أنس الرشيد - رسالة إلى كاتبٍ بين ثلوجِ سيبيريا

عزيزي سالم،

كيف أنتَ، وكيف كُنت، وكيفَ شربتَ الزمنَ كما تَشربُ القهوةَ المُرَّةَ المستطابة؟

أخيرًا يا صديقي الحبيب اخترتَ منفاكَ، هُناكَ في أقصى الأرض؛ حيث تتجمّد اللغةُ قبل أن تُقال.

إني أراك الآن وقد جلستَ في كُوخٍ صغيرٍ بين ثُلوجِ سيبيريا، لا هاربًا من العالم، بل عائدًا إليه. ويا لَلمُفارقة التي كُنتَ تُدوزن عودكَ الرنَّان عليها (تهرب لتعود)، فَمِن أيِّ أبوابِ البياضِ عُدتَّ، ومِن أيّ مفاتيحها السُود اقتلعتَ تاريخَ المَرضِ وهربتَ؟
ها أنا أرى البَيَاضَ الفارغ الذي يُحيط بك امتلاءً يفيضُ بالمعنى المكتمل، المعنى الذي لم يُكتَب بَعد، فكُلّ نُدفة ثلجٍ مفردةٌ تنتظرك، وكلُ صمتٍ طويل جملةٌ لم تجد قارئها بعد.

أراك هناك بلا مكانٍ يؤَوِلك، لكنّك تُؤوّل الجغرافيا كسيميائيٍّ عتيق: (تتتبع آثارَ أقدامِ الأرواحِ في الثَّلجِ، وتُحاوِر الدخانَ الخَارج من مدفأتك كما يُحاور الكاتبُ ظلالَ فكرته الأولى). زمنُكَ لا يجري، بل ينكمش في لحظةٍ واحدة: (لحظة الدهشةِ) لحظة ذروةٍ يتّحد فيها الجمالُ والمعرفةُ، لتصير الكتابةُ فعلًا لا يُنتج المعنى، بل يُكشَف فيه المعنى كما يُكشَف اللهُ لصوفيٍّ راقص.

أتخيّلك هناك، تُراقِبُ الثُلوجَ التي تتساقَط كحروفٍ لا تقولُ إلَّا ما لا تستطيع قولَه، كما أخبرتني ذاتَ يومٍ، أو كحروفٍ نقشها الإله لكَ لتعيش الدهشةَ الكتابيّة التي قلتَ لي يومًا إنَّها سُؤالُ الوجودِ الأوَّل، والمسؤوليةُ الكُبرى أمامَ المُتلقّي.
كأنّي بكَ الآنَ تضحك، لأنَّ اللهَ وهو ينقُشُ بالثَّلجِ دهشةَ الكتابةِ فقد وقَّع عنك، وأدهشك، ثم أَمَرَكَ أن تُدهش القارئَ معك. كأنَّ الثلج وهو ينحرف إليكَ من كُلِّ اتجاهات سيبيريا يقنعك أنك مكتوب به، لا كاتب، مفعول به لا فاعل، لكنَّ الثَّلجَ، كُلَّ الثَّلجِ يعلم أنَّك مُؤسِسٌ حَقيقيٌ لفلسفةِ الفاعليةِ، تلك الفلسفةُ التي تبدأ من المَنسيِّ في جَوفِ الأنوثة، وتَمرّ بالتاريخِ هازئةً بأصواتِ الحيوانات المفترسة التي تحيط بكوخكِ المضيء في ظلام المستقبل. تَسمعُ الأصواتَ المُفترسةَ وتبتسم؛ لأنَّك تكتبُ الآن، ومن كانَ يَكتبُ كما تكتب فإنَّه يُربي النَّصَّ ويُسقيه الدهشةَ الأنثوية حتى يكبر ويشب عن الطوق فيعي ذاته. ألم تقل ذات يوم يا من أنتَ أنا: الكتابة مشروع يمتد حتى تعي الكتابة ذاتها؟

هل حققت ما كنت تتمناه؟ أم خذلتك بناتُ الكتابةِ وهي تُؤنث فحولَ ألفاظِ الطريق الطويل؟ هل مَلَّت البناتُ كوخَك السيبيري؟ هل امتزج الجَمالُ والمعرفةُ في كوخِكَ كما امتزج رُضَابك برضابِ الأنوثة؟

صديقي سالم،

أنتَ فيلسوفُ العزلةِ والوحدةِ والاجتماع واللُحْمَةِ في آنٍ واحد، فأَدْهِش النَّصَ وأدْهِش القارئَ وأدهش ذاتَك، وافتح أبوابَ الدفءِ الذي جاء من رحمِ الوجودِ ليُعانِق شتاءَ سيبيريا، ثم اترك الوجودَ الأنثويَّ يَعي ذاتَه بنفسِه، وتَجهّز لموتك المُشتهى.
لا تُؤخِر موتَك بعد هذه اللحظة بانتظارِ طَارقٍ عابرٍ أخطأ الطَّريقَ وانحرَفَ نحو الكُوخ ليقرأ النَّصَ ويُكمِلُ به دهشةً عالقةً في الشتاء القارس، فالدهشةُ والكتابةُ ستتّحدان من ذاتهما، بعد حَربٍ باردة.

فنم في مرقدك الأخير قرير العين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى