الروايةُ هي الفنُّ الذي يُوفِّقُ ما بين شغف الإنسان بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال، ولعل هذا الوصف ينطبق على الفن بصفة عامة وعلى الرواية ورواية السيرة الذاتية بصفة خاصة، حتى لو ادعى الكُتَّابُ أنْفُسُهُمْ غيرَ ذلك إلاَّ أنَّ روايةَ السيرة الذاتية تبقى إلى جانب ذلك عملاً أدبياً؛ لأنها حكي استعادي نثري يتصف بالتماسك والتسلسل في سرد الأحداث، يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وتجربته الشخصية مقترنًا بإبداعه وخياله؛ أي لا بد للخيال من أن يكون له دور فيه، فالنص الأدبي لا يكتسب صفته الأدبية إلا بالانتقال من الواقع إلى التخْييل، وبقدر نجاحه في ذلك يكون نجاح العمل بصفة عامة، وإذا أقررنا بنجاح عملٍ أدبيٍّ ما، فإن البحث عن أسباب النجاح هو بحث في قدرة الكاتب على رسم الواقع بصورة جمالية تلامس صورتها الأصلية مع مسحة فنية للخيال.
برغم أن الأديبة عزة عز الدين في رواية " دكان حبيبة " تكتب عن شخصية أخرى غيرها لكنها ترصد تجربتها الشخصية وعلاقتها بها في تداخلها مع ما تحمله بطلة هذه الرواية (أميرة) من تجارب شخصية؛ فمن وجهة نظري أرى أنها رواية سيرة ذاتية.
تتعدد الأصوات داخل العمل الروائي، وجاء الخطاب على لسان الراوي بضمير المتكلم، وأعطت لشخوصها مساحات وافية للحديث وأظهرت مكنونات الشخصيات ورسمت حواراتها بما يتناسب مع طبيعة كل منها.
تشتغل الأديبة عزة عز الدين على رمزية الأسماء، نجد أن اختيارها للأسماء مدروس بعناية، وظهر ذلك واضحا - بتحليل الأسماء سيميائيًّا - عندما أسمت بطلة الرواية أميرة وبناتها قمر وشمس ونور وصديقتها نبيلة وكلها أسماء مليئة بالدلالات والمعاني والرموز تتضح على مدار هذا المشهد الروائي. ويظهر ذلك بوضوح في اختيار اسم نادر الطبيب الذي أحبّ ابنتها، وحتى الطبيب الذي أعلن نتيجة المسابقة العلمية المهنية المتخصصة اختارت له اسم عادل؛ وهذا يؤكد أن جميع الأسماء تم اختيارها بعناية فائقة.
الكاتبة والسيرة الذاتية
يتضح من النص الروائي في الصفحة الثامنة عشرة
(ماهرة أنا في صناعة التفاصيل ورصدها ، ماهرة أيضا في الترتيب للرحلات … بها الحياة) ما تتحدث الكاتبة إلا عن نفسها فهي تصف شخصيتها التي نعرفها جميعا بحكم قربنا منها؛ مما يؤكد على تصنيفنا للعمل بصفته رواية سيرة ذاتية ، وما زاد من يقيني بهذا الأمر ما أوردته الأديبة عزة عز الدين بعد ثلاثين صفحة بقولها
"تقدمت بخطوات واثقة في مجال أعشقه منذ طفولتي … وطوال ثلاث صفحات تصف حالها في عالم الأدب والكتابة.
كتبت عزة عز الدين - دون أن تدري- تاريخًا وقد اعتبر جورج لوكاتش أن كل أنواع الرواية بالمنظور الكلي الشامل تكاد تكون رواية تاريخيّة؛ فالرواية التاريخية - وفقًا لما قاله - تأخذ شكلا أدبيا يستمد قيمته الفنية من تعلقه بسياق اجتماعي وسياسي، أي إن خطاب الرواية التاريخية يتحدد من خلال ما تقوله لا من خلال ما تنقله، ولا يهم تكرار سرد الأحداث التاريخية، بل إحياء وبعث الكينونات التي كانت شاهدة على تلك الأحداث، وسيكون مُهمّا أن نحيا ثانية البواعث الاجتماعية والإنسانية التي قادت الناس إلى التفكير والإحساس والتصرف بهذه الطريقة أو تلك كما هي في الواقع التاريخي.
وقد قال جورج لوكاتش في نظريته إن ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة؛ بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث، وما يهمّ، هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية؛ التي أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي على الرغم من أن مقولة جورج لوكاتش –السابقة- مختصة بتحديد موقفه من علاقة الرواية بالتاريخ؛ فإنها في الوقت نفسه تكشف عن جانب مهم من المعضلات الحقيقية التي تواجه علاقة الأدب في مجمله بالتاريخ، وذلك انطلاقاً من بعدها البسيط المتعلق بتحديد ماهية هذه العلاقة، التي يبدو فيها التاريخ شبه محايد؛ باعتباره ممثلاً للحقيقة الثابتة التي لا يعتريها التغيير في كينونتها الماضوية، وفي الجانب الآخر يظهر الأدب بوصفه متطفلاً على هذه الحقيقة؛ وذلك حينما يقرر الأديب في مرحلة تاريخية ما إعادة ترهينها زمنياً وأيديولوجيا في سياق الحاضر أو المستقبل، وهنا يبرز البُعد الإشكالي للعلاقة؛ الذي يتجاوز الذات المبدعة ليشمل العملية الإبداعية في إطارها العام أثناء تعاملها مع الحقيقة التاريخية الراسخة.
يتضح كل ما ذكرته هنا عن صلة رواية " دكان حبيبة " بالتاريخ من خلال مرورها على لحظات تاريخيّة وتصويرها من خلال مواقف إنسانية تعكس ما مر به أبناء الوطن في مراحله المختلفة فذكرت زلزال عام ١٩٩٢ وآثاره، وحادثة غرق العبارة السلام، ثم ثورة الخامس والعشرين من يناير وأجواء الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لها، ثم تناولت مأساة وباء كورونا وما خلّفته من آثار نفسية مدمرة، وكلها لمحات توثق لحظات فارقة من عمر الوطن، بالإضافة إلى ذلك، نجد أن الأديبة اختارت مناسبات لا يمر عليها أحد مرور الكرام مثل رأس السنة ورمضان والعيد وإجازة المصيف، مما يجعل القارئ يتوحد مع العمل الروائي .
الشخوص
يُحمد للكاتبة نضجها الفني والأدبي ويظهر اختمارها في رسم شخوص الرواية؛ حيث نجد أن الكاتبة هنا ترسم الشخوص بعناية فائقة تاركة تغيرات النفس البشرية ونوازعها تأخذ شخوصها بين أقدامها، ظهرت أميرة وشمس ونور بصفات رائعة أما قمر فقد أخذتها المادية بين قدميها وتغيرت تاركة أمها وراء ظهرها، وظهرت تقلبات إحدى الشخصيات في الصفحة السادسة والعشرين عند حديثها عن أول درس لها عن حنث الوعود حين أوجعتها مفاجأة زميلتها التي أخفت عنها التدريب في أحد البنوك في منحة استثنائية، على الرغم من أن الإنسان من أجل صديق أو زميل ربما يموت حزنا وقهرا وهو لا يعلم أن هذا الزميل يمكن أن يبيعه إن أتيحت له الفرصة أو خُيّر بين مصلحته ومصلحة أقرب الزملاء إلى قلبه !
لغة الرواية
نجد في الخلفيات المباطنة حسًّا رومانتيكيًّا، ويبدو أن شخصية الكاتبة تتميز به؛ لأن حبها لبناتها وللكتابة وطريقة تصوير المهن التي اختارتها بناتها بين الطب والتدريس والفنون وكلها وظائف تسمو بالروح ورسالات سامية، بالإضافة إلى وصف الأديبة للحظات الشروق والغروب وعلاقتها بالبحر، كلها مشاهد بلغ الوصف فيها أعلى درجات الإحساس والشاعرية.
كما أن اختيار بعض المفردات مثل الأمومة، الرسالة، أقدس البيت والأسرة كلها مفردات وعبارات تشي بالكثير عما تحمله هذه الأديبة في داخلها وبذلك نجد أن دور الأم عند عزة عز الدين دورًا مركزيا؛ فحين أراد الأب أن يزوج ابنته لابن عمها في استراليا تصف لنا الكاتبة مشاعر الأم؛ فنرى أن الأم كانت تشتري لبناتها قبل أن تشتري لنفسها، كأن رسالة الأديبة التي أرادت إيصالها إلى القارئ تكمن في أن الحفاظ على البنات وتربيتهن تربية سليمة صالحة يبدأ من عتبة الأم وحضنها، إذا أردت أن تتأكد من أخلاق بنت عليك بالسؤال عن أمها.
وأتصور أن الأديبة عزة عز الدين مشروع شاعرة، فنجدها تقول في المتن الروائي صفحة ٥٩:
لما لاطفني نسيم الفجر وطبع على ملمسي قبلة الأمل، لما أشرق النور وبسط النهار رداءه الشفيف ، تعالت زقزقة العصافير، وتمايلت أغصان الشجر، وازداد حفيفها طربا، لما ودعت الحمامات غيتها وطارت، حتى كلمة المشاوير واللقاءات"
تنفلت الأديبة من السرد إلى الشعر وكأنها تكتب قصيدة لا ينقصها إلا الوزن والقافية مثلما فعل نجيب محفوظ في مطلع رواية ميرامار.
بالإضافة إلى ذلك نجد أن الأغنية حاضرة بين أم كلثوم وفيروز ومحمد منير الأسماء التي وردت في العمل الروائي مصحوبة بأغنيات محددة وأسمهان وعبد الحليم والتي وردت بالاسم أيضا في هذا العمل؛ مما يدل على عشق الكاتبة للموسيقى وتلذذها بها وتغلغل الموسيقى في أفكارها وبين كلماتها.
وإن كانت اللغة في هذا العمل لغة عذبة راقية، لكنها كانت بحاجة إلى عين فاحصة لمراجعة العمل لغويا وخصوصا همزات القطع والوصل، والتأنيث والتذكير كما في صفحة ٢٦ الصواب قول : أدرك شهريار الصباح فسكتت عن الكلام المباح" بدلا من "سكت" لأن شهرزاد هي التي كانت تحكي الحدوتة لشهريار.
بين سطور الرواية تظهر الهوية المصرية وربما العربية، في الصفحة الثالثة والأربعين يسكن ابنها الطبيب وزوجته الطبيبة، شبه ثوابت يُجمع عليها المجتمع بأن يتزوج الطبيب من طبيبة حتى وإن لم تكن في التجارب السابقة للأطباء والطبيبات ما يشجع اللاحقين على ذلك، لكن الشعور بالتكافؤ العلمي يجبر الأسر على هذه الفكرة، ولا يتغير فكرهم إلا استبدلوا الطبيب بمهندس أو بقاض أو بضابط، فكرة غريبة مسكوت عنها تظهر بين سطور الأديبة عزة عز الدين، ورغم أنها أنجبت ثلاث بنات إلا أنها لم تتعرض لرغبتها ولا لرغبة المجتمع المتمثل في الزوج والأهل في أن يكون لها ولد.
بجرأة كبيرة كتبت عزة عز الدين عن أهم المشكلات التي تؤرق بال المجتمع المصري بل العربي كله، كيف لا يُقدر الطبيب ولا المعلم؟! وضعت يدها على أهم وظيفتين يمكن المجمتع أن ينهض بفضلهما، ما الذي يجبر الطبيب على السفر إلى الخليج لشراء شقة إلا تدني راتبه الشهري ؟! وكذلك المعلم عرجت على قضية التعليم على عجل وإن كانت القضية في حاجة إلى الطرح بتعمق أكبر.
