محمد على عزب - - قصيدة النثر وعلاقتها بالشعر المنثور والسرد...

(1)

وفى سنة 1960م على صفحات مجلة “شعر اللبنانية” ظهر المولود الاٍشكالى الجديد قصيدة النثر, والمعروف أن أدونيس هو أول من قدم مصطلح ومفهوم قصيدة النثر للقارئ العربى نقلا عن الشعر الفرنسى, لكن د. عز الدين المناصرة يقول: ( قد روَّجت جماعة مجلة «شعر» لنفسها جيداً، حيث اخترعت لها تاريخاً خاصاً بقصيدة النثر، وهو أن تاريخ قصيدة النثر بدأ مع أدونيس وأنسي الحاج 1960م عندما ترجم أدونيس المصطلح الفرنسي (Le poe›men prose) إلى قصيدة النثر نقلاً عن كتاب سوزان برنار لكن تبيّن لاحقاً أن شوقي أبي شقرا هو من ترجم مصطلح قصيدة النثر لأول مرة في صحيفة النهار البيروتية 28/ 4 / 1959م )1, ويقارن د. عز الدين المناصرة بين هذا التاريخ وبين تاريخ كتابة أدونيس لمقالة التأسيسى “فى قصيدة النثر” بمجلة شعر ـ 1960م من ناحية الأسبقية الزمنية, ولكن هذا المقال ليس هو أول مقال لأدونيس عن قصيدة النثر من ناحية ترجمة المصطلح والحديث عن اٍمكانية كتابة الشعر بالنثر, فقد كتب أدونيس مقالا بعنوان “محاولة فى تعريف الشعر الحديث” فى مجلة شعر اللبنانية بتاريخ 1 يوليو 1959م بينه وبين ترجمة شوقى أبو شقرا لمصطلح قصيدة النثر عدة أسابيع فقط, واٍذا راعينا أن شوقى أبو شقرا ترجم المصطلح أثناء حديثه عن الشعر فى جريدة تصدر يوميا بينما أدونيس قد وردت ترجمته لمصطلح “قصيدة نثرية” فى مجلة فصلية متخصصة تصدر كل ثلاثة أشهر, فاٍن ذلك يشير لتزامن الترجمتين أكثر مما يشير اٍلى الأسبقية الزمنية, وفى هذا المقال لم يكتفِ أدونيس بترجمة المصطلح فقط بل تحدث عن اٍمكانية كتابة الشعر بالنثر حيث قال: ( اٍن تحديد الشعر بالوزن تحديد خارجى سطحى, قد يناقض الشعر, اٍنه تحديد للنظم, فليس كل كلام موزون شعر, وليس كل نثر خاليا بالضرورة من الشعر, اٍن قصيدة نثرية بالمقابل يمكن أن لاتكون شعرا, ولكن مهما تخلص الشعر من القيود الشكلية والأوزان, ومهما حفل النثر بخصائص شعرية تبقى هناك فروق أساسية بين الشعر والنثر )2, ويعد هذا المقال اٍرهاصة لمقال أدونيس “فى قصيدة النثر” بمجلة شعر سنة1960م ليكون البيان التأسيسى الأول لقصيدة النثر فى الأدب العربى, ويوضِّح فيه أدونيس مرتكزات قصيدة النثر التي تناولتها الناقدة الفرنسية “سوزان برنار”, ويفرّق أدونيس بوعى بين النثر الشعرى وقصيدة النثر حيث قال: ( النثر الشعرى ليس له شكل فهو استسلام للشعور دون منهج شكلى أو بنائى, وهو اٍذا سير فى خط مستقيم ليس له نهاية, لذلك فهو روائى أو وصفى يتجه غالبا اٍلى التأمل الأخلاقى أو المناجاة الغنائية أو السرد الانفعالى, أما قصيدة النثر لها شكل قبل كل شئ وهى وحدة مغلقة, هى دائرة أو شبه دائرة وليست خط مستقيم, هى مجموعة علائق تنظم فى شبكة ذات تقنية محددة وبناء تركيبى موحد منتظم الأجزاء ومتوازن, هى نوع مميز قائم بذاته وليست خليطا, هى شعر خاص يستخدم النثر ويتسم بالعضوية )3 .

وفى نفس العدد من مجلة شعر الذى تضمن مقال أدونيس “فى قصيدة النثر” نشر أدونيس نموذجا تطبيقيا لقصيدة النثر, وهى قصيدة “مرثية القرن الأول”, ويقول أدونيس فى المقطع الثانى من هذه القصيدة:

هاجرى يا قصائدَ يا بجعاتِ القلبِ

احملى فى مناقيرك الوطن

واتركينا نقاتلُ الريحَ

فى زغبِ النهارِ نختبئ

على سلالم الغبارِ نعلو .

نثقب أجفان القمرِ ونصيدُ أيائلَ الليلِ

لِسَيْحُونَ هذه الأفراس المحمحمة,

لخُرَسَان هذه الرماح

بيتُنا ذهبُ على سفاح هملايا ولبنان راية!

بأهدابنا لملمنا طحالبَ الأرضِ,

بعروقنا رطبنا الأزهار الهارية,

كنا نمد رئاتنا أسلاكا للشمس

نقتلُ عشيقات التمساح,

كنا نغسل النهار المًبَقّع

الحجر حرير تحت أقدامنا,

الأفق صهوة جيادنا,

ونعالها الرياح الأربع )4

يتضح في هذا المقطع شعرية قصيدة النثر التي تجسد انفعال شعري ورؤيا حلمية تتضمن منظور فلسفي بخامة النثر المغاير للنظم العروضي عبر لغة تنزاح عن المألوف في صياغتها, والاٍنفعال الشعري ليس شيئا ملموسا بل أثر يشعر به المتلقي, ويشارك الشاعر في حالته الوجدانية, القصائد بجعات مهاجرة تحمل في مناقيرها الوطن وتترك الشاعر يقاتل الرياح ويصعد على سلم من الغبار ليثقب أجفان القمر ويصطاد أيائل الليل, يبحث عن في تاريخ الوطن المهاجر, يلملم طحالب الأرض ويرطب الأزهار الهاربة بعروقه, يمد رئته أسلاكا للشمس, وفي نهاية هذا المقطع يتحول الأفق اٍلى جواد أقدامه الرياح الأربعة, يصول ويجول به الشاعر في ممالك الحزن .

وفى نفس العام 1960م نشر الشاعر اللبنانى أنسى الحاج ديوانه الأول “لن” وصَدّره بمقدمة عن قصيدة النثر, ليلحق برفيقه أدونيس فى التنظير لقصيدة النثر آنذاك لتصبح مقدمة ديوان “لن” ومقال “فى قصيدة النثر” النواة التنظيرية الأولى لقصيدة النثر والمركز الذى انطلقت منه الكتابات النقدية عن قصيدة النثر, و لم ينكر كل من أدونيس وأنسى الحاج فى تنظيرهما أنهما استرشدا بالنموذج الفرنسى لقصيدة النثر, حيث قال أنسى الحاج فى مقدمة ديوان “لن”: ( قصيدة النثر احتلت فى أدب كأدب فرنسا مكانها الطبيعى, حيث تمثل أقوى وجه لثورة الشعرية التى انفجرت منذ قرن , كتابة وتنظيرا وخاصة كتاب سوزان برنار “قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا هذه” )5, والاسترشاد بالنموذج الغربى لم يكن ذوبانا فى ثقافة الآخر, بل كان نقلا واعيا ونوعيا لشكل شعرى نشأ فى فرنسا وأصبح شكلا عالميا, غرس رواد قصيدة النثر جذوره فى ثقافتنا العربية ليصطبغ بصبغتها ويضيف للشعر العربى شكلا شعريا جديدا .

وكانت قصيدة النثر صدمة جمالية كبيرة فى الوسط الثقافى العربى الذى ربط الشعر بالوزن العروضي, ولم يكن الخلاف مع قصيدة النثر من قِبَل أنصار القصيدة العمودية فقط بل مع بعض روّاد قصيدة شعراء التفعيلة أيضا, وكان الرفض مبني في على ارتباط مصطلح قصيدة بالنظم العروضي في الأدب العربي, واستهجن المعارضون لقصيدة النثر النثر ربط مصطلح قصيدة بالنثر, ورأوا أنها نوع أدبي ينتمي للنثر وليس الشعر .

واستطاعت قصيدة النثر أن تخوض تلك المعركة لاٍثبات مشروعيتها برأسى حَرْبة الرأس, الأولى هي القصائد التي كانت تنشرها مجلة شعر لمحمد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وسركون بولس وغيرهم, ورأس الحربة الثانية هي التنظير لقصيدة النثر وتقديمها للقارئ العربى فى كتابات أدونيس وأنسى الحاج على أنها شكل شعرى جديد يبحث يمكن تبيئة في أدبنا العربي وصبغه بالروح والثقافة العربية, وأنه كما يُكتب الشعر بالوزن فهو أيضا يُكتب بالنثر, واعتبر أدونيس أن الشعر رؤيا ويميز بين الرؤيا والرؤية اٍذا يقول: ( والفرق بين رؤية الشئ بعين الحِسّ ورؤيته بعين القلب هو أن أن الرائى اٍذا نظر للشئ بالرؤية الأولى يراه ثابتا, أما الرؤيا بالرؤية الثانية فاٍذا نظر اٍليه يراه لا يستقر على حال واٍنما يتغير مظهره واٍن بقى جوهره ثابتا )6, فالرؤيا الشعرية هي حالة مشاكلة للحلم يعيشها الشاعر مُحَلّقا بأجنحة الخيال, يتجاوز السطح الخارجى للأشياء, وينفذ للعمق باحثا عن الجوهر, ويصوغ الشاعر تلك الرؤيا عبر اللغة الشعرية التى تنزاح فى تركيبها عن معيار اللغة التوصيلية, فاللغة الشعرية هى لغة الاٍيحاء والاٍيماء والتخييل والترميز, ( ورؤيا الشاعر ليست هى المحتوى أو المضمون الاجتماعى أو الدلالة الفكرية، اٍنها تنحت خصائصها من جماع التجربة الاٍنسانية التى يعيشها الشاعر فى عالمنا المعاصر بتكوينه الثقافى والسيكولجى )7 .

وقد قطعت قصيدة النثر شوطا كبيرا اٍلى أصبحت شكلا شعريا مركزيا فى الشعرية العربية منذ تسعينات القرن العشرين وخرجت من الأطر التعبيرية التى رسّخ لها رواد قصيدة النثر فى نهاية خمسينات القرن العشرين, وهى الاٍيجاز, والتوهج: الاٍشراق, والمجانية: اللازمنية باعتبارها لوازم لقصيدة النثر رصدتها سوزان برنار فى كتابها “قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا” والذى تضمّن تعريفا لقصيدة النثر بأنها ( قطعة نثر موجزة من غير اٍخلال, موحدة ومضغوطة كقطعة من بلور تتراءى فيها مائة من الانعكاسات المختلفة )8, ولم تعد قصيدة النثر مرهونة بهذه الشروط والأطر التعبيرية فاكتسبت آدوات تعبيرية جديدة كالالتحام بشكل بارز بآليات السرد والمونتاج السينمائى “التقطيع الصورى” والسينوجرافيا “المشهدية”, وارتادت قصيدة النثر مناطق شعرية جديدة منها تناول اليومى المعيش والخاص بالذات الشاعرة, وموقف الذات من العالم والآخر والتاريخ والحاضر .

(2)

اٍن الشروط الأساسية لتحقًّق شعرية قصيدة النثر هي وجود انفعال شعري يسكن كلمات اللغة, ويحوِّلها من لغة نثرية اٍلى لغة شعرية موحية رامزة تنقل للمتلقي أثر ا شعريا, والانفعال الشعري الذي يسكن اللغة هو البؤرة المركزية التي تنبثق منها شعرية الشعر بكل أشكاله, ولابد أن يمتلك الشاعر بعد الموهبة ثقافة ورؤيا ـ بالألف ـ وقدرة على التشكيل الجمالي باللغة الشعرية, وهذه الأساسية من انفعال شعي ورؤيا وقدرة على التشكيل باللغة الشعرية هي التي تجيب عن سؤال قصيدة النثر من ناحية تركيب المصطلح, الذي يجمع القصيدة والنثر في تداخل وتماهي دون استخدام فاصل أو أداة عطف بما يعني اٍمكانية تشكيل القصيدة التي تمثل جسد الشعر بخامة النثر .

والفرق بين النثر الفنى وقصيدة النثر ليس فقط فى الشكل الخطى البصرى ومساحات السواد والبياض على الورق, فقصيدة النثر فى بدايتها عند شارل بودلير وآرثر رامبو كانت تُكْتب فى شكل سطور مكتملة تملأ مساحات البياض, ثم استعارت بعد ذلك شكل السطر الشعرى من قصيدة الشعر الحُر الذى نشأ فى الثقافة الأنجلو أمريكية, والاٍختلاف الجوهرى بين قصيدة النثر التى هى شكل شعرى بامتياز وبين النثر الفنى هو أن النثر الفنى حتى واٍن كان فى بعض الأحيان به بعض الصور المجازية والرموز فهو أولا وأخير نثر أدبى ينطلق من رؤية ـ بالتاء المربوطة ـ منظور فلسفي ووجهة نظر يعالجها الناثر بمنطق فكرى ذهنى, وما يطلق عليه شعر منثور في العربية أو نثر شعري في الفرنسية ( هو نثر ليس له شكل فنى محدد, ويعتمد على الاسترسال والاستطراد فى خط مستقيم لا نهاية له, وهو نثر وصفى قائم على المناجاة والتأمل الأخلاقى )9, ومن أمثلة الشعر المنثور أو النثر الشعري العربي هذا الجزء من نص لجبران خليل جبران نشرته جريدة الهلال سنة 1912م, بعنوان “نحن وأنتم”

( نحن أبناء الكآبة وأنتم أبناء المسرات

نحن أبناء الكأبة والكأبة ظل اٍله يسكن في جوار القلوب الشريرة . نحن ذوو النفوس الحزينة والحزن كبير لا تسعه النفوس الصغيرة . نحن نبكي وننتحب أيها الضاحكون ومن يغتسل بدموعه مرة يظل نقيا اٍلى نهاية الدهور الدهور .

أنتم لا تعرفوننا أما نحن فنعرفكم . أنتم سائرون في تيار الحياة بسرعة فلا تلتفتون نحونا أما نحن فجالسون على الشاطئ نراكم ونسمعكم . أنتم لا تعون صراخا لأن ضجيج الأيام يملؤ آذانكم أما نحن فنسمع أغانيكم لأن همس الليالي قد فتّح مسامعنا . نحن نراكم لأنكم واقفون في النور المظلم . أما أنتم فلا ترونا لأننا نجلس في الظلمة المنيرة . )10 .

صاغ جبران خليل جبران هذه القطعة النثرية من منظور التأمل الفلسفي, ورغم وجود مجازات وأخيلة في هذه القطعة النثرية الاٍ أنها لا تجسِّد انفعال ورؤيا شعرية, فهي تقدم وجهة نظر وفلسفة جبران في رؤيته للغرب “أنتم” والشرق “نحن” بشكل مسترسل يقوم على التأمل الذهني والوصف والمقارنة, والمقصود من أن الشعر المنثور أو النثر الفنى ليس له شكل لا يعني الشكل الخطي فقط كما أشرت سابقا, بل يعني أيضا سمات وأدوات التشكيل الفني, فالاسترسال والاستطراد والاٍنطلاق في خط مستقيم يعتمد على الروابط اللغوية فقط دون الاٍعتماد معها على التداخل بين الجًمل سمة جوهرية من سمات النثر كجنس أدبي, أما الشعر كجنس أدبي مغاير للنثر يميل اٍلى التكثيف اللغوي والدلالي والبعد عن الاسترسال, ويعتمد على التداخل اٍلى جانب الروابط اللغوية من أدوات عطف وأسماء وموصولة وغيرها, والجدير بالاٍشارة هو أن التكثيف لا يعنى قصر المساحة النصية, بل يعنى الاٍقتصاد اللغوي وعدم وجود اٍطناب وحشو أو زيادات وتكرار غير مفيد حتى لو اتسعت المساحة النصية, والاٍيجاز هو الذي يشترط قصر المساحة النصية لأنه يعني التكثيف الشديد, والشعر كجنس أدبي مغاير للنثر تتفرع منه أشكال شعرية تجسد جوهر الشعر الاٍنفعال والعاطفة والرؤيا وسماته الشكلية الأساسية من اللغة والاٍيحاء والترميز والتكثيف, والجدير بالاٍشارة هو أن هناك تقديما لنص جبران النثري في مجلة الهلال كتبه جورجي زيدان منذ أكثر من مئة عام قال فيه: ( اطلعنا في مرآة الغرب التي تصدر في نيويورك على مقالة شعرية أو هي قصيدة منثورة للنابغة جبران خليل جبران النابغة في الشعر الفلسفي, يندر وجودها بين أشعارنا المنثورة وهي قليلة عندنا لأن أكثر شعرائنا يقيدون شعرهم بالوزن والقافية فأحببنا أن ننشرها لنبيّن للقراء أن الشاعرية تظهر في النثر كما تظهر في النظم )11, وبغض النظر عن الفروق بين قصيدة النثر والشعر المنثور فاٍن تقديم جورجي زيدان لنص جبران خليل جبران لما لمحه فيه من تراكيب لغوية ومجاز يًعدّ دعوى للمتلقي العربي لقبول كتابة الشعر بالنثر, ويمهّد لذلك قبل أن تظهر قصيدة النثر على صفحات مجلة شعر اللبنانية بعقود .

قصيدة النثر المعاصرة توظف السرد فى بنائها الفنى, والقصة القصيرة قائمة بالأساس على السرد, اٍذا هناك اشتباكا ما بينهما لدرجة أنه يمكن أن تتوقع أن يصدمك سؤالا مفاداه كيف أفرق بين القصة القصيرة وقصيدة النثر؟! , والواقع اٍن اٍمكانية حضور السرد وتوظيفه فى بنية النص الشعرى مسألة قديمة, فالسرد كخيط ناظم للمقاطع والصور الشعرية أو اٍطار يؤطر القصيدة ويجمع مقاطعها موجود بدرجات نسبية متفاوتة فى الشعر منذ القدم, فالملاحم الحكائية الكبرى كانت تصاغ شعرا مثل “الاٍلياذة والأوديسا”, وهناك قصائد عمودية أو قصائد تفعيلة استخدمت فعل السرد وكان فيها الشاعر روايا يستخدم السرد الحكائى كاٍطار جامع لفقرات النص الشعرى مثل قصيدة “شنق زهران” لصلاح عبد الصبور, وقصيدة النثر فى شعريتها الجديدة كما يقول المرحوم شريف رزق ( التحمت بآليات السرد والسينما التحاما واضحا وتحررت من أيدلوجية اللغة وشَخْصَنِيتَها وحَدَاثَنِّيتها وانحازت اٍلى آداء سردى وبصرى بسيط وشفاف )12, وحضور السرد فى قصيدة النثر وفى كل أشكال الشعر يصبغه بالشعرية فيصبح سردا شعريا وجزء من أدوات الشاعر التى تحقق الطابع الأيقونى للشعر أى قدرة المفردات والأدوات والأساليب التى يستخدمها الشاعر على استحضار صورة كلية للعالم الذى يشير اٍليه النص, فالسرد الذى أصبح أحد الأدوات البنائية المهمة فى قصيدة النثر هو سرد شعرى قائم على الاٍيحاء والاٍيماء والتكثيف وآداة لنسيج شبكة المتخيل الشعرى والربط بين مقاطع النص, بينما السرد القصصى بناء فنى لجنس أدبى سردى يقدم عالما قصصيا فى مكان ما وزمن ما تدور فيه حدث / أحداث يقوم بها شخصية / شخصيات ويقدم الراوى هذا العالم القصصى عبر الراوى الذى يتخذ منظورا معينا “راوى غائب أو راواى حاضر مشارك أو سرد بضمير المُخَاطَب” ويوهمنا بأن هذا العالم القصصى موجود بالفعل, فالقصة القصيرة فن سردى تقدم خطابا قصصيا أما قصيدة النثر فهى شكل شعرى بامتياز واٍن وظَّفَت السرد فاٍنها تستخدمه كآداة من أدواته التشكيلية وتصبغه بالشعرية ولنقدم نموذجا تطبيقيا لذلك من قصيدة “ريش الحكمة الملون” للشاعر مؤمن سمير:

بعد أن غادرتني السفينة واختفت من اللوحة

ماذا يتبقى لي؟

بعد أن غامت صورتي في أحلام أبي الميت

وفزعت أمي من ظِلِّي

ولم تمد يدها

ماذا يتبقى لي؟

بعد أن سلَّمتً أماناتي للمخفر

وقيل أنهم أخذوا عيني اليمنى

ومنحوها جَيْب القناص

وانتظروا لآخر السهرة

ثم دفنوا ساقي العجوز

جوار ضحكة قتيلة وكلبين

ماذا يتبقى لي؟

بعد أن سرق رفيقي صوتي

لما صرخت باسمك وسط الماء ..

ماذا يتبقّى لي؟

يتبقى أن أغمض

وأحبك )13

يظهر لنا في هذا النص حضور فعل السرد بشكل بارز فالشاعر رواي ذاتي يصبغ سرده بالاٍنفعال الشعري, ويدمجه بالتشخيص والتجسيد والوصف المقرون بالحركة ليوظّفه في التمثيل الدرامي لحالات وتحوّلات الذات والأشياء والظواهر في أجواء كابوسية ينهدم فيها الجدار بين الواقع والكابوس, السفينة اختفت من اللوحة, صورته غامت في أحلام أبيه, وأمه فزعت من ظله, وأخيرا سرق رفيقه صوته بعد أن نادى باسم المحبوبة, يعبر الشاعر طوال النص عن حالات الفقد الواحدة تلو الأخرى باستخدام فعل السرد, وتكرار لازمة “بعد أن ..” وسؤال “ماذا يتبقى لي؟”,وفي النهاية يفاجئنا الشاعر بأن بعد كل هذا الفقد أن هناك شئ باق عليه أن يقوم به فيقول للمحبوبة: يتبقى أن أغمض وأحبك”, فعل الحب واٍمكانية العودة اٍلى الحلم من جديد رغم كل هذا الفقد, والسرد الشعري هنا تضافر مع باقي مكونات النص من لغة واٍيحاء وتصوير وترميز لتجسد الاٍنفعال والرؤيا الشعرية, لينقل أثرا شعريا لقارئ لا لينقل له مبنى حكائي : خطاب قصصى تلعب فيه حدثية وحكائية السرد دورا مركزيا في تمثيل صورة اٍيهامية لعالم يبدو كما لو كان موجودا بالفعل يدور فيه حدث تقوم شخوص في فضاء مكاني وزمني معين .

*هذا المقال مقتطف من مخطوط كتابي “مداخل لقضايا شعرية معاصرة” ـ قيد المراجعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش والاٍحالات

1 ـ د. عزالدين المناصرة: قصيدة النثر… (كما هيَ): نصٌّ تهجينيٌّ شعريٌّ.. مفتوح عابرٌ للأنواع.. ومُستقل ـ جريدة رأى اليوم 13 ديسمبر 2015م صحيفة عريبة تصدر من لندن .

2ـ مجلة شعر العدد 11 يوليو 1959م ص 84

3ـ اٍنظر مقال “فى قصيدة النثر” مجلة شعر اللبنانية ـ بيروت العدد 14 1960م ص 80 و81

4ـ قصيدة مرثية القرن ـ مجلة شعر العدد 14 ص 34

5 ـ مقدمة ديوان “لن” لأنسى الحاج ـ المؤسسة الجامعية ـ بيروت ط2 1982م ـ ص 11

6ـ أدونيس ـ الثابت والمتحول ـ دار العودة بيروت ـ 1978م ـ الجزء الثالث ص168

7 ــ د.غالى شكرى ـ شعرنا الحديث اٍلى أين ـ دار الأفاق ـ بيروت 1978م ص 75

8ـ أنظر: “قصيدة النثر” ـ سوزان برنار ـ ترجمة زهير مغامس ـ الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 1996م ـ ص 136 و137

9ـ أنظر: محمد جمال باروت ـ الحداثة الأولى ـ الناشر : اٍتحاد كتاب وأدباء الاٍمارات ـ 1991م ص159 وما بعدها

10 ـ “موقع أرشيف الشارح للمجلات الأدبية والثقافية العربية” ـ مجلة الهلال ـ العدد الخامس ـ القاهرة أول فبراير ـ شباط 1912م 13 صفر 1330 هجرية ص 302

11 ـ نفس المصدر السابق ونفس الصفحة .

12ـ شريف رزق ـ آفاق الشعرية العربية الحديثة فى قصيدة النثر ـ دار الكفاح للنشر والتوزيع ـ المملكة العربية السعودية ـ 2015م ص 192

13 ـ مؤمن سمير ـ ديوان “أنت لا تخصني وأنا لا أخصك” ـ دار الأدهم للنشر ـ القاهرة 2024م ص28

شاعر وناقد من مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى