( الذكرى رقم 1 )
كان في سجنه قابعا فوق سريره ، تدور في راسه ذكريات ايامه المنصرمة ، حلوها ومرها. وجد في ذكرياته مؤنسا له ، توكّأ على ماضيه الجميل ليجتاز عقبة الشقاء التي كانت تهوي به الى القاع في كل مرة اراد فيها القيام واستئناف سيره. مكث في زنزانة مشؤومة مع ذكرياته التي تأخذه على اكف الخيال لترقى به الى عوالم لا يعرف كنهها ولا يدرك لها خبرا ، وبينما هو في رقدته تلك على سريره الذي كان اشبه بقبر مفتوح ، كان مستلقيا على ظهره يسترجع ماتراكم في رأسه من خطوب وصور حملت في طياتها اجمل ايامه وابهى لحظاته ، بدأ يجعل من تلك الذكريات شيء قابل للنمو والتطور كغرسة غرسها في ارضٍ وسقاها واكتنفها برعاية خاصة علها تثمر وتزهو ، اخذ ذكرياته ومزجها مع خياله الذي اضحى خصبا بسبب وحدته وعزلته عمن معه ، ليتذكر بيته الذي هجره كرُها ، وتذكر الزقاق الموحش الذي كان يمتلئ انساً وبهجة ما أن بدأ يحوم حول بيت معشوقته التي كان على وشك الزواج بها حيث أنه عاش على هذا الاساس وتعامل مع كل شيء على ان حبيبته ستشاركه فيه ، بيته.. شرفته.. سريره.. حياته ، لولا ان تخطفته ايدي القدر والقت به في هذا القبو الذي لا يُدرَك له قرار ، تذكر جلسته الصافية في شرفة بيته التي كان يقضي فيها اجمل لحظاته وابهى لياليه ، تذكر بيته الذي كان عبارة عن مجموعة احلام تراكمت فوق بعض لتشكل عالما صغيرا من اروع مايكون ، عالم مكوّن من كتب واوراق و(بيانو) من طراز قديم واثاث كأنه قد سُرِق من متحف ، إذ كانت كل قطعة اثاث في بيته تعود لقرن معين.
ورغم ان بيته كان في ركن سحيق من المدينة بيد انه كان يرى فيه مكمن احلامه ومنطلق افكاره وطموحاته ، هذا البيت الذي وضع فيه جميع ماكان يروم ويبتغي ، من حب ومال وعمل وغيره ، فصار يتخيّل بأنه تزوج من معشوقته التي كانت تمثل له شطر قلبه ، بل كانت تمثل له قلبه كله ، وانها شاركته بيته البهي بما فيه من احلام وامال وانهما تشاركا الجلسة في شرفته وتشاركا الحديث والحب وتقاسما كأس العشق الذي لم ينضب يوما مذ راها لاول مرة ، وتخيل انه انجب منها طفلاً كان هدية اهداه القدر اياها ، كان يناغيه.. يