11 - 02 - 1946
إلى الأستاذ الفاضل محمد محمود شاكر:
سلام عليك.
وبعد
فقد قرأت مقالك في مجلة الرسالة المباركة في العدد الخاص بالعام الهجري فأعجبت به كثيراً. إلا أني دهشت في أوله من عبارتك (السلام عليكم) موجهة للأستاذ الزيات، ذلك أن القاعدة التي ذكرتها كتب اللغة لاستعمال هذه العبارة، هي أن نبتدئ في أول الكتاب بـ (سلام عليك أو عليكم بدون (أل) التعريف، ثم ننتهي بـ (والسلام عليك أو عليكم) بذكر (أل)، وتكون أل هنا نهاية العهدية، وهذا نظير قولك: (جاءني ضيف فأكرمت الضيف)، ولك يا أستاذ أن ترجع إلى كتاب أدب الكاتب لتقف على حقيقة الأمر.
وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة تشير إلى صحة قسم من القاعدة. قال تعالى: (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) وقال تعالى: (قال سلام قوم منكرون). . . الخ فالملاحظ هنا أنه لا حاجة إلى تعريف (سلام عليكم) بالألف واللام.
وقال ذو الرمة:
أمنزلتي ميٍّ سلام عليكما ... هل الأزمن اللائي مضين رواجع
وقال البحتري:
سلام عليكم لا وفاء ولا عهد ... أما لكم من هجر أحبابكم بدُّ
والواقع أن هذه غلطة شائعة في الوقت الحاضر، وما كنت أستغرب لو وجدتها عند بعض الكتاب، إلا أن ثقتي القوية بعلمك في اللغة العربية وتبحرك بها هي التي دفعتني إلى الاستغراب.
وأخيراً: أرجو التفضل بإبداء رأيك في هذا الموضوع، ففي ذلك خدمة للأدب العربي وأدبائه. والسلام عليك.
بغداد - صبحي البصام
***
* رسالة من محمود محمد شاكر إلى صبحي البصام
18 - 02 - 1946
إلى أخي البصام:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد
فقد رأيتك تستغرب هذه التحية المباركة التي يهديها الرجل إلى أخيه، واُتاك هذا الاستغراب من أن قوماً زعموا أن (القاعدة) هي أن نبتدئ الكتاب بـ (سلام عليك أو عليكم)، بدون (ال) التعريف، فإذا جاء الختام قلنا: (السلام عليك أو عليكم). . . وأن بدء الكتاب بقولنا (السلام عليكم) خطأ شائع في هذه الأيام!! الخ. واستدللت بقول الله تعالى في كتابه الكريم: (سلام عليكم طبتم. . .) وقوله سبحانه: (سلام قوم منكرون) في أكثر من ثلاثين موضعاً على وجوه مختلفة. وصدق الله الذي يقول في سورة مريم: (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) ب (ال) التعريف، وصدق الله الذي يقول في سورة طه لموسى وهرون: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى) بـ (ال) التعريف أيضا. فلا تستغرب يا سيدي!
ولا تستغرب أيها السيد الكريم إذا علمت أن أهل القبلة جميعا كانوا، ولا يزالون، وسيظلون إلى آخر الدهر، يقول الرجل منهم إذا انتهى من سجوده وقعد للتشهد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). ولا تستغرب إذا أنت قرأت في صحيح البخاري في باب (ما يتخير من الدعاء بعد التشهد ليس بواجب): (حدثنا مسدّد، قال حدثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، عن عبد الله قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا، السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء، أو بين الأرض والسماء - أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو). وكذلك في باب (التشهد في الآخرة) من صحيح البخاري
ولا تستغرب يا سيدي أيضا إذا مر بك وأنت تقرأ في مسند أحمد بن حنبل ج4 ص439 من حديث عمران بن حصين: (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد، ثم جلس فقال (يعني رسول الله): عشر. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد، ثم جلس، فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد، ثم جلس، فقال: ثلاثون). أقول: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر حسنات، وعشرين حسنة، وثلاثين حسنة. وكل ذلك ب (ال) التعريف أيضا.
ولا تستغرب يا سيدي إذا رأيت في مادة (سلم) من لسان العرب: (ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام، بحذف عليكم. ولم يرد في القرآن غالباً إلا منكراً. . فأما في تشهد الصلاة، فيقال فيه معرفاً ومنكراً. . . وكانوا يستحسنون أن يقولوا في الأول: سلام عليكم، وفي الآخر: السلام عليكم، وتكون الألف واللام للعهد، يعني السلام الأول). ومن هنا أتى من لا يحسن العربية، وقل اطلاعه على كتبها وفقهها. والاستحسان هنا منصّب على ما كان في التشهد. فإنه كما ترى، عني بالأول، ما كان في التشهد، وبالآخر السلام الذي يخرج به من الصلاة. وهذا شيء قال به بعض فقهائنا وأئمتنا استحسانا من عند أنفسهم أو مما رووا.
ولا تستغرب يا سيدي إذا وقفت يوماً على قول الأخفش: (ومن العرب من يقول: سلام عليكم، ومنهم من يقول: السلام عليكم. فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود، والذين لم يلحقوه حملوه على غير المعهود). ثم عاد فقال: (وفيهم من يقول: سلام عليكم، فلا ينوّن)؛ ثم ذكر العلة فقال: (حمل ذلك على وجهين: أحدهما حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الأصل على نحو (لم يك)؛ والآخر أنه لما كثر استعمال هذه الكلمة، وفيها الألف واللام، حذفا لكثرة الاستعمال، كما حذفا من اللهم فقالوا: لهمّ). وكأنه جعل (السلام عليكم بالتعريف هي الأصل الذي كثر استعماله).
فلا تستغرب إذا نظرت فرأيت أن الذي جاء في مقالتي ليس خطأ ولا مجاراة على خطأ. ولا تستغرب إذا أنا قلت لك: إن أدعياء اللغة إنما يؤتون من سوء التقدير لما يقرءون، ومما انطوت عليه قلوبهم من حب التعالم على الناس بشيء يدعونه ويلتمسون له الحجة، حتى ما يدرك أحدهم فرق ما بين (سلام عليك) و (سلام) و (سلاماً)، كما جاءت في كتاب الله في أكثر من ثلاثين موضعاً، وبين ما جاء في كتاب الله أيضا من قوله: (والسلام على من اتبع الهدى)، وقول رسول الله الذي تلقاه المسلمون عنه في تشهد الصلاة وفي التحية.
واعلم يا سيدي أني قنعت لك ولنفسي وللناس بالنقل مجرداً، ولم أتبعه ببيان الفروق في المعاني، وما ينبغي وما لا ينبغي، ولا تحريت لك ولا للناس أن ألج بهم موالج في دقيق العربية وغامضها تدل على أن من نقلت أنت عنه هذا القول قد تمحل وتهجم على ما لا علم به، وعلى ما لا يحسنه ولا يجيده!
فلا يغررك التبجح بالعلم، ولا تقنع من المتحذلقين بما يسمونه (القاعدة)، فلعلها باطل مزور، وكذب مختلق، واجتراء على العربية هي من سوأته براء، ولعل دليلهم يكون هو الدليل على بطلان ما يزعمون كما رأيت. وفي هذا مقنع وهدى.
والسلام عليكم ورحمة الله
محمود محمد شاكر
***
* رسالة من صبحي البصام إلى محمود محمد شاكر
11 - 03 - 1946
إلى الأستاذ محمود محمد شاكر:
سلام عليك. وبعد فقد قرأت ردك علي فاستغربته، فإنك ذكرت الآية الشريفة (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) واتخذت منها شاهدا على صحة عبارتك وعلى غلط رأيي فيها. والحق أن هذه الآية دليل على بطلان قولك ودليل على صحة قولي. ففيها عبارة (والسلام علي) معرفة بأل لأنها تشير إلى (سلام عليه) في آية قبلها هي (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا). قال الزمخشري في الكاشف عن هذه العبارة المتصلة بأل: (قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله كقولك: جاءنا رجل فكان من فعل الرجل كذا. والمعنى ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلى). وإن لم ترض بهذا أيها الأستاذ فانظر إلى تعقب الزمخشري عليه، قال: (والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً بالأصل وباللعنة على متهمي مريم وأعدائها من إليهود، وتحقيقه أن اللام للجنس فإذا قال: وجنس السلام على خاصة، فقد عرض بأن ضده عليكم. ونظيره قوله تعالى: والسلام على من اتبع الهدى، ويعني أن العذاب على من كذب وتولى).
وبديهي أيها الأستاذ انك لا تعني بقولك (السلام عليكم) في بدء كتابك الأول تعريضاً بأحد إذ لا حاجة للتعريض.
ولو أعدت النظر في تعقيب الزمخشري لوجدت رداً على شاهدك الآخر في الآية الشريفة: (فأتياه فقولا أنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى).
وبعد أن أظهرت لك الحقيقة بآيتين تناولتهما أنت من القران الكريم للرد علي، أقول:
إنك دللت على صحة عبارتك بالاستشهاد بصحيح البخاري ومسند ابن حنبل، وفاتك أن الحديث لا يستشهد به أهل اللغة والنحو لان كثيراً منه مروي بالمعنى وفي خزانة الأدب للبغدادي أقوال للعلماء كثيرة تؤيد ذلك. قال السيوطي: (فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها فرووها بما أدت إليه عبارتهم فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظا بألفاظ - ج1ص6).
وقال سفيان الثوري وهو أحد رواة الحديث المعول عليهم (إن قلت لكم إني أحدثكم كم سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى ج1ص6). وجاء في الكتاب نفسه لأبي حيان يفيد أن أئمة البصريين والكوفيين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء وغيرهم لم يستشهدوا بالحديث، وعلل ذلك بما تقدم من العلل.
وأظنك الآن أيها الأستاذ توافقني على إغلاق باب الاستشهاد بالحديث.
أما أهل القبلة فتشهدهم بعد الصلاة مختلف فيه فمنهم من يقول (سلام عليك. . . . .) ومنهم من يقول (السلام عليك. . .) وحبذا لو أطلعتني على نص يوثق به يشير إلى انهم منذ زمن الرسول (ص) يقولون في التشهد (السلام عليك أيها النبي.).
وأما الأخفش الذي اتخذت منه حجة لقولك فلا يعتمد به لأنك لم تذكر المصدر الذي نقلت عنه.
وحسبك أيها الأستاذ أن تجد القاعدة مختصرة في هذا البيت القديم:
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
والحق انه لم يكن ينبغي لي أن آتيك بشواهد من آي الذكر الحكيم أو الشعر لأني لست بصدد ذلك.
والمسألة هي أن العرف الجاري بين الكتاب القدامى أن يبدءوا كتبهم بـ (سلام عليك أو عليكم) ويختموها بـ (السلام عليك أو عليكم). وحسبي أن اثبت كلام أبن قتيبة الذي تحاملت عليه في ردك عليَّ، قال: (وتكتب في صدر الكتاب: سلام عليك وفي آخره: السلام عليك، لأن الشيء إذا بدء بذكره كان نكرة فإذا أعدته صار معرفة. وكذا كل شيء نكرة حتى يعرف بما عرف، تقول: مر بنا رجل. ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع. وتقول: رأيته قد رجع. فكذلك لما صرت إلى آخر الكتاب وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته انه ذلك السلام المتقدم - أدب الكاتب ص 254).
وحسبي أن أعزز قول ابن قتيبة بالأدلة، فتفضل بالاطلاع على قسم من الكتب للعصر الإسلامي.
كتب الرسول (ص) إلى المقوقس ما يأتي:
(من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. . . الخ - فتوح مصر لابن عبد الحكم ص42، والطبري ج3 ص287).
وكتب الرسول (ص) إلى كسرى فارس:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله. الخ صبح الأعشى ص276) وكتب أبو بكر (ر) للمرتدين:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا عامة أو خاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى. . الخ. . الطبري ج3 ص276)
ومعلوم أن هذه الكتب مدونة ويستشهد بها اللغويون والنحاة. .
واعلم يا سيدي أني - كما تقول - (قنعت لك ولنفسي وللناس بالنقل مجردا. . .) والسلام عليك.
بغداد
صبحي البصام
إلى الأستاذ الفاضل محمد محمود شاكر:
سلام عليك.
وبعد
فقد قرأت مقالك في مجلة الرسالة المباركة في العدد الخاص بالعام الهجري فأعجبت به كثيراً. إلا أني دهشت في أوله من عبارتك (السلام عليكم) موجهة للأستاذ الزيات، ذلك أن القاعدة التي ذكرتها كتب اللغة لاستعمال هذه العبارة، هي أن نبتدئ في أول الكتاب بـ (سلام عليك أو عليكم بدون (أل) التعريف، ثم ننتهي بـ (والسلام عليك أو عليكم) بذكر (أل)، وتكون أل هنا نهاية العهدية، وهذا نظير قولك: (جاءني ضيف فأكرمت الضيف)، ولك يا أستاذ أن ترجع إلى كتاب أدب الكاتب لتقف على حقيقة الأمر.
وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة تشير إلى صحة قسم من القاعدة. قال تعالى: (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) وقال تعالى: (قال سلام قوم منكرون). . . الخ فالملاحظ هنا أنه لا حاجة إلى تعريف (سلام عليكم) بالألف واللام.
وقال ذو الرمة:
أمنزلتي ميٍّ سلام عليكما ... هل الأزمن اللائي مضين رواجع
وقال البحتري:
سلام عليكم لا وفاء ولا عهد ... أما لكم من هجر أحبابكم بدُّ
والواقع أن هذه غلطة شائعة في الوقت الحاضر، وما كنت أستغرب لو وجدتها عند بعض الكتاب، إلا أن ثقتي القوية بعلمك في اللغة العربية وتبحرك بها هي التي دفعتني إلى الاستغراب.
وأخيراً: أرجو التفضل بإبداء رأيك في هذا الموضوع، ففي ذلك خدمة للأدب العربي وأدبائه. والسلام عليك.
بغداد - صبحي البصام
***
* رسالة من محمود محمد شاكر إلى صبحي البصام
18 - 02 - 1946
إلى أخي البصام:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد
فقد رأيتك تستغرب هذه التحية المباركة التي يهديها الرجل إلى أخيه، واُتاك هذا الاستغراب من أن قوماً زعموا أن (القاعدة) هي أن نبتدئ الكتاب بـ (سلام عليك أو عليكم)، بدون (ال) التعريف، فإذا جاء الختام قلنا: (السلام عليك أو عليكم). . . وأن بدء الكتاب بقولنا (السلام عليكم) خطأ شائع في هذه الأيام!! الخ. واستدللت بقول الله تعالى في كتابه الكريم: (سلام عليكم طبتم. . .) وقوله سبحانه: (سلام قوم منكرون) في أكثر من ثلاثين موضعاً على وجوه مختلفة. وصدق الله الذي يقول في سورة مريم: (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) ب (ال) التعريف، وصدق الله الذي يقول في سورة طه لموسى وهرون: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى) بـ (ال) التعريف أيضا. فلا تستغرب يا سيدي!
ولا تستغرب أيها السيد الكريم إذا علمت أن أهل القبلة جميعا كانوا، ولا يزالون، وسيظلون إلى آخر الدهر، يقول الرجل منهم إذا انتهى من سجوده وقعد للتشهد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). ولا تستغرب إذا أنت قرأت في صحيح البخاري في باب (ما يتخير من الدعاء بعد التشهد ليس بواجب): (حدثنا مسدّد، قال حدثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، عن عبد الله قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا، السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء، أو بين الأرض والسماء - أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو). وكذلك في باب (التشهد في الآخرة) من صحيح البخاري
ولا تستغرب يا سيدي أيضا إذا مر بك وأنت تقرأ في مسند أحمد بن حنبل ج4 ص439 من حديث عمران بن حصين: (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد، ثم جلس فقال (يعني رسول الله): عشر. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد، ثم جلس، فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد، ثم جلس، فقال: ثلاثون). أقول: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر حسنات، وعشرين حسنة، وثلاثين حسنة. وكل ذلك ب (ال) التعريف أيضا.
ولا تستغرب يا سيدي إذا رأيت في مادة (سلم) من لسان العرب: (ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام، بحذف عليكم. ولم يرد في القرآن غالباً إلا منكراً. . فأما في تشهد الصلاة، فيقال فيه معرفاً ومنكراً. . . وكانوا يستحسنون أن يقولوا في الأول: سلام عليكم، وفي الآخر: السلام عليكم، وتكون الألف واللام للعهد، يعني السلام الأول). ومن هنا أتى من لا يحسن العربية، وقل اطلاعه على كتبها وفقهها. والاستحسان هنا منصّب على ما كان في التشهد. فإنه كما ترى، عني بالأول، ما كان في التشهد، وبالآخر السلام الذي يخرج به من الصلاة. وهذا شيء قال به بعض فقهائنا وأئمتنا استحسانا من عند أنفسهم أو مما رووا.
ولا تستغرب يا سيدي إذا وقفت يوماً على قول الأخفش: (ومن العرب من يقول: سلام عليكم، ومنهم من يقول: السلام عليكم. فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود، والذين لم يلحقوه حملوه على غير المعهود). ثم عاد فقال: (وفيهم من يقول: سلام عليكم، فلا ينوّن)؛ ثم ذكر العلة فقال: (حمل ذلك على وجهين: أحدهما حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الأصل على نحو (لم يك)؛ والآخر أنه لما كثر استعمال هذه الكلمة، وفيها الألف واللام، حذفا لكثرة الاستعمال، كما حذفا من اللهم فقالوا: لهمّ). وكأنه جعل (السلام عليكم بالتعريف هي الأصل الذي كثر استعماله).
فلا تستغرب إذا نظرت فرأيت أن الذي جاء في مقالتي ليس خطأ ولا مجاراة على خطأ. ولا تستغرب إذا أنا قلت لك: إن أدعياء اللغة إنما يؤتون من سوء التقدير لما يقرءون، ومما انطوت عليه قلوبهم من حب التعالم على الناس بشيء يدعونه ويلتمسون له الحجة، حتى ما يدرك أحدهم فرق ما بين (سلام عليك) و (سلام) و (سلاماً)، كما جاءت في كتاب الله في أكثر من ثلاثين موضعاً، وبين ما جاء في كتاب الله أيضا من قوله: (والسلام على من اتبع الهدى)، وقول رسول الله الذي تلقاه المسلمون عنه في تشهد الصلاة وفي التحية.
واعلم يا سيدي أني قنعت لك ولنفسي وللناس بالنقل مجرداً، ولم أتبعه ببيان الفروق في المعاني، وما ينبغي وما لا ينبغي، ولا تحريت لك ولا للناس أن ألج بهم موالج في دقيق العربية وغامضها تدل على أن من نقلت أنت عنه هذا القول قد تمحل وتهجم على ما لا علم به، وعلى ما لا يحسنه ولا يجيده!
فلا يغررك التبجح بالعلم، ولا تقنع من المتحذلقين بما يسمونه (القاعدة)، فلعلها باطل مزور، وكذب مختلق، واجتراء على العربية هي من سوأته براء، ولعل دليلهم يكون هو الدليل على بطلان ما يزعمون كما رأيت. وفي هذا مقنع وهدى.
والسلام عليكم ورحمة الله
محمود محمد شاكر
***
* رسالة من صبحي البصام إلى محمود محمد شاكر
11 - 03 - 1946
إلى الأستاذ محمود محمد شاكر:
سلام عليك. وبعد فقد قرأت ردك علي فاستغربته، فإنك ذكرت الآية الشريفة (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) واتخذت منها شاهدا على صحة عبارتك وعلى غلط رأيي فيها. والحق أن هذه الآية دليل على بطلان قولك ودليل على صحة قولي. ففيها عبارة (والسلام علي) معرفة بأل لأنها تشير إلى (سلام عليه) في آية قبلها هي (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا). قال الزمخشري في الكاشف عن هذه العبارة المتصلة بأل: (قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله كقولك: جاءنا رجل فكان من فعل الرجل كذا. والمعنى ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلى). وإن لم ترض بهذا أيها الأستاذ فانظر إلى تعقب الزمخشري عليه، قال: (والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً بالأصل وباللعنة على متهمي مريم وأعدائها من إليهود، وتحقيقه أن اللام للجنس فإذا قال: وجنس السلام على خاصة، فقد عرض بأن ضده عليكم. ونظيره قوله تعالى: والسلام على من اتبع الهدى، ويعني أن العذاب على من كذب وتولى).
وبديهي أيها الأستاذ انك لا تعني بقولك (السلام عليكم) في بدء كتابك الأول تعريضاً بأحد إذ لا حاجة للتعريض.
ولو أعدت النظر في تعقيب الزمخشري لوجدت رداً على شاهدك الآخر في الآية الشريفة: (فأتياه فقولا أنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى).
وبعد أن أظهرت لك الحقيقة بآيتين تناولتهما أنت من القران الكريم للرد علي، أقول:
إنك دللت على صحة عبارتك بالاستشهاد بصحيح البخاري ومسند ابن حنبل، وفاتك أن الحديث لا يستشهد به أهل اللغة والنحو لان كثيراً منه مروي بالمعنى وفي خزانة الأدب للبغدادي أقوال للعلماء كثيرة تؤيد ذلك. قال السيوطي: (فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها فرووها بما أدت إليه عبارتهم فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظا بألفاظ - ج1ص6).
وقال سفيان الثوري وهو أحد رواة الحديث المعول عليهم (إن قلت لكم إني أحدثكم كم سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى ج1ص6). وجاء في الكتاب نفسه لأبي حيان يفيد أن أئمة البصريين والكوفيين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء وغيرهم لم يستشهدوا بالحديث، وعلل ذلك بما تقدم من العلل.
وأظنك الآن أيها الأستاذ توافقني على إغلاق باب الاستشهاد بالحديث.
أما أهل القبلة فتشهدهم بعد الصلاة مختلف فيه فمنهم من يقول (سلام عليك. . . . .) ومنهم من يقول (السلام عليك. . .) وحبذا لو أطلعتني على نص يوثق به يشير إلى انهم منذ زمن الرسول (ص) يقولون في التشهد (السلام عليك أيها النبي.).
وأما الأخفش الذي اتخذت منه حجة لقولك فلا يعتمد به لأنك لم تذكر المصدر الذي نقلت عنه.
وحسبك أيها الأستاذ أن تجد القاعدة مختصرة في هذا البيت القديم:
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
والحق انه لم يكن ينبغي لي أن آتيك بشواهد من آي الذكر الحكيم أو الشعر لأني لست بصدد ذلك.
والمسألة هي أن العرف الجاري بين الكتاب القدامى أن يبدءوا كتبهم بـ (سلام عليك أو عليكم) ويختموها بـ (السلام عليك أو عليكم). وحسبي أن اثبت كلام أبن قتيبة الذي تحاملت عليه في ردك عليَّ، قال: (وتكتب في صدر الكتاب: سلام عليك وفي آخره: السلام عليك، لأن الشيء إذا بدء بذكره كان نكرة فإذا أعدته صار معرفة. وكذا كل شيء نكرة حتى يعرف بما عرف، تقول: مر بنا رجل. ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع. وتقول: رأيته قد رجع. فكذلك لما صرت إلى آخر الكتاب وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته انه ذلك السلام المتقدم - أدب الكاتب ص 254).
وحسبي أن أعزز قول ابن قتيبة بالأدلة، فتفضل بالاطلاع على قسم من الكتب للعصر الإسلامي.
كتب الرسول (ص) إلى المقوقس ما يأتي:
(من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. . . الخ - فتوح مصر لابن عبد الحكم ص42، والطبري ج3 ص287).
وكتب الرسول (ص) إلى كسرى فارس:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله. الخ صبح الأعشى ص276) وكتب أبو بكر (ر) للمرتدين:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا عامة أو خاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى. . الخ. . الطبري ج3 ص276)
ومعلوم أن هذه الكتب مدونة ويستشهد بها اللغويون والنحاة. .
واعلم يا سيدي أني - كما تقول - (قنعت لك ولنفسي وللناس بالنقل مجردا. . .) والسلام عليك.
بغداد
صبحي البصام