تناولت الأديبة عزة عز الدين مشكلة الهوية وضياعها وفقد الإحساس بالانتماء؛ وإلا فما الذي جعل شقيق زوجها الطبيب المهاجر إلى استراليا يبقى هناك ولا يرجع لسنوات ؟! ولماذا لم يحضر أولاده عزاء جدتهم ؟! هل يشعرون أصلا بالانتماء إليها ؟! والجدة هنا تشير إلى الأصل والمنشأ وبداية قصة كل واحد فينا فهل نتمسك بهويتنا وأصل نشأتنا؟!
ظهر البعد النفسي في هذه الرواية أكثر من مرة وبخاصة حين تناولت موضوعات تتعلق بالأحاسيس والمشاعر، الحب والفقد، والتعافي بعد الفقد، وآلام التعلّق، وثنائية الصدمة والخذلان من الخيانة الزوجية في مقارنة مع الأمل الجديد الذي ولد في داخلها بعد سن الخمسين مع رجل آخر.
من التقنيات السردية التي بُني عليها العمل تقنية التناقض؛ فنجد بالعمل ثنائيات متناقضة في غير موضع، فقد ظهر ذلك في نمط الاحتفال بالزفاف بموسيقى هادئة بخلاف ما آل إليه الحال في كثير من احتفالات الزواج هذه الأيام، بالموسيقى الصاخبة والتخلي عن الوقار وقبول أن تتراقص الزوجة أمام الناس، سلوكيات شائنة وأعتبرها دخيلة على الشخصية المصرية والعربية، حتى في بناتها هناك من قبلت بالبعد عنها أما الأخرى فرفضت رفضا قاطعا، ضربت لنا الأديبة المثل لزميلتها نبيلة والزميلة أخرى حنثت بالوعد، ضربت لنا مثالا بخيبة الأمل في زوجها والحلم والوعد الذي تنتظره حتى لو في الخمسين من عمرها مع رجل آخر يقدرها ويحترمها.
وفي الأخير، نهنئ المكتبة العربية بهذا الإصدار الجديد، والذي يضيف قيمة كبرى للأدب العربي الحديث، ويفسح الطريق أمام أديبة ترسخ مكانتها في قلوب القراء والدارسين.
أحمد عبدالله إسماعيل
روائي مصري
برغم أن الأديبة عزة عز الدين في رواية " دكان حبيبة " تكتب عن شخصية أخرى غيرها لكنها ترصد تجربتها الشخصية وعلاقتها بها في تداخلها مع ما تحمله بطلة هذه الرواية (أميرة) من تجارب شخصية؛ فمن وجهة نظري أرى أنها رواية سيرة ذاتية.
تتعدد الأصوات داخل العمل الروائي، وجاء الخطاب على لسان الراوي بضمير المتكلم، وأعطت لشخوصها مساحات وافية للحديث وأظهرت مكنونات الشخصيات ورسمت حواراتها بما يتناسب مع طبيعة كل منها.
تشتغل الأديبة عزة عز الدين على رمزية الأسماء، نجد أن اختيارها للأسماء مدروس بعناية، وظهر ذلك واضحا - بتحليل الأسماء سيميائيًّا - عندما أسمت بطلة الرواية أميرة وبناتها قمر وشمس ونور وصديقتها نبيلة وكلها أسماء مليئة بالدلالات والمعاني والرموز تتضح على مدار هذا المشهد الروائي. ويظهر ذلك بوضوح في اختيار اسم نادر الطبيب الذي أحبّ ابنتها، وحتى الطبيب الذي أعلن نتيجة المسابقة العلمية المهنية المتخصصة اختارت له اسم عادل؛ وهذا يؤكد أن جميع الأسماء تم اختيارها بعناية فائقة.
الكاتبة والسيرة الذاتية
يتضح من النص الروائي في الصفحة الثامنة عشرة
(ماهرة أنا في صناعة التفاصيل ورصدها ، ماهرة أيضا في الترتيب للرحلات … بها الحياة) ما تتحدث الكاتبة إلا عن نفسها فهي تصف شخصيتها التي نعرفها جميعا بحكم قربنا منها؛ مما يؤكد على تصنيفنا للعمل بصفته رواية سيرة ذاتية ، وما زاد من يقيني بهذا الأمر ما أوردته الأديبة عزة عز الدين بعد ثلاثين صفحة بقولها
"تقدمت بخطوات واثقة في مجال أعشقه منذ طفولتي … وطوال ثلاث صفحات تصف حالها في عالم الأدب والكتابة.
كتبت عزة عز الدين - دون أن تدري- تاريخًا وقد اعتبر جورج لوكاتش أن كل أنواع الرواية بالمنظور الكلي الشامل تكاد تكون رواية تاريخيّة؛ فالرواية التاريخية - وفقًا لما قاله - تأخذ شكلا أدبيا يستمد قيمته الفنية من تعلقه بسياق اجتماعي وسياسي، أي إن خطاب الرواية التاريخية يتحدد من خلال ما تقوله لا من خلال ما تنقله، ولا يهم تكرار سرد الأحداث التاريخية، بل إحياء وبعث الكينونات التي كانت شاهدة على تلك الأحداث، وسيكون مُهمّا أن نحيا ثانية البواعث الاجتماعية والإنسانية التي قادت الناس إلى التفكير والإحساس والتصرف بهذه الطريقة أو تلك كما هي في الواقع التاريخي.
وقد قال جورج لوكاتش في نظريته إن ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة؛ بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث، وما يهمّ، هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية؛ التي أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي على الرغم من أن مقولة جورج لوكاتش –السابقة- مختصة بتحديد موقفه من علاقة الرواية بالتاريخ؛ فإنها في الوقت نفسه تكشف عن جانب مهم من المعضلات الحقيقية التي تواجه علاقة الأدب في مجمله بالتاريخ، وذلك انطلاقاً من بعدها البسيط المتعلق بتحديد ماهية هذه العلاقة، التي يبدو فيها التاريخ شبه محايد؛ باعتباره ممثلاً للحقيقة الثابتة التي لا يعتريها التغيير في كينونتها الماضوية، وفي الجانب الآخر يظهر الأدب بوصفه متطفلاً على هذه الحقيقة؛ وذلك حينما يقرر الأديب في مرحلة تاريخية ما إعادة ترهينها زمنياً وأيديولوجيا في سياق الحاضر أو المستقبل، وهنا يبرز البُعد الإشكالي للعلاقة؛ الذي يتجاوز الذات المبدعة ليشمل العملية الإبداعية في إطارها العام أثناء تعاملها مع الحقيقة التاريخية الراسخة.
يتضح كل ما ذكرته هنا عن صلة رواية " دكان حبيبة " بالتاريخ من خلال مرورها على لحظات تاريخيّة وتصويرها من خلال مواقف إنسانية تعكس ما مر به أبناء الوطن في مراحله المختلفة فذكرت زلزال عام ١٩٩٢ وآثاره، وحادثة غرق العبارة السلام، ثم ثورة الخامس والعشرين من يناير وأجواء الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لها، ثم تناولت مأساة وباء كورونا وما خلّفته من آثار نفسية مدمرة، وكلها لمحات توثق لحظات فارقة من عمر الوطن، بالإضافة إلى ذلك، نجد أن الأديبة اختارت مناسبات لا يمر عليها أحد مرور الكرام مثل رأس السنة ورمضان والعيد وإجازة المصيف، مما يجعل القارئ يتوحد مع العمل الروائي .
الشخوص
يُحمد للكاتبة نضجها الفني والأدبي ويظهر اختمارها في رسم شخوص الرواية؛ حيث نجد أن الكاتبة هنا ترسم الشخوص بعناية فائقة تاركة تغيرات النفس البشرية ونوازعها تأخذ شخوصها بين أقدامها، ظهرت أميرة وشمس ونور بصفات رائعة أما قمر فقد أخذتها المادية بين قدميها وتغيرت تاركة أمها وراء ظهرها، وظهرت تقلبات إحدى الشخصيات في الصفحة السادسة والعشرين عند حديثها عن أول درس لها عن حنث الوعود حين أوجعتها مفاجأة زميلتها التي أخفت عنها التدريب في أحد البنوك في منحة استثنائية، على الرغم من أن الإنسان من أجل صديق أو زميل ربما يموت حزنا وقهرا وهو لا يعلم أن هذا الزميل يمكن أن يبيعه إن أتيحت له الفرصة أو خُيّر بين مصلحته ومصلحة أقرب الزملاء إلى قلبه !
لغة الرواية
نجد في الخلفيات المباطنة حسًّا رومانتيكيًّا، ويبدو أن شخصية الكاتبة تتميز به؛ لأن حبها لبناتها وللكتابة وطريقة تصوير المهن التي اختارتها بناتها بين الطب والتدريس والفنون وكلها وظائف تسمو بالروح ورسالات سامية، بالإضافة إلى وصف الأديبة للحظات الشروق والغروب وعلاقتها بالبحر، كلها مشاهد بلغ الوصف فيها أعلى درجات الإحساس والشاعرية.
كما أن اختيار بعض المفردات مثل الأمومة، الرسالة، أقدس البيت والأسرة كلها مفردات وعبارات تشي بالكثير عما تحمله هذه الأديبة في داخلها وبذلك نجد أن دور الأم عند عزة عز الدين دورًا مركزيا؛ فحين أراد الأب أن يزوج ابنته لابن عمها في استراليا تصف لنا الكاتبة مشاعر الأم؛ فنرى أن الأم كانت تشتري لبناتها قبل أن تشتري لنفسها، كأن رسالة الأديبة التي أرادت إيصالها إلى القارئ تكمن في أن الحفاظ على البنات وتربيتهن تربية سليمة صالحة يبدأ من عتبة الأم وحضنها، إذا أردت أن تتأكد من أخلاق بنت عليك بالسؤال عن أمها.
وأتصور أن الأديبة عزة عز الدين مشروع شاعرة، فنجدها تقول في المتن الروائي صفحة ٥٩:
لما لاطفني نسيم الفجر وطبع على ملمسي قبلة الأمل، لما أشرق النور وبسط النهار رداءه الشفيف ، تعالت زقزقة العصافير، وتمايلت أغصان الشجر، وازداد حفيفها طربا، لما ودعت الحمامات غيتها وطارت، حتى كلمة المشاوير واللقاءات"
تنفلت الأديبة من السرد إلى الشعر وكأنها تكتب قصيدة لا ينقصها إلا الوزن والقافية مثلما فعل نجيب محفوظ في مطلع رواية ميرامار.
بالإضافة إلى ذلك نجد أن الأغنية حاضرة بين أم كلثوم وفيروز ومحمد منير الأسماء التي وردت في العمل الروائي مصحوبة بأغنيات محددة وأسمهان وعبد الحليم والتي وردت بالاسم أيضا في هذا العمل؛ مما يدل على عشق الكاتبة للموسيقى وتلذذها بها وتغلغل الموسيقى في أفكارها وبين كلماتها.
وإن كانت اللغة في هذا العمل لغة عذبة راقية، لكنها كانت بحاجة إلى عين فاحصة لمراجعة العمل لغويا وخصوصا همزات القطع والوصل، والتأنيث والتذكير كما في صفحة ٢٦ الصواب قول : أدرك شهريار الصباح فسكتت عن الكلام المباح" بدلا من "سكت" لأن شهرزاد هي التي كانت تحكي الحدوتة لشهريار.
بين سطور الرواية تظهر الهوية المصرية وربما العربية، في الصفحة الثالثة والأربعين يسكن ابنها الطبيب وزوجته الطبيبة، شبه ثوابت يُجمع عليها المجتمع بأن يتزوج الطبيب من طبيبة حتى وإن لم تكن في التجارب السابقة للأطباء والطبيبات ما يشجع اللاحقين على ذلك، لكن الشعور بالتكافؤ العلمي يجبر الأسر على هذه الفكرة، ولا يتغير فكرهم إلا استبدلوا الطبيب بمهندس أو بقاض أو بضابط، فكرة غريبة مسكوت عنها تظهر بين سطور الأديبة عزة عز الدين، ورغم أنها أنجبت ثلاث بنات إلا أنها لم تتعرض لرغبتها ولا لرغبة المجتمع المتمثل في الزوج والأهل في أن يكون لها ولد.
بجرأة كبيرة كتبت عزة عز الدين عن أهم المشكلات التي تؤرق بال المجتمع المصري بل العربي كله، كيف لا يُقدر الطبيب ولا المعلم؟! وضعت يدها على أهم وظيفتين يمكن المجمتع أن ينهض بفضلهما، ما الذي يجبر الطبيب على السفر إلى الخليج لشراء شقة إلا تدني راتبه الشهري ؟! وكذلك المعلم عرجت على قضية التعليم على عجل وإن كانت القضية في حاجة إلى الطرح بتعمق أكبر.
تناولت الأديبة عزة عز الدين مشكلة الهوية وضياعها وفقد الإحساس بالانتماء؛ وإلا فما الذي جعل شقيق زوجها الطبيب المهاجر إلى استراليا يبقى هناك ولا يرجع لسنوات ؟! ولماذا لم يحضر أولاده عزاء جدتهم ؟! هل يشعرون أصلا بالانتماء إليها ؟! والجدة هنا تشير إلى الأصل والمنشأ وبداية قصة كل واحد فينا فهل نتمسك بهويتنا وأصل نشأتنا؟!
ظهر البعد النفسي في هذه الرواية أكثر من مرة وبخاصة حين تناولت موضوعات تتعلق بالأحاسيس والمشاعر، الحب والفقد، والتعافي بعد الفقد، وآلام التعلّق، وثنائية الصدمة والخذلان من الخيانة الزوجية في مقارنة مع الأمل الجديد الذي ولد في داخلها بعد سن الخمسين مع رجل آخر.
من التقنيات السردية التي بُني عليها العمل تقنية التناقض؛ فنجد بالعمل ثنائيات متناقضة في غير موضع، فقد ظهر ذلك في نمط الاحتفال بالزفاف بموسيقى هادئة بخلاف ما آل إليه الحال في كثير من احتفالات الزواج هذه الأيام، بالموسيقى الصاخبة والتخلي عن الوقار وقبول أن تتراقص الزوجة أمام الناس، سلوكيات شائنة وأعتبرها دخيلة على الشخصية المصرية والعربية، حتى في بناتها هناك من قبلت بالبعد عنها أما الأخرى فرفضت رفضا قاطعا، ضربت لنا الأديبة المثل لزميلتها نبيلة والزميلة أخرى حنثت بالوعد، ضربت لنا مثالا بخيبة الأمل في زوجها والحلم والوعد الذي تنتظره حتى لو في الخمسين من عمرها مع رجل آخر يقدرها ويحترمها.
وفي الأخير، نهنئ المكتبة العربية بهذا الإصدار الجديد، والذي يضيف قيمة كبرى للأدب العربي الحديث، ويفسح الطريق أمام أديبة ترسخ مكانتها في قلوب القراء والدارسين.
أحمد عبدالله إسماعيل
روائي مصري