أنس الرشيد - جحا في ضيافة فتغنشتاين

هل يعرف أحدٌ مَن هو جُحَا؟ أوليٌّ من أولياء الله ومن تابعي صحابةِ رسول الله كما قال القُطب الشَّعراني؟ أم شخصية وهميّة من اختراعِ الجاحظ كعادته البديعة؟ أو هو رجلٌ صعلوكٌ مجنون اسمه دجين بن ثابت الفزاري -عاش في مطلع العصر العباسي- حُوِّلت أفعالُه الحمقاء إلى طرائف تُروى؟ أم هو على النَّقيضِ رجلٌ متأنّق لمَّاح مِن أعقل الناس كما يقول عَبَّاد بن حبيب؟ أم هو رجل روميّ اسمه خوجة نصر الدين الذي سُئل متى تقوم القيامةُ فقال "بموتي تقوم"؟ أم أنَّ التُرك -كما يُقال- أدخلوا في حكايات جُحا التُركي نوادرَ من جحا العَربيّ فيكون جحا بهويّتين هوية عربية وهوية رومية؟

ليس سؤال "من جحا؟" عبثًا؛ لأنَّ معرفةَ حقيقة الشَّخصية ستتعلق بها أفعالٌ كثيرة تجاهها وتجاه الأشياء المتعلقة بها وبغيرها من صنائع التَّاريخ. وبسبب هذا الالتباس في معرفةِ جُحا رأينا من يُلغي وجودَه الواقعيّ، ويُحوّله إلى رمز شعبي، أو بنية خطابية، لأنَّ الجهلَ بحقيقةِ الشَّخصيةِ تكذيبٌ لوجودها على صورةٍ ما، ولكنَّ هذه المقالة ترى جحا شخصيةً حضرت في واقعِ التَّاريخِ فعلًا، وكان هدفها -كغيرها من لاعبي الحياة- البحث عن الحقيقة، لكنَّ الفرقَ أنَّ جحا كان يبحث عنها بألسنةِ الآخرين، وحقيقةِ كلٍّ منهم. بعبارة موجزة: جحا لا يبحث عن الحقيقةِ المجردة كأولئك الذين اهتمَّوا بسؤال مَن جحا؟، بل يبحث عن (طريقِ اللسان) نحو الحقيقة؛ فهل رأينا جحا -في حكاياته- يسأل: ما معنى كذا؟ أم يعيش المعنى مباشرةً، ويُخرجه لنا بالأفعالِ الضاحكة؟ كلنا نرى جحا صاحبَ أفعال، ولا نستطيع أن نُواجهه إلا على طريقةِ الفيلسوف الألماني فتغنشتاين عندما قال: "اسأل عن الاستخدام لا عن الجوهر"

روى أحدُ تلاميذِ الجَاحظ أنَّ جحا نَزلَ إلى باحةِ السُّوقِ وصَرخ: "السَّماء سوداء"، فرفع الجميع رؤوسَهم لينظروا إلى السَّماء، ثم تنبَّهوا إلى أنَّهم استجابوا لقولِ هذا الأحمق، إلا أنَّ عبَّادًا بن حبيب -الرجل الذي يُجِلُّ جحا ويُقدّر عقلَه- قال لأهلِ السُّوق "قول جحا (السماء سوداء) قول صِدق، فأين الحمق فيما قال؟". لكنَّ الحكاية لا تنتهي هنا، بل إنَّ جحا اختفى قليلًا ثم عاد إلى الباحةِ وقال مرة أخرى: "السماء سوداء"، فشعر عبَّاد بن حبيب بالحرج وقال: "ما الجديد يا جحا؟ كلنا عرفنا أنَّ السَّماءَ سوداء"، فقال جحا: "ولكن إذا كانت السماء سوداء فماذا أنتم فاعلون؟ هذا هو الجديد". لم يفعل أهلُ السُوق إلا أن ضحكوا وكبّروا أربعًا على عقل جحا.

هذه حكايةٌ تتّسق مع نوادر جحا التي تَظهر لنا أنَّها حمقاء بلا معنى؛ لأنَّها تهدف لجلبِ المعنى من ألسنةِ الناس وتفكّرهم في الحياة، وليس من الحكمةِ المباشرة التي ارتضتها العقول لأنها اعتادت الحياة. وكأنَّ مساعدة الناس على التفكر وجلب المعنى هو نوع من الحماقة في أذهانهم؛ فكون السَّماء سوداء لا تحتاج إلى أن يصرخ أحدهم: "السَّماء سوداء" إلا إذا كانَ لا يعرف ما معنى أن تكون السَّماء سوداء؟ أو أنَّه لأولِ مرةٍ يتعرّف على اللَّونِ الأسود ورآه متمثّلًا في السَّماء، لكنَّ السِرَّ في حكايةِ جحا يكمن في إضافته الأخيرة "إذا كانت السَّماء سوداء فماذا أنتم فاعلون؟" لأنَّ جحا استعمل جملةَ (السَّماء سوداء) في لحظةٍ تتجهّز فيها السَّماء لإنزال مائها، ولم يكن هدفه أن يقول لأهلِ السُّوق "طابقوا بين كلامي وحقيقة لون السماء" وهذه الفجوة بين سلوك جحا المعنوي وما يُريده أهلُ السوق من معاني الألفاظ هو مصدر الاختلاف حول "مَن جحا"؟ أعاقلٌ هو أم أحمق؟ أحقيقي أم خيالي؟ أوَليٌّ أم فاجر؟ وسنلاحظ أنَّ ردودَ الأفعالِ تجاه حماقات جحا متوقفةٌ على كيف يُنظر إلى حقيقة جحا في أذهان المتلقين، فحين يُقال -كالقطب الشعراني- إنه ولي من أولياء الله، فستكون الحكايةُ ليست مجرد سرد لواقعة، بل متعلقة باختيار اللغة المناسبة، كأن يكون جحا رأى شيئًا في السماء لا يراه إلا أهل الكرامات، وحين يُجعل جحا أعجميًا روميًا فستنحدر اللغةُ إلى أوصافٍ تُقلّل من فعله وسلوكه، باعتبار أنَّه لا يُدرك أبعادَ اللغةِ المنطوقة، وحين يكون أحمق صعلوكًا فستكون اللغةُ دليلًا على غبائه المستفحل، وحين يُجعل شخصيةً خياليةً فلا تثريبَ على مَن صنعَ لغةً تعبثُ بتاريخِ جحا وسلالته.

مع جحا الواقعيّ لم نَعد أمامَ لغةٍ تصف العالم، بل لغة تتشكَّل من الحياةِ اليومية، وتظهر في الأفعال والسياقات التي نعيشها، فحين ماتَ صديقٌ لجحا، سار خلف جنازته وهو يصرخ: "مَن لي برجلٍ يحلف عني إذا كذبت، ومَن لي إذا تُبت حثّني على المعاصي، ومن لي إذا أفلست اشترى لي الخمر" لا يمكن لجحا أن يُنشئ هذه العبارات المضحكة إلا في موقف مناقضٍ لها، موقف الموت في مقابل الحياة، ولا يمكنه أن ينشئها إلا في سياق حياة عاشها مع صديقٍ يُخالفه في المعتقد ويوافقه في السلوك.



التفاتة:

استضافَ فتغنشتاين جحا ثلاثَ ليالٍ، وتَسامر معه على شَايٍ تَقلَّب ثلاثَ مراتٍ على نار هادئة، واندهشَ من تَقلّبه على جمر الحقيقة وتكيفه على ظروفها، ولما قال جحا بعد لحظةِ صمتٍ: "أنا أحبك يا فتغنشتاين"، فزَّ فتغنشتاين من مكانه كمن لدغته أفعى. ولا أدري لماذا فز الفيلسوف، ربما لأنَّ هذه الكلمة لا تعني إلا تعبيرًا والتزامًا وكشفًا لحقيقةٍ آنيةٍ أو سترًا لغيرها، أو لأنَّه لحظَ أنَّ جحا استخدم هذه الكلمة بعد أن فرغَ شايُه وطلبَ المزيد، أو ربما لأنَّه قال له الحقيقة وخدعه في آنٍ واحد، أو ربما لأنَّه أحسَّ أنَّ جحا أراد أن يكون مثالًا للَّعِبِ مع الحقيقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى