارية،
فرضتها عليك السيارة الملعونة
ميكانيكي: (ينهض، قلقا) فرضتها إنسانيتي وطيبوبتي... يالها من إقامة إجبارية ، من نوع جديد
هذه الليلة...
المسن:(ينهض من المصطبة، متجها نحو الرجل) اسمها وفاء وليست ليلى يا بني !
عون سلطة: ( متدمرا) اسكت ياعمي...كفانا بهدلة... وفاء ، طامو، جليلة ، وهيبة، مونية،
فطومة... هي أسماء لا تساوي شيئا أمام الجوع...الجوع أنهكني ياعَـم....لقد
أنهكني...( يقبض في أمعائه ويتدور بعنف)
المسن:( يفتش على القفة الموضوعة بجانب مصطبة ( درج) يشكل مدخلا لزنزانة الحجز) تعالى
يا بني .خذ نصيبك ( يبدأ بالأكل، والميكانيكي: يأخذ قنينة ماء ليشرب)
صوت1:( جهوري وخشن ، يسمع من الجهة اليسرى) التباعد واجب ...ابتعدوا... ضع الكمامة
أنت يا أيهـا المارق.. وأنت ارتدي الكمامة... يا خنزير البراري ( يضحك)
صوت 2: ( يصرخ) لقد تبللت بكثرة البخار
صوت1: لا تتنفس كثيرا... ستفقد حاسة الشم...
صوت 2:( يضحك) لقد فقدتها وفقدت حاسة الذوق .
صوت1:( يسمع وسطا ) التباعد واجب ...ابتعدوا... اترك مسافة مترين بينك وبينه يا خنزير...
صوت 2: يا خنزير البراري( يضحك)
صوت1: تسخر مني يا ذاك الحلوف... غدا سترى عاقبتك ...وأنت ... أنت يا عـون سلطة ....
ضع كمامتك ، وكفاك أكلا...
عون سلطة :( يأكل ويصرخ) لم أعد كذلك، لقد أصبحت محتجزا ، بفضل السيدة القائد...هذا جزاء
واجبنا وتضحياتنا
صوت 1: ( ساخرا منه) ومن أجبرك على التضحية ؟
عون سلطة : ( يأكل) كم لذيذ هذا الشواء...يا عمي ؟
صوت 1: تأكل... ألم تفقد شهية الأكل ؟
عون سلطة : ( ينهض) لقد فقدت شهية النـوم .
ميكانيكي: (يقترب منه) هيا نـم... فمن منعَـك؟
عون سلطة : الواجب، للقضاء على العدو
المسن:( يتحرك ويلوح بعصاه في الهواء) اسألني أنا عن العَـدو... كلما حاول الدخول ، إلا
وجنودنا يترصدون لهم... بالنار والرصاص
ميكانيكي: ( مضجرا، وبدأ يبحث عن سيجارة من جيبه) لقد شبعنا من قصص حروبكم .
المسن: قصصنا هي الأمل في وجودكم الآن...فلو تعلم كم عالجت من مصابين، لتعجبت
ميكانيكي: أتعجب من وجودي هنا الآن.... لا طبول تقرع هاهنا... ولا صوت محركات
سيارة...فقط أصوات غريبة ونباح كلاب
(صوت نباح الكلاب، يتوقف ليسمع نقيق الغربان)
اسمعوا ...يالها من أصوات مخيفة ، في هذا الليل ...ليل يسدل همومه وأحزانه....
والعدو يتحرك كالتائه بين المدن والمداشر كالماء في مجراه النتن.
المسن: سنخرج غدا من هذه الزنزانة...
عون سلطة : ( يصرخ) اطلب لي سيد الباشا حالا ( المسن والرجل يضحكان) لماذا تضحكان ؟
صوت1: احفظ صوتك، وضع الكمامة، الباشا في داره نائم
ميكانيكي: ( يدخن) كمامته ليست طبية ، أيها المراقب.
صوت1: لا يهمني، قريبا سأفقد أعصابي...معكم ومع ذاك العـدو الكوني القاتل .
المسن: آه ...القنابل... إنها بداية الحرب، سأكون مستعدا بعد خروجي من هنا
عون سلطة: ( يقترب من أذنه اليمنى) القاتل وليس القنابل...
المسن: (في هدوء تام) هل قتلته ؟
ميكانيكي: ( يضحك، ويقترب من أذنه اليسرى) اطمئن...سيقتله قريبا.
المسن:( يجلس على المصطبة، ويضرب الأرض بعصاه) مـن ياولدي؟
ميكانيكي: ( يجلس قربه) العـدو يا عمَّــاه !
المسن: ( يشخص بعصاه ) لقد قتلناه منذ زمان..
ميكانيكي: (يخرج سيجارة من جيبه) عدنا لقصص حروب الفيتنام والجابون والهندوراس والهند
... العـدو ياعمّي في أيامنا هذه ...هـو الوباء ؟!...إنها "كورونا" اللعينة ....
عون سلطة : ( يلعـب بقبعـته) أعتقد أن التلقيح ، سيبعد عنك العـدو...وسيزيد من فرصة عدم
إصابتك بالمرض...
المسن: ( يضرب بعصاه الأرض؛ ويخرج من القفة قنينة حليب) هل أنت معقم أم ملقح يا بني؟
عون سلطة: ( يضحك ، ويتهكم)... التعقيم... التلقيح... وهل أنا فاكهة حتى أتلقح... أو حليب
حتى أعقم ؟
المسن: ( ينهض بصعوبة) أنت فكاهة ياعَـون...
عون سلطة: ( يقف مسرعا، فوق المصطبة) سلطة... قلت لكم ...سلطة
صوت 1: ( بهدوء) ابتعدوا يرحمكم الله... هيا خذوا الكمامات، ووزعوها بينكم..
[ تنزل بعض الكمامات من الفوق ، يقف أمامها المسن]
المسن: كنا نعرف أن اللصوص، هم من يضعون الكمامة على وجوههم حتى لا يتعرف الناس
عليهم...في حروبنا ( يتحرك كأنه يسبح في مسبح) والله أشهد على ذلك... كانت روائح
البارود والرصاص والقنابل تنتشر يمينا وشمالا، ولا أحد من جنودنا وضع الكمامة
...ياإلاهي...في هذه الكمامة سـر من الأسرار...سنعرفها فيما بعْـد...
ميكانيكي: ( يقترب من الكمامات، ويحركها بيديه) لن تعْـرف أي شيء... فهل نعْـرف لماذا عون
السلطة محجوز هنا؟
عون سلطة: وهل تعـرف أنت لماذا أنت هنا ؟
ميكانيكي: ( يحرك الكمامات بقوة) نعــم ، أعلم جيدا، عكسك أنت ..إنها تصفية حسابات....
صوت السيدة: ...إنه خالف التعليمات .
عون سلطة: ( يصرخ ، ويدور كالأحمق) أي تعليمات يا سيدتي ؟
صوت السيدة: وحاول أن يتحدى رؤساؤه...
عون سلطة: ( يقفز من المصطبة بجنون)... أريد السيد الباشا حالا....
صوت السيدة: ولم يضع الكمامة في الوقت المناسب
عون سلطة: ( يخرج كمامتين من جيبه، ويركع وسط الزنزانة ) ماذا سنسمي هذه ؟ بطانية
صوت السيدة: . وووو.. وملفك ثقيل للغاية . إن أمرك لقريب نظيره...
عون سلطة: ( يدور في مكانه) لقد أصبح صوتك نشازا... تبحثين عن ضياعي ... لقد شعَـرت بك
منذ شهور ...أنك تخططين لشيء ما في حقي...ولم أكن أتوقع أن أسجن ..وسأصبح
عاطلا... أنتِ المسؤولة عن مصيري... شكوت إليك يا بديع السموات. وإليك مصيري
يا ربنا...
ميكانيكي: ( يطبطب على كتفيه) هي حقودة منذ طفولتها...لا تخف، ستعود لعملك
المسن: هل تعْـرفها ياولدي؟
ميكانيكي: قريبة مدشرنا...وكانت ستكون زوجتي، لكن والدها قتل والدي
عون سلطة: ( مندهشا ) مـاذا ؟ وما السبب ؟
ميكانيكي:( يجلس على المصطبة)على دجاج دخل حدود أرضه، فظل يأكل من حباته.
فخرج من خيمته ببندقية...
المسن: ( يقاطعه بواسطة كزه بالعصا) هل كان جنديا مثلي ؟
ميكانيكي: ( يبعد العصا عنه) هل أنت جندي أم ممرض ؟
المسن: ( يكزه بالعصا) جندي ممرض... ممرض جندي...
عون سلطة:( يجلس على المصطبة) وأنا كنت عَـون سلطة... وسأصبح سلطة عون ...وعاطل
عن العمل....
المسن:( يحرك الرجل بعصاه) كيف قتل والدك ؟
عون سلطة: عجبا لك، يا عـم ...تحب سوى القتل والدم والسفك والحروب...
ميكانيكي: ( يقف أمام الكمامات) أطلق النار على دجاجنا، ببرودة دم ! لقد قتل ثلاثة...بطلقة
واحدة. فسمع أبي طلقة رصاص، لأننا كنا جيران. اتجه إليه... ينهاه... وبدون تفكير
(يشخص الحدث) ... أطلق رصاصة أسقطت والدي صريعا... رصاصة واحدة تركته
يسبح في دمائه...
عون سلطة: الرحمة الربانية على روح والدك...( يقف مستقيما ، ويقرأ الفاتحة) آه: تذكرت الآن،
كانت تنظر إليك بحقد وشراسة...ولكن سمعتك تقول لها يا خوخة ؟
ميكانيكي: ( متألما) أجـل قلتٌ: خوخة ...! ...يا خوخة ! ( يهيم)تحت شجر الخوخ كنا نلتقي،
نتبادل الأحاديث، نتغامز ونتلامز...و نتبادل دروسنا... وهكذا .... لكن( متوترا) بسبب
القتل ...بقتل والدي هاجرت المدرسة التي كانت تجمعني بها...وهاجرنا المدشر
والمداشر أجمعها... والناس وخيامهم...
(صوت العربان والكلاب بشكل مختلط)
عون سلطة: آه يا زمان...تدور الأيام، وتدور... لتلتقيان... لكي تنتقم مِـنكَ... بدل أن تنتقم أنت
منها...
( يضحك بشدة)
المسن: ( يلكزه بالعصا) ضع كمامتك يا ولدي... فبزاقك يصل إلي...ابتعد قليلا.
عون سلطة: ( يضحك) هل أنت خائف من العدوى ؟
المسن:( يسترخي على المصطبة الوسطية) لم أخف من العـدو...فبالأحرى العدوى...طز في
أيامك ، وزمانــك...
عون سلطة: ( يلعب بالكمامة) سمعت والله أعلم . أن من كان في منام الله مرتديا كمامة...
المسن: سبحان الله...كمامة في المنام..
ميكانيكي: ( ساخرا) اتركه يشرح لنا المنام..
عون سلطة: فهو شخص مخادع ومنافق ، وعلينا أن نتجنبه حتى في التعامل .لأنه يحاول إخفاء
مشاعره الحقيقية تجاه الآخرين..
رجل: ( يصفق) تفسير جميل..؟ هل أنت ذلك الرجل ؟
عون سلطة( مندهشا) أي رجل تقصد ؟
ميكانيكي: الذي كان في المنام .
عون سلطة : سمعت والله أعلم .
ميكانيكي: إذن كلنا مخادعون...منافقون.. ما دمنا نرتدي الكمامة.
عون سلطة :( مستلق على الأرض) كن صاحيا... هل أنت بليد ؟ قلت في الحلم فقط ، فالمنام
يختلف عن الواقع...
ميكانيكي: (يقترب منه) واقعنا هو الحلم...والحلم هو واقعنا حقيقة... ( يبتعد عنه) ألسنا جميعا
في حلم مفـزع ؟...ألسنا في واقع مريع ؟ بالله عليك ، أليس الفقر مزعجا ؟...أليس
الجوع مخيفا ؟... أليس الوباء عـدوا ؟ أليس الظلم مدمرا ؟ أليس الفيروس مروعا ؟...
أليست الكمامة فظيعة وبشعة... ألا تخنق الكمامة الأنفاس ، وتغير ملامح الإنسان ؟
أليست صكا سخيفا ؟.... مأساتنا أننا نعيش يوميا رعْـبا في رعْـب في اليقظة والحلم .
خوفا في خـوف في الحلم واليقظة ....يا لقذارة وجودنا...
عون سلطة : ( يتجه نحوه المسن) صفق ...صفق على المفوه زمانه( يتجه نحو الميكانيكي
ويضع يديه على كتفيه) لقد أصبحت شاعـر أيامك... وخطيب زنزانتك... هاهي
فوائد الحجر الصحي عادت عليك بالنفع .... لا تنزعج... ستذوب هذه
القتامة...ستبتعد عنا سحابة الوباء... وسنعود لحياة بدون رعب (في هدوء تام )
ميكانيكي: تحلم ستزول القتامة في يوم القيامة .
المسن: ( يلعب بعصاه) لاتكن متشائما....
عون سلطة: أه ... ماذا وقع لأنفي...؟( يشخص عملية الشم في ملابسه وملابس الميكانيك) لم
أعُـد أشم رائحتك...( يتحرك كأن بردا قارسا أصابه، ويجس لا إراديا جبينه ووجه
وجسمه) يال ها من برودة شديدة في جسمي... ربما أصبت بالعدوى... ممكن...
جسمي يتصبب عرقـا.... اللعنة على من وضعني هاهنا...سأموت أيها
المراقب...سأموت هنا...
المسن:( ينهض، ويأخذ كمامة من الجهة المعلقة) ضع الكمامة على وجهك.
عون سلطة : هل الكمامة هي الدواء...لماذا لم تضعها أنت ( يرميها)... أشعُـر باختناق ...أعطيني
جرعة ماء ...(يتحرك المسن على ركبتيه ، ليبحث عن القفة)... أسرع ناولني شربة
ماء ..
(يأخذ القارورة بنهم يشرب منها ، ثم يسقط أرضا ، ليبدأ بحركات راقصة كأن
صعْـقة كهربائية أصابته)
ميكانيكي: ( يبتعد، ويقف على المصطبة الجانبية) فعلا لقد أصيب بالوباء... إنها العلامة ..كيف
أصبت وأنت كنت الآن في صحة جيدة
المسن( يقترب من عون السلطة) الفيروس الخبيث... لا يعلم متى سيزورك...كالحرب لا تعلم متى
تشتعل ؟... وأين ستشتعل ؟...ومتى تهدأ ؟
ميكانيكي: ابتعد عنه يا شيخ، الحروب انتهت بشيخوختك... إنه يحتضر...يحتضـر يا صوات
النشاز ...ضحية أخرى ستسقط الآن...ابتعد عنه ياعَـمي..
المسن: ( بحنان متزايد يحتضنه) لن أتركه يموت... ستخرج من هنا غدا...زوج ابنتي قنصل
القناصل، سيحضر لإخراجي من هنا...وسأخرجك معي...إهـدأ ...ستخرج من هنا غــدا
...أعدك .. وعـد أب لابنه...تشجع ..قاوم برودتك ... ستعود لعملك ...أعدك يا بني... أعـدك ، سحابة وستنقشع الشمس. لو أحكي لك كم من جندي عاش، بعد موت حقيقي. موت رأيته أمامي يتحرك...يخترق الأجساد... تشجع . كن جنديا في ساحة الحـرب. هيا
أنا بجانبك ...قاوم... ما اسمك ...قاوم ....
ميكانيكي: ( فوق المصطبة مندهشا) مادخلك الآن في اسمه... ؟
عون سلطة : ( بصعوبة) اسمي اليزيد بن ادريس ولد مليكة
( يحتضنه بقوة بين يديه، يتوقف عون سلطة عن الحركة، يرتخي جسده.. لتنعكس عليه من الأعلى إضاءة حمراء وفي والوسط بنفسجية. والمسن يتألم بحرارة و الميكانيكي فوق المصطبة يقبض في رأسه، مشدوها للمشهد)
بتاريخ/ 16/03/2021
الكُــمامَـــــــة
ما يمكن قوله بعـيدا عن تصنيف الأحداث والشخصيات والإضاءة لأننا الآن في:
زمن انتشار شدة وباء كورونا ، والوقت مساء. الإضاءة تلائم المساء، وتعانق جنوح الليل، وتتفاعل مع الفيروس وشخصيات هذا العمل. شخصيات ( تلك) لا تخرج عن واقع الحدث الذي أصاب العالم برمته، ربما شخصية ما يحمله هذا النص، تكون ولقد كانت منوجدة في دولة (ما) أو إقليم ( ما ) أو مدينة (ما) أو في شارع ( ما) لكن حينما سندقق أمرها وخطابها، كلنا كنا في فلك سوريالي، نعانق السراب، ونعانق حماقة الفيروس ، ونعانق الخوف والموت ، لا أحد يفهم الآخر، حتى إن فهمه ، بالتأكيد لا يفهم ما يقع ، والذي فهم ما يقع، عمليا لا يعـرف ماذا يفعل ! لأن البشرية كانت في متاهة العَـبث، كانت في مواجهة كائنات غير مرئية، كانت أمام الحجر، أمام سلطة مرئية، وقرارات فوقية.
وتنصيصا على ذلك؛ فكل من سيتناول هذا العمل سواء قراءة استلذاذية أواستئناسية أو إخراجية، من حقه إضافة تجربته جوانية الشخصيات، وخلق اختلاط و تركيب فني، بمعنى شخصية ما تتحول لشخصية أخرى. لأن تلك الشخصيات ربما أحدها مات جراء الاختراق الكوفيدي لجسده، ولكن تبقى نماذج من وحي تعاقب الأحداث ، وتعاقب كوفيد للفضاءات، واختراق الحياة العامة والخاصة، اختراق لعين ساهم في قتل الآلاف من عباد الله ، شراسته ساهمت في تمديد أسابيع الحجز أوالحجر الصحي والعـزلة الذاتية في أغلب اللحظات، إنها إقامة جبرية لا اختيارية، فرضتها طبيعة الحدث الوبائي ! فتاهـت بوصلة الكائنات البشرية ، ولكن " الكمامة" كنص درامي بمثابة استرجاع لتلك البوصلة.... لنرى ما رأيناه من صور عبر شاشة القنوات. وما سمعناه من أخبار متناثرة ، كشظايا الفيروس المثير للجدل بين العلماء والفقهاء والمرتزقة، والمشعوذين والرعاع.
على الورق قبل الركح:
[ برهة تنطفي الأنوار، وتظهر على الشاشة( فيديو) تحركات وبهلوانية الفيروس( كوفيد19) كما صوره العلماء ، مرفوقة بصرخات وهرولة هنا وهناك، ثم تنطلق صفارة الإنذار، مع دوران إضاءة حمراء في القاعة كلها، تم نسمع صوتا قـويا وجهوريا...]
صوت ذكوري :( بعنف وخشونة):
هيا ادخلوا منازلكم ، حفاظا على سلامتكم وسلامة أبنائكم لا تخالفوا الأوامر الصحية، أتسمعون التزموا منازلكم... أتسعمون...اغلق نوافذ شقتك أيها المعتوه... ادخل لشقـتك أنت... هيا اسرع ...ممنوع الوقوف... أتسمعين ؟
تنزل يافطة من الفوق كتب عليها (.ممنوع الحفلات)... أوقفوا هاته السيارة ؟ يظهر على الشاشة شريط رجال أمن، بملامح وزي غير واضح . يقفون على المتاريس والحواجز، يراقبون أوراق السائقين... يظل الشريط مشتغلا ،رغم نزول يافطة ثانية من الفوق ( حذاري من الوباء) وثالثة ( ممنوع حركة المرور) ورابعة ( ممنوع التجمعات) وخامسة( عليكم بالحجر الصحي)
صوت نسوي: ( بين العنف والليونة) :
تفرقوا يا بني قــردون... اخفض صوت التلفاز يامن بالداخل...هيا ادخل لبيتك أنت
وإلا سأعتقلك ؟ أتسمعين يا امرأة أغلقي النوافذ... تعال أنت يا رجل... أين أنت
ذاهــب ؟ ألا تسمع ؟ ياله من أهبل...ألا تسمع أوامري...إيـــه...إيــه... ممنوع أن
تظهر في الشارع الآن... توقف يا رجل كفانا متاعبا
[يظهر رجل مسن فوق الركح، يتعكز على عصى مقبوضة باليد اليمنى ، و في يده اليسرى قفة ، مرتديا جلبابا خشنا...تظهر سيدة بلباس وطربوش عسكري، واضعة كمامة على وجهها وهي في حالة جـري ، متعقبة المسن، فتجره من جلبابه ـ ليسقط أرضا ]
المسن: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ..ما هـذا ؟
السيدة: ( تنحني نحوه) هل أنا شيطان ؟
المسن : ماذا فعلت لك، حتى تسقطينني أرضا... ألا تخجلين من نفسك ؟
السيدة: ( تنهضه من الأرض) ألا تعرف أن الخروج ممنوع في هذا الوقت ؟
المسن: ( يضع يده اليمنى على أذنه، محاولا السمع أحسن) ماذا ...خروف مذبوح...؟ هل أنا
خروف...احترمي نفسك، يا بنيتي .واحترمي هذا اللباس على الأقل.
( يمرر يده اليسرى برفق وهدوء، على اللباس العسكري)
السيدة: ( بانفعال حاد تزيل يده تم تصرخ ) ألا تسمع ...الخروج ممنوع ؟
المسن: أه ...خدوج ...اسم زوجتي رحمها الله، ماتت، وهي لازالت شابة...تركت لي ابنتين
جميلتين... لا يشبهونك أبدا..
السيدة: (في ضجر) أين هي الكمامة ؟
المسن: (ببلادة، وحركات عفوية) نعم ...نعم ...خدوج كانت حمامة، ونعم الحمائم ( يبتعد عن السيدة) تطير أينما طلبتها تطير... مطيعة ، خدومة ، كانت أكثر مني مروءة وطيبوبة .
السيدة: ( تقف في وجهه) سيطير عقلي معك... أيها الطيب.
المسن: ( يقترب جدا منها) لم أكن طبيبا بل ممرضا في الجندية...كم عالجت من مصابين
وجرحى... لو أحكي لك كيف كنا نعيش على خط نار الحُـروب...وكم كنا نحترم هاته
البذلة التي تتبخترين بها
السيدة: لا أتبختر يا شيخ ، بل أقوم بواجبي أمام هذا الوباء..
المسن: اسمك وفاء... مثل اسم ابنتي البكر... حفظها الله...هي الآن متزوجة من قنصل القناصل
السيدة: هل أنت أصمك ؟
المسن:( يجلس على مصطبة تشبه صخرة) أه يا ابنتي وفاء !...اسمي لحسين بن عبدالله بن
أحمد بن إدريس ولد ابن عيسى بطيط الواسطي ولد الوجطاطي من مركز بطيط قبيلة
الحنش ... إنها بلدة مباركة وسكانها لا يمرضون ولا يصابون إلا بالنعيم والعيش الكريم!؟
السيدة: ( تصفر بصفارة، يحضر عون سلطة، تضع يدها على كتفه) لقد أتعبني كثيرا هذا المسن
...خذه للحجز... لينظروا في أمره...
عون سلطة: ( مستعطفا) يا سيدتي ، إنه رجل مسن ولن يستطيع مقاومة الحجز.
السيدة: ( متوترة جدا، تفتح الراديو) ألا تسمع ؟ قلت لك ، خذه للحجز.. إلى الحجز ؟
المسن: الخبز، إنه معي( يفتح القفة) ابنتي الصغرى جزاها الله خيرا، أعطتني خبزا ولحما مشويا لعشائي
( يأخذه عون سلطة برأفة ، ويخرجان، ثم ينعكس على الشاشة ، شريط للاعتقالات
والمطاردة بين شباب والسلطة ، والسيدة ، تصبح جزء من الشريط، وهي تتكلم
في جهاز الراديو)
السيدة: ( تزيل الكمامة) مركز القيادة...هل تسمعـني،،،، لقد حجزت على خمسة أشخاص
مخالفين لتعليمات الحجر الصحي، شابين يتسكعان في الشارع العام بدون رخصة ،
وفتاة شابة ترتدي كمامة مزورة... نعم كمامة غير طبية . وامرأة في حالة سكر...وقبل
قليل أوقفت رجلا مسنا كذلك بدون كمامة، ويبدو أنه أصمك
( يتوقف الشريط، لنسمع صوت صفير إنذار من سيارة السلطة . يدخل رجل بلباس
مهني، قريب من الميكانيكا، يمر أمامها. وغير عابئ بها )
ميكانيكي: ( يقدم التحية) تحياتي أيتها القائدة:
السيدة: ( بضجر) قف مكانك أيها المتسكع.
ميكانيكي: هل معي تتكلمين ؟
السيدة: ( ضاحكة ثم متهكمة عليه) مع خيالك أيها المتشرد... قـف، واعتدل...هل لديك رخصة
مغادرة المنزل؟
ميكانيكي: ( بهدوء) :طلبتها منذ أسبوع، ولم أتوصل بها
السيدة: كيف ؟
ميكانيكي: أنتِ أدرى بهذا الأمر
( يتحرك بعيدا عنها، يظهر شخص يجري من اليمين إلى اليسار)
السيدة: أنتَ نكتة ظريفة جــدا !
ميكانيكي: وأنتِ أظـرف من النكتة.. جدا ، جـدا !
السيدة: ربما نسيت نفسك ؟ ومقامك ؟ ونسيت لماذا أنا هنا ؟
( تصفرعـدة مرات بصفارة، وترتبك، يظهر شخص يجري من اليسار إلى اليمين)
ميكانيكي: ( يقترب منها) يبدو أنك خائفة... يـا خوخة .
السيدة: لست خائفة، منك ومن غيرك ....
ميكانيكي: ( مبتسما) والله...يـا خوخة !
السيدة: ( تبتعد قليلا عنه) أنا السلطة !
ميكانيكي: ( يبتعد عنها) والسلطة أنتِ... لقد حفظنا لازمتك يا مولاتي خوخــة .
السيدة: تتهكم علي أيها الوقح... ستعْـرفُ مصيرك معي ...
( تصفر مرتين بصفارة، فيدخل عون سلطة مهرولا)
ميكانيكي: ألا ترين جيدا حالتي( يحرك بذلته المهنية) ألم تفكري أين كنت ومن أين أتيت؟ :
السيدة:( تدفعه بشدة) أين كنت أيها التعـس ؟
عون سلطة : كنت أراقب سيارة الحجز...لقد تعطلت...فلولا هذا الشهم الذي أصلح العَـطـب،
لهرب منها المحتجزون ...ولبقي معالي الباشا ضائعا في منتصف الليل.
السيدة: كيف سيضيع وهو الباشــا؟
عون سلطة :( بحماسة) لقد تعطلت سيارته في النفق المؤدي لخارج المدينة ، فلولا هذا
الميكانيكي الشهم، الذي أصلح عطب سيارة الباشا، وأخرجها ، لأختنق خوفا من ظلام النفق.
السيدة: ( متهكمة) عمل جليل أيها الميكانيكي... وربما ستأخذ أجرا عليه...ولكن لا تتوفر على
رخصة الخروج ؟
عون سلطة : ما تقولين يا قائد ؟
السيدة: أقول ما يقوله قانون من يخترق الحجز الصحي....
عون سلطة: ( يقاطعها) ولكن يا سيدتي ... اتركيه يذهب نحو أبنائه...
ميكانيكي: ( يبعده من وجهها) اتركها تكمل ...إنها السلطة !
عون سلطة :( معترضا ومتوترا) لن أتركها ، تكمل .. فالسيد الباشا أوصاني ألا يقترب منك أحَـد
السيدة: (متوترة، وماسكة بلباسه) تتحاداني وتعارضني أيها الأجرب... سأوقفك عن
العمل...وستتشرد مثل هذا المتشرد
عون سلطة : (يتحرك بهستيريا) سيدتي... إذا سمحت ...كوني متعـقلة.
السيدة:( تصفعه بقوة) هل أنا مجنونة في نظرك ؟
عون سلطة : ( بين التوتر والخوف) إنه ميكانيكي ، ومن ساكنة هذا الحي...
السيدة: ( تقاطعه بإغلاق فمه ، ثم تمسكه من قفاه) ولقد أصلح عطب سيارة الباشا، وسيارة
الحجز... حتى لا يهرب المحتجزون...كل هذا لا يهمني...ما يهمني أنه لا يتوفر على
رخصة الخروج من بيته...وثانيا (متهكمة على الميكانيكي، وتزيل الكمامة من وجهه)
يضع كمامة مزورة، أليس كذلك ؟
ميكانيكي: ( متهكما) هل هناك فـرق بين كمامة مزورة، وأخرى غير مزورة ؟
السيدة: نعم...فكمامتك مزورة، لأنها ليست طبية ،
ميكانيكي: ( ساخرا) هو كذلك يا جناب القائد المحترمـة.
عون سلطة: ( منفعلا) كل هذا سيصل لسيد الباشا غدا( يبتعد عنها، ليجلس على المصطبة)
السيدة: (تلعب بالكمامة ، وتلمسها بعنف) هذه ليست كمامة طبية، فمن أين اشتريتها ؟
ميكانيكي: ( بهدوء تام) لم أشتريها، يا خوخة... !
السيدة:( تقاطعه بعنف وتنهره) تكلم بأدب واحترام.
ميكانيكي: لقد صنعتها لي زوجتي، من أحد الٌأقمصة البالية؟
السيدة: ( تضحك) أه؛ تستعمل البقايا... إنك وزوجك تساعدان العدو على البقاء ؟
ميكانيكي: ( حائرا، ومنفعلا) أي عـدو؟ وأي بقاء ؟( يصرخ)
السيدة: ( تدفعه) كوفيد اللعين... أسمعت ! لماذا لم تضع الكمامة الطبية التي تباع في الصيدليات.
ميكانيكي: ( يتهكم ) لا أملك نقودا، لكي أشتريها
السيدة: ولكن الكمامات توزع بالمجال ؟
ميكانيكي: ( متبخترا، ويرقص على ألفاظه) بل تباع في الصيدليات أيتها السلطة أنتِ !
السيدة: ( بحدة متناهية) تتهكم علي ، سأعتقلك الآن. (تمسك به ، و تخاطب عون السلطة) ضع
الكمامة على وجهك، واعتقله معي .
عون سلطة:( ينهض متوترا، ينزع الكمامة ويضرب بها على الأرض)....كفى!.....كفى! نريد
حلا... يا قائد.....نريد حلا .... يا سيدتي... ستجني علي وعليك . ( ظلام)
[ تنطفي الأنوار، لتنطلق صفارة الإنذار، مع دوران إضاءة حمراء في القاعة كلها، وبعدها يتم تشغيل( فيديو) يعكس على الشاشة حركات سيارات الإسعاف، وجري العباد قرب المستشفيات... ولحظة تنعكس إضاءة صفراء شاملة على الزنزانة - تضم المسن وعون سلطة والرجل- كل واحد في زاوية معينة، وبالإمكان إضافة أقنعة خلفية، بمثابة محتجزين. يسمع نباح كلاب وعواء الذئاب من بعيد]
ميكانيكي: ( جالسا على درج موضوع وسط الركح، بمثابة باب الزنزانة) أسمع نباحا وعواء ذئاب
...أين نـحن الآن يا عون السلطة ؟
المسن ( ينهض فرحا من المصطبة المركونة عن يسار الزنزانة) السَـلـَطة...أين هي...؟( بلهفة)
لقد طلبت ابنتي الصغرى أن تهيئها لي، فلم تجد ما يكفي من خضر لإنجازها.
عون سلطة : ( متدمرا) يا عمي... كفاك اشتهاء في هذا الليل البهيم... .فالجوع سيتضاعف بهذا
الاشتهاء...
ميكانيكي: ( جالسا) قلت لك ..أين نـحن الآن ؟
عون سلطة : ( يلعب بالكمامة) نحن في ضيعة خارج المدينة... إنها إقامة إجبارية لا اختيارية،
فرضتها عليك السيارة الملعونة
ميكانيكي: (ينهض، قلقا) فرضتها إنسانيتي وطيبوبتي... يالها من إقامة إجبارية ، من نوع جديد
هذه الليلة...
المسن:(ينهض من المصطبة، متجها نحو الرجل) اسمها وفاء وليست ليلى يا بني !
عون سلطة: ( متدمرا) اسكت ياعمي...كفانا بهدلة... وفاء ، طامو، جليلة ، وهيبة، مونية،
فطومة... هي أسماء لا تساوي شيئا أمام الجوع...الجوع أنهكني ياعَـم....لقد
أنهكني...( يقبض في أمعائه ويتدور بعنف)
المسن:( يفتش على القفة الموضوعة بجانب مصطبة ( درج) يشكل مدخلا لزنزانة الحجز) تعالى
يا بني .خذ نصيبك ( يبدأ بالأكل، والميكانيكي: يأخذ قنينة ماء ليشرب)
صوت1:( جهوري وخشن ، يسمع من الجهة اليسرى) التباعد واجب ...ابتعدوا... ضع الكمامة
أنت يا أيهـا المارق.. وأنت ارتدي الكمامة... يا خنزير البراري ( يضحك)
صوت 2: ( يصرخ) لقد تبللت بكثرة البخار
صوت1: لا تتنفس كثيرا... ستفقد حاسة الشم...
صوت 2:( يضحك) لقد فقدتها وفقدت حاسة الذوق .
صوت1:( يسمع وسطا ) التباعد واجب ...ابتعدوا... اترك مسافة مترين بينك وبينه يا خنزير...
صوت 2: يا خنزير البراري( يضحك)
صوت1: تسخر مني يا ذاك الحلوف... غدا سترى عاقبتك ...وأنت ... أنت يا عـون سلطة ....
ضع كمامتك ، وكفاك أكلا...
عون سلطة :( يأكل ويصرخ) لم أعد كذلك، لقد أصبحت محتجزا ، بفضل السيدة القائد...هذا جزاء
واجبنا وتضحياتنا
صوت 1: ( ساخرا منه) ومن أجبرك على التضحية ؟
عون سلطة : ( يأكل) كم لذيذ هذا الشواء...يا عمي ؟
صوت 1: تأكل... ألم تفقد شهية الأكل ؟
عون سلطة : ( ينهض) لقد فقدت شهية النـوم .
ميكانيكي: (يقترب منه) هيا نـم... فمن منعَـك؟
عون سلطة : الواجب، للقضاء على العدو
المسن:( يتحرك ويلوح بعصاه في الهواء) اسألني أنا عن العَـدو... كلما حاول الدخول ، إلا
وجنودنا يترصدون لهم... بالنار والرصاص
ميكانيكي: ( مضجرا، وبدأ يبحث عن سيجارة من جيبه) لقد شبعنا من قصص حروبكم .
المسن: قصصنا هي الأمل في وجودكم الآن...فلو تعلم كم عالجت من مصابين، لتعجبت
ميكانيكي: أتعجب من وجودي هنا الآن.... لا طبول تقرع هاهنا... ولا صوت محركات
سيارة...فقط أصوات غريبة ونباح كلاب
(صوت نباح الكلاب، يتوقف ليسمع نقيق الغربان)
اسمعوا ...يالها من أصوات مخيفة ، في هذا الليل ...ليل يسدل همومه وأحزانه....
والعدو يتحرك كالتائه بين المدن والمداشر كالماء في مجراه النتن.
المسن: سنخرج غدا من هذه الزنزانة...
عون سلطة : ( يصرخ) اطلب لي سيد الباشا حالا ( المسن والرجل يضحكان) لماذا تضحكان ؟
صوت1: احفظ صوتك، وضع الكمامة، الباشا في داره نائم
ميكانيكي: ( يدخن) كمامته ليست طبية ، أيها المراقب.
صوت1: لا يهمني، قريبا سأفقد أعصابي...معكم ومع ذاك العـدو الكوني القاتل .
المسن: آه ...القنابل... إنها بداية الحرب، سأكون مستعدا بعد خروجي من هنا
عون سلطة: ( يقترب من أذنه اليمنى) القاتل وليس القنابل...
المسن: (في هدوء تام) هل قتلته ؟
ميكانيكي: ( يضحك، ويقترب من أذنه اليسرى) اطمئن...سيقتله قريبا.
المسن:( يجلس على المصطبة، ويضرب الأرض بعصاه) مـن ياولدي؟
ميكانيكي: ( يجلس قربه) العـدو يا عمَّــاه !
المسن: ( يشخص بعصاه ) لقد قتلناه منذ زمان..
ميكانيكي: (يخرج سيجارة من جيبه) عدنا لقصص حروب الفيتنام والجابون والهندوراس والهند
... العـدو ياعمّي في أيامنا هذه ...هـو الوباء ؟!...إنها "كورونا" اللعينة ....
عون سلطة : ( يلعـب بقبعـته) أعتقد أن التلقيح ، سيبعد عنك العـدو...وسيزيد من فرصة عدم
إصابتك بالمرض...
المسن: ( يضرب بعصاه الأرض؛ ويخرج من القفة قنينة حليب) هل أنت معقم أم ملقح يا بني؟
عون سلطة: ( يضحك ، ويتهكم)... التعقيم... التلقيح... وهل أنا فاكهة حتى أتلقح... أو حليب
حتى أعقم ؟
المسن: ( ينهض بصعوبة) أنت فكاهة ياعَـون...
عون سلطة: ( يقف مسرعا، فوق المصطبة) سلطة... قلت لكم ...سلطة
صوت 1: ( بهدوء) ابتعدوا يرحمكم الله... هيا خذوا الكمامات، ووزعوها بينكم..
[ تنزل بعض الكمامات من الفوق ، يقف أمامها المسن]
المسن: كنا نعرف أن اللصوص، هم من يضعون الكمامة على وجوههم حتى لا يتعرف الناس
عليهم...في حروبنا ( يتحرك كأنه يسبح في مسبح) والله أشهد على ذلك... كانت روائح
البارود والرصاص والقنابل تنتشر يمينا وشمالا، ولا أحد من جنودنا وضع الكمامة
...ياإلاهي...في هذه الكمامة سـر من الأسرار...سنعرفها فيما بعْـد...
ميكانيكي: ( يقترب من الكمامات، ويحركها بيديه) لن تعْـرف أي شيء... فهل نعْـرف لماذا عون
السلطة محجوز هنا؟
عون سلطة: وهل تعـرف أنت لماذا أنت هنا ؟
ميكانيكي: ( يحرك الكمامات بقوة) نعــم ، أعلم جيدا، عكسك أنت ..إنها تصفية حسابات....
صوت السيدة: ...إنه خالف التعليمات .
عون سلطة: ( يصرخ ، ويدور كالأحمق) أي تعليمات يا سيدتي ؟
صوت السيدة: وحاول أن يتحدى رؤساؤه...
عون سلطة: ( يقفز من المصطبة بجنون)... أريد السيد الباشا حالا....
صوت السيدة: ولم يضع الكمامة في الوقت المناسب
عون سلطة: ( يخرج كمامتين من جيبه، ويركع وسط الزنزانة ) ماذا سنسمي هذه ؟ بطانية
صوت السيدة: . وووو.. وملفك ثقيل للغاية . إن أمرك لقريب نظيره...
عون سلطة: ( يدور في مكانه) لقد أصبح صوتك نشازا... تبحثين عن ضياعي ... لقد شعَـرت بك
منذ شهور ...أنك تخططين لشيء ما في حقي...ولم أكن أتوقع أن أسجن ..وسأصبح
عاطلا... أنتِ المسؤولة عن مصيري... شكوت إليك يا بديع السموات. وإليك مصيري
يا ربنا...
ميكانيكي: ( يطبطب على كتفيه) هي حقودة منذ طفولتها...لا تخف، ستعود لعملك
المسن: هل تعْـرفها ياولدي؟
ميكانيكي: قريبة مدشرنا...وكانت ستكون زوجتي، لكن والدها قتل والدي
عون سلطة: ( مندهشا ) مـاذا ؟ وما السبب ؟
ميكانيكي:( يجلس على المصطبة)على دجاج دخل حدود أرضه، فظل يأكل من حباته.
فخرج من خيمته ببندقية...
المسن: ( يقاطعه بواسطة كزه بالعصا) هل كان جنديا مثلي ؟
ميكانيكي: ( يبعد العصا عنه) هل أنت جندي أم ممرض ؟
المسن: ( يكزه بالعصا) جندي ممرض... ممرض جندي...
عون سلطة:( يجلس على المصطبة) وأنا كنت عَـون سلطة... وسأصبح سلطة عون ...وعاطل
عن العمل....
المسن:( يحرك الرجل بعصاه) كيف قتل والدك ؟
عون سلطة: عجبا لك، يا عـم ...تحب سوى القتل والدم والسفك والحروب...
ميكانيكي: ( يقف أمام الكمامات) أطلق النار على دجاجنا، ببرودة دم ! لقد قتل ثلاثة...بطلقة
واحدة. فسمع أبي طلقة رصاص، لأننا كنا جيران. اتجه إليه... ينهاه... وبدون تفكير
(يشخص الحدث) ... أطلق رصاصة أسقطت والدي صريعا... رصاصة واحدة تركته
يسبح في دمائه...
عون سلطة: الرحمة الربانية على روح والدك...( يقف مستقيما ، ويقرأ الفاتحة) آه: تذكرت الآن،
كانت تنظر إليك بحقد وشراسة...ولكن سمعتك تقول لها يا خوخة ؟
ميكانيكي: ( متألما) أجـل قلتٌ: خوخة ...! ...يا خوخة ! ( يهيم)تحت شجر الخوخ كنا نلتقي،
نتبادل الأحاديث، نتغامز ونتلامز...و نتبادل دروسنا... وهكذا .... لكن( متوترا) بسبب
القتل ...بقتل والدي هاجرت المدرسة التي كانت تجمعني بها...وهاجرنا المدشر
والمداشر أجمعها... والناس وخيامهم...
(صوت العربان والكلاب بشكل مختلط)
عون سلطة: آه يا زمان...تدور الأيام، وتدور... لتلتقيان... لكي تنتقم مِـنكَ... بدل أن تنتقم أنت
منها...
( يضحك بشدة)
المسن: ( يلكزه بالعصا) ضع كمامتك يا ولدي... فبزاقك يصل إلي...ابتعد قليلا.
عون سلطة: ( يضحك) هل أنت خائف من العدوى ؟
المسن:( يسترخي على المصطبة الوسطية) لم أخف من العـدو...فبالأحرى العدوى...طز في
أيامك ، وزمانــك...
عون سلطة: ( يلعب بالكمامة) سمعت والله أعلم . أن من كان في منام الله مرتديا كمامة...
المسن: سبحان الله...كمامة في المنام..
ميكانيكي: ( ساخرا) اتركه يشرح لنا المنام..
عون سلطة: فهو شخص مخادع ومنافق ، وعلينا أن نتجنبه حتى في التعامل .لأنه يحاول إخفاء
مشاعره الحقيقية تجاه الآخرين..
رجل: ( يصفق) تفسير جميل..؟ هل أنت ذلك الرجل ؟
عون سلطة( مندهشا) أي رجل تقصد ؟
ميكانيكي: الذي كان في المنام .
عون سلطة : سمعت والله أعلم .
ميكانيكي: إذن كلنا مخادعون...منافقون.. ما دمنا نرتدي الكمامة.
عون سلطة :( مستلق على الأرض) كن صاحيا... هل أنت بليد ؟ قلت في الحلم فقط ، فالمنام
يختلف عن الواقع...
ميكانيكي: (يقترب منه) واقعنا هو الحلم...والحلم هو واقعنا حقيقة... ( يبتعد عنه) ألسنا جميعا
في حلم مفـزع ؟...ألسنا في واقع مريع ؟ بالله عليك ، أليس الفقر مزعجا ؟...أليس
الجوع مخيفا ؟... أليس الوباء عـدوا ؟ أليس الظلم مدمرا ؟ أليس الفيروس مروعا ؟...
أليست الكمامة فظيعة وبشعة... ألا تخنق الكمامة الأنفاس ، وتغير ملامح الإنسان ؟
أليست صكا سخيفا ؟.... مأساتنا أننا نعيش يوميا رعْـبا في رعْـب في اليقظة والحلم .
خوفا في خـوف في الحلم واليقظة ....يا لقذارة وجودنا...
عون سلطة : ( يتجه نحوه المسن) صفق ...صفق على المفوه زمانه( يتجه نحو الميكانيكي
ويضع يديه على كتفيه) لقد أصبحت شاعـر أيامك... وخطيب زنزانتك... هاهي
فوائد الحجر الصحي عادت عليك بالنفع .... لا تنزعج... ستذوب هذه
القتامة...ستبتعد عنا سحابة الوباء... وسنعود لحياة بدون رعب (في هدوء تام )
ميكانيكي: تحلم ستزول القتامة في يوم القيامة .
المسن: ( يلعب بعصاه) لاتكن متشائما....
عون سلطة: أه ... ماذا وقع لأنفي...؟( يشخص عملية الشم في ملابسه وملابس الميكانيك) لم
أعُـد أشم رائحتك...( يتحرك كأن بردا قارسا أصابه، ويجس لا إراديا جبينه ووجه
وجسمه) يال ها من برودة شديدة في جسمي... ربما أصبت بالعدوى... ممكن...
جسمي يتصبب عرقـا.... اللعنة على من وضعني هاهنا...سأموت أيها
المراقب...سأموت هنا...
المسن:( ينهض، ويأخذ كمامة من الجهة المعلقة) ضع الكمامة على وجهك.
عون سلطة : هل الكمامة هي الدواء...لماذا لم تضعها أنت ( يرميها)... أشعُـر باختناق ...أعطيني
جرعة ماء ...(يتحرك المسن على ركبتيه ، ليبحث عن القفة)... أسرع ناولني شربة
ماء ..
(يأخذ القارورة بنهم يشرب منها ، ثم يسقط أرضا ، ليبدأ بحركات راقصة كأن
صعْـقة كهربائية أصابته)
ميكانيكي: ( يبتعد، ويقف على المصطبة الجانبية) فعلا لقد أصيب بالوباء... إنها العلامة ..كيف
أصبت وأنت كنت الآن في صحة جيدة
المسن( يقترب من عون السلطة) الفيروس الخبيث... لا يعلم متى سيزورك...كالحرب لا تعلم متى
تشتعل ؟... وأين ستشتعل ؟...ومتى تهدأ ؟
ميكانيكي: ابتعد عنه يا شيخ، الحروب انتهت بشيخوختك... إنه يحتضر...يحتضـر يا صوات
النشاز ...ضحية أخرى ستسقط الآن...ابتعد عنه ياعَـمي..
المسن: ( بحنان متزايد يحتضنه) لن أتركه يموت... ستخرج من هنا غدا...زوج ابنتي قنصل
القناصل، سيحضر لإخراجي من هنا...وسأخرجك معي...إهـدأ ...ستخرج من هنا غــدا
...أعدك .. وعـد أب لابنه...تشجع ..قاوم برودتك ... ستعود لعملك ...أعدك يا بني... أعـدك ، سحابة وستنقشع الشمس. لو أحكي لك كم من جندي عاش، بعد موت حقيقي. موت رأيته أمامي يتحرك...يخترق الأجساد... تشجع . كن جنديا في ساحة الحـرب. هيا
أنا بجانبك ...قاوم... ما اسمك ...قاوم ....
ميكانيكي: ( فوق المصطبة مندهشا) مادخلك الآن في اسمه... ؟
عون سلطة : ( بصعوبة) اسمي اليزيد بن ادريس ولد مليكة
( يحتضنه بقوة بين يديه، يتوقف عون سلطة عن الحركة، يرتخي جسده.. لتنعكس عليه من الأعلى إضاءة حمراء وفي والوسط بنفسجية. والمسن يتألم بحرارة و الميكانيكي فوق المصطبة يقبض في رأسه، مشدوها للمشهد)
بتاريخ/ 16/03/2021