رسائل الادباء : رسالة من عزت عثمان إلى الأستاذ علي الطنطاوي

18 - 03 - 1946

إلى فضيلة الأستاذ الطنطاوي:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قدمت - أعزك الله - في معرض حديثك عن حرية الكتابة، مثالين اعتمدتهما سناداً لما رويته عما يرتكب في هذا الزمن من خطيئات، وما ينشر من مفاسد وإهانات، تسئ إلى أرباب العلم والأدب، فيكون نشرها جرماً بالنسبة إلى المجتمع العلمي والأدبي، كما يكون السكوت عن مثل هذه الافتراءات، وترك أصحابها يسرحون ويمرحون كمل يحلو لهم جرماً أشد وقعاً على ذلك المجتمع، وقد كان أول المثلين عن كتاب أو ديوان. . . (قالت لي السمراء)، الذي أر فيما قلته عنه إلا الحق الصراج، والنقد المباح الذي لا يترك في نفس المطالع حقداً ولا تميزاً، وإنما هو الإقناع مأتي من أحسن نقاطه، لكل من تهمه الأخلاق، ويهمه أن يكون الدين أو المجتمع مبنياً على ركيزها.

وأما المثل الثاني، فكان عن كتاب يدرس في الصف المنتهي للمدارس الثانوية، هو: (مختصر في تاريخ الحضارة العربية).

وهنا أيضاً لا أرى مانعاً من نقده بما حواه من تخليطات يكفر بمثلها المؤمن، وغلطات علمية لا تغتفر، يجب أن يحاسب المؤلف عليها حساباً عسيراً، وإنما الذي راعني وراع كثيرين غيري ممن يحفظون لكم كبير المقام، ويرمقونكم بنظرات الإكبار أن تأخذوا على المسيحي، أو غير المسلم، تدريس علم التاريخ، والعلوم كما يراها كل الناس، مشاع لا يجوز أن يحتكرها المسلم أو غيره، وليس عجيباً أبداً أن يدرس هذا العلم المسيحي ما دام يقوم بتأدية قسطه العلمي على أتمه، ويؤدي واجب هذا الفرع من العلم بما يرضي الله عباده العالمين الراسخين بذلك العلم.

لقد قلت - حفظك الله - قبل الآن: (أفسمعت بأعجب من تدريس الخواجة ميشيل والخواجة توما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر؟)، وما يمنع - يا سيدي - الخواجة ميشيل من ذلك إذا رأيناه عند تدريس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، متحمساً لها، متعمقاً بدراستها، لا يترك كبيرة أو صغيرة، ولا شاردة أو واردة من تلك السيرة إلا أتى عليها، ولا مصدراً إلا كشف عنه وبين محاسنه ومساوئه؟ وما الفرق بين عدنان وغسان، أو (نظيم) و (ميشيل) أو سواهم، والكل درس في فرنسة، وتلقى علمه وأدبه ونال شهادته التي هو موظف بموجبها، ويتقاضى راتباً بموجب درجتها، من تلك البلاد الأجنبية؟ ليس من فرق بين هذا وذاك، سوى أن الأول رجع إلينا بمذهب شيوعي وزوجة فرنسية. . . ولم يرجع الأخر وهو أحرى بذلك - إلا بعلمه.

إن معظم هؤلاء المعلمين يا صاحب الفضيلة، ملحدون، ولأمور دينهم ودنياهم لا يفقهون، وعن طريقها القويم ضالون، وما أنت - أيها الأستاذ - بغريب عن كل ذلك، وما المشادة التي حصلت بينك وبين بعضهم في زمن ليس بالبعيد، وكانت السبب الأول في تركك التعليم في المدارس الثانوية، وتوجهك وجهة القضاء الشرعي، إلا من أدعم البراهين لما أقول.

أنا أول من يقول بإبعاد من لم يكن كفئاً للتدريس عن مسارح التعليم، كائناً ما كان دينه، وأول من يؤيد فكرة القيام بفحص عام لهؤلاء الذين يحملون شهادات الجامعات الفرنسية، وبينهم من يحمل الدكتوراه في الأدب العربي، وكانت أطروحته عن أحد الخلفاء الراشدين، والمجاز في علم الجغرافيا، ولا يعلم حدود بلاده على التحقيق! ويقول أثناء إلقاء دروسه: (هؤلاء الجبال يمتدون مرتفعين) وإذا كنت كذلك فلا أراني معارضاً إبقاء من هو أهل للتعليم من هؤلاء - وهم كثرة أيضاً - في مركزه.

وأخيراً، أرجو أن لا أكون أغضبت فضيلة الأستاذ، بما أقدمت على لفت نظره إليه، وهو الواسع الصدر؛ وما دفعني إلى ذلك إلا حبي لصراحته وأسلوبه النقدي أولاً، ثم لأدفع عنه تهمة أحب البعض ممن يدعون التجدد من الشباب إلصاقها به، وهو بعيد عنها، حيث قالوا: إن فضيلة من (المتعصبين) أو ممن يدعوهم مركزهم الديني ووظيفتهم الشرعية إلى مثل هذا الكلام في صدد بعض المعلمين المسيحيين، وأنا أول من يشهد بأن الأستاذ - وهو الجرئ في كلشيء - لم يقصد بما قال إلا وجه الحقيقة والدين والأخلاق، وهو عما ينعتونه بعيد، ومما يلصقونه براء

وعلى كل حال فالرأي له، وهو أجدر بالرد على هؤلاء، بما عرف به من لسان فصيح، ونطق بليغ، وحجة قوية؛ بشرط أن يميز بين هؤلاء وأولئك ممن عنيتهم في صدر كلمتي هذه، والسلام.

دمشق

عزت عثمان

مجاز في الأدب والفلسفة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى