اعتصر قميصه ونفضه في الهواء; فتطاير الرذاذ على وجهي; فادرته نحو الشط. بصق في وجه البحر وقال.
- ألديك خطة؟.
- خطة؟!
- نعم. خطة لحياتك الجديدة. بعد أفلحت في عبور البحر.
أي أحمق هذا؟ تساءلت في سري. التفت ناحيته وبصقت على حياتي السابقة التي كانت في الجانب الآخر من الشط; فأكتشفت أني بصقت على وجه البحر. اذن هو أجاب على ذات السؤال في سره; وتوصل لنفس الاجابة. كلانا لا قيمة لحياته السابقة بالضفة الآخرى. كما ليس لدينا خطة واضحة للحياة في هذه المدينة التي تبرق أنوارها من بعيد.
وهل من يركب البحر بهذه الطريقة الخطرة يكون لديه خطة لحياته؟. وهل تعني حياته شيئا ليضع لها الخطط؟
جبنت أن أقول له أنني عبرت البحر بتلك الطريقة المميتة لأعيش. ربما كان هو مثلي ينشد العيش عبر خوض المغامرات الخطرة.
كلانا يطلب الحياة من رحم الموت. كم كنا مغفلين.
سألته و أنا أنفض الرمل وبقايا زبد كانت ملتصقة بسروالي.
- أتعتقد أنه نجا؟
- من؟
- الرجل الكهل الذي كان جالسا بجوارنا.
وصفته أكثر.
- الرجل الاصلع. الذي كان متقرفصا عند الزاوية.
- أها. تذكرته. لا أعلم. ولكنه كان مرعوبا. وجهه ذكرني بالموت; فادرت بصري عنه. ولكن قل لي لم كل هذا الاهتمام برجل مثله؟ أراهن على أنه ركب معنا ليموت منتحرا.
- ولا شيء. ولا شيء يا صديقي; فقط أسأل.
جلت ببصري في المكان. الظلام دامس تجاه البحر. البحر ساكن سكون الأموات. لا تقل أنه الذي كان قبل قليل يرغي ويزبد و يهدر ثم يسكن سكون عجيب. أيكون يثمل مثل أبي؟. أبي كان يعود من الحانة ثملا يضربنا وأمي. يرغي ويزبد ويهدر ثم تخور قواه. يتهاوى على اللحاف. ينام; فيسكن البيت. هذا البحر يذكرني بأبي. ولكن لماذا يثمل البحر. هل مل من جلبة المسافرين عبره في جوف الليل؟. أم كره حياته الواقعية مثل أبي. فقرر أن يعيش حياته المتخيلة بخيال ثمل؟
صفعني هواء البحر على وجهي. لا كوفية معي ولا شال. شالي تمزق حينما تعلق به أحدهم. ذلك المسكين تعلق بآخر نفس له بالشال المهترئ. الغريق يتعلق بقشة فما بالك بشال من الصوف. سحبته بقوة. نازعه عليه شخص آخر. تعلقا بالشال سويا و أنا ببطن القارب المطاطي دودة شريطية أتلوى وأشد. أشدهما نحو القارب المطاطي فيميل القارب نحو المياه. يشداني نحو البحر; فاسقط فوق الأكوام البشرية المكدسة ببطن القارب. عيناهما جذعتان من الخوف. المياه تغسل خوفهما; فيشهقان طالبين النفس الدافئ. لا أنفاس دافئة. ولا ثبات. فقط الأمواج الباردة و البحر الهائج يضربنا بسياط الظلام. و أنا أشد الشال تنتف الصوف نتفا صغيرة. رأيتها صغيرة وخفيفة. رقصت فرحة بنجاتها على سطح الماء. تابعتها بنظراتي حتى اختفت في العتمة. تمنيت لو أنني نتفة من صوف مبلول. رأيتهما كلما تنتفت نتفة وسبحت راقصة من بينهما يشيعاناها بنظرات آسية. هما مثلي اذن تمنيا أن يكونا نتفة من صوف. طق. قالت آخر نتفة من الشال. سقطت للخلف; وغاصا في العمق. ثمة شيء يطفو على سطح المياه. يتمايل مع الأمواج الهادئة. سحبته لعندي بفرع يابس. يا الهي أعرف هذه القارورة. انها لتلك الطفلة الصغيرة. كانت تختبئ في حضن أمها. أمها كانت خائفة أما هي فلا. كانت تفلت حلمة البزازة من شفتيها الصغيرتين وتبتسم بوداعة في وجهي. أكانت تعرف بدنوها من التحليق في سموات الجنان. من المؤكد روحها الآن محلقة هناك. لا يحاسب الله طفلة. قال أمام مسجدنا ذات جمعة. وعينه كانت تخاطب رئيسنا الجالس في الصف الأمامي. ما بال المرأة تركب البحر معنا وتحضن طفلة. أتكون هاربة من زوجها مع ذلك الشاب الوسيم؟. أكان زوجها يضربها حينما يعود من الحانة ثملا؟ لامس قدمي شيء. نظرت للأسفل. حذاء رياضي وسترة صفراء طافية. التقط الحذاء. سكبت عنه الماء. خرج منه سرطان البحر. سقط على الرمال المبللة سكن قليلا ثم جري ناحية البحر. رأيته يسبح بانتشاء. لست متأكد من أنه سبني أم لا. رفعت السترة عن الماء ونفضتها لم يسقط منها شيئا. الرجل العجوز كان لا يملك شيئا غير هذه السترة. الحذاء كان لأحد الشابين. عرفته من علامة ( بوما) لا أحد غيره كان ينتعل واحدا مثله. لا جثة طافية. ربما خرجوا في مكان آخر. الشط واسع. والبحر ينزل راكيبه على مزاجه.
قال صاحبي الذي كان مستلقيا على الرمال بعد أن جفف ملابسه من البلل.
- ها. ماذا تنتظر عندك؟ هيا بنا.
- إلى أين؟
- إلى أين؟!! أمجنون أنت؟!!
قام من رقدته وأيضا نفض يديه وصلبه من الرمال.
- إلى المدينة الحالمة.
وأشار بيده ناحية الأضواء اللامعة.
- إلى الدنيا الجديد يا صديقي.
فتح زراعيه باتساعهما.
- إلى الحياة. إلى الحياة.
تنشق عميقا الحياة وهو يرددها. قلت
- لا.
- لا. ماذا؟
- لا لن أذهب معك. قلت;
وهرولت تجاه البحر الساكن. كنت أريد كتم أنفاسه بيدي; غصت في المياه. لم التفت إلى صراخ صديقي. قوة خارقة منعتني الالتفات. و كانت تدفعني للخوض عميقا. نفس القوة جعلت صديقي يقف محدقا بالشط بلا حراك. فجأة صحى البحر من سكونه العميق وكان غاضبا كعادته. ارتفع صوت الأمواج و خرج من جوفها الزبد. مثل أبي أرغت وأزبدت. ولسعتني ببرودة مياها الجارفة.
أحاطت بي من كل جانب وغاصت بي في العمق; مخلفة فقاعات ودوائر كثيرة من الشك في ذهن صديقي الواقف مشدوها بالشط; والأمواج تكتم أنفاسي ولا تدعني أتنفس; عرفت معنى أن تعيش على الخبز اليابس المغموس في تراب الوطن.
- ألديك خطة؟.
- خطة؟!
- نعم. خطة لحياتك الجديدة. بعد أفلحت في عبور البحر.
أي أحمق هذا؟ تساءلت في سري. التفت ناحيته وبصقت على حياتي السابقة التي كانت في الجانب الآخر من الشط; فأكتشفت أني بصقت على وجه البحر. اذن هو أجاب على ذات السؤال في سره; وتوصل لنفس الاجابة. كلانا لا قيمة لحياته السابقة بالضفة الآخرى. كما ليس لدينا خطة واضحة للحياة في هذه المدينة التي تبرق أنوارها من بعيد.
وهل من يركب البحر بهذه الطريقة الخطرة يكون لديه خطة لحياته؟. وهل تعني حياته شيئا ليضع لها الخطط؟
جبنت أن أقول له أنني عبرت البحر بتلك الطريقة المميتة لأعيش. ربما كان هو مثلي ينشد العيش عبر خوض المغامرات الخطرة.
كلانا يطلب الحياة من رحم الموت. كم كنا مغفلين.
سألته و أنا أنفض الرمل وبقايا زبد كانت ملتصقة بسروالي.
- أتعتقد أنه نجا؟
- من؟
- الرجل الكهل الذي كان جالسا بجوارنا.
وصفته أكثر.
- الرجل الاصلع. الذي كان متقرفصا عند الزاوية.
- أها. تذكرته. لا أعلم. ولكنه كان مرعوبا. وجهه ذكرني بالموت; فادرت بصري عنه. ولكن قل لي لم كل هذا الاهتمام برجل مثله؟ أراهن على أنه ركب معنا ليموت منتحرا.
- ولا شيء. ولا شيء يا صديقي; فقط أسأل.
جلت ببصري في المكان. الظلام دامس تجاه البحر. البحر ساكن سكون الأموات. لا تقل أنه الذي كان قبل قليل يرغي ويزبد و يهدر ثم يسكن سكون عجيب. أيكون يثمل مثل أبي؟. أبي كان يعود من الحانة ثملا يضربنا وأمي. يرغي ويزبد ويهدر ثم تخور قواه. يتهاوى على اللحاف. ينام; فيسكن البيت. هذا البحر يذكرني بأبي. ولكن لماذا يثمل البحر. هل مل من جلبة المسافرين عبره في جوف الليل؟. أم كره حياته الواقعية مثل أبي. فقرر أن يعيش حياته المتخيلة بخيال ثمل؟
صفعني هواء البحر على وجهي. لا كوفية معي ولا شال. شالي تمزق حينما تعلق به أحدهم. ذلك المسكين تعلق بآخر نفس له بالشال المهترئ. الغريق يتعلق بقشة فما بالك بشال من الصوف. سحبته بقوة. نازعه عليه شخص آخر. تعلقا بالشال سويا و أنا ببطن القارب المطاطي دودة شريطية أتلوى وأشد. أشدهما نحو القارب المطاطي فيميل القارب نحو المياه. يشداني نحو البحر; فاسقط فوق الأكوام البشرية المكدسة ببطن القارب. عيناهما جذعتان من الخوف. المياه تغسل خوفهما; فيشهقان طالبين النفس الدافئ. لا أنفاس دافئة. ولا ثبات. فقط الأمواج الباردة و البحر الهائج يضربنا بسياط الظلام. و أنا أشد الشال تنتف الصوف نتفا صغيرة. رأيتها صغيرة وخفيفة. رقصت فرحة بنجاتها على سطح الماء. تابعتها بنظراتي حتى اختفت في العتمة. تمنيت لو أنني نتفة من صوف مبلول. رأيتهما كلما تنتفت نتفة وسبحت راقصة من بينهما يشيعاناها بنظرات آسية. هما مثلي اذن تمنيا أن يكونا نتفة من صوف. طق. قالت آخر نتفة من الشال. سقطت للخلف; وغاصا في العمق. ثمة شيء يطفو على سطح المياه. يتمايل مع الأمواج الهادئة. سحبته لعندي بفرع يابس. يا الهي أعرف هذه القارورة. انها لتلك الطفلة الصغيرة. كانت تختبئ في حضن أمها. أمها كانت خائفة أما هي فلا. كانت تفلت حلمة البزازة من شفتيها الصغيرتين وتبتسم بوداعة في وجهي. أكانت تعرف بدنوها من التحليق في سموات الجنان. من المؤكد روحها الآن محلقة هناك. لا يحاسب الله طفلة. قال أمام مسجدنا ذات جمعة. وعينه كانت تخاطب رئيسنا الجالس في الصف الأمامي. ما بال المرأة تركب البحر معنا وتحضن طفلة. أتكون هاربة من زوجها مع ذلك الشاب الوسيم؟. أكان زوجها يضربها حينما يعود من الحانة ثملا؟ لامس قدمي شيء. نظرت للأسفل. حذاء رياضي وسترة صفراء طافية. التقط الحذاء. سكبت عنه الماء. خرج منه سرطان البحر. سقط على الرمال المبللة سكن قليلا ثم جري ناحية البحر. رأيته يسبح بانتشاء. لست متأكد من أنه سبني أم لا. رفعت السترة عن الماء ونفضتها لم يسقط منها شيئا. الرجل العجوز كان لا يملك شيئا غير هذه السترة. الحذاء كان لأحد الشابين. عرفته من علامة ( بوما) لا أحد غيره كان ينتعل واحدا مثله. لا جثة طافية. ربما خرجوا في مكان آخر. الشط واسع. والبحر ينزل راكيبه على مزاجه.
قال صاحبي الذي كان مستلقيا على الرمال بعد أن جفف ملابسه من البلل.
- ها. ماذا تنتظر عندك؟ هيا بنا.
- إلى أين؟
- إلى أين؟!! أمجنون أنت؟!!
قام من رقدته وأيضا نفض يديه وصلبه من الرمال.
- إلى المدينة الحالمة.
وأشار بيده ناحية الأضواء اللامعة.
- إلى الدنيا الجديد يا صديقي.
فتح زراعيه باتساعهما.
- إلى الحياة. إلى الحياة.
تنشق عميقا الحياة وهو يرددها. قلت
- لا.
- لا. ماذا؟
- لا لن أذهب معك. قلت;
وهرولت تجاه البحر الساكن. كنت أريد كتم أنفاسه بيدي; غصت في المياه. لم التفت إلى صراخ صديقي. قوة خارقة منعتني الالتفات. و كانت تدفعني للخوض عميقا. نفس القوة جعلت صديقي يقف محدقا بالشط بلا حراك. فجأة صحى البحر من سكونه العميق وكان غاضبا كعادته. ارتفع صوت الأمواج و خرج من جوفها الزبد. مثل أبي أرغت وأزبدت. ولسعتني ببرودة مياها الجارفة.
أحاطت بي من كل جانب وغاصت بي في العمق; مخلفة فقاعات ودوائر كثيرة من الشك في ذهن صديقي الواقف مشدوها بالشط; والأمواج تكتم أنفاسي ولا تدعني أتنفس; عرفت معنى أن تعيش على الخبز اليابس المغموس في تراب الوطن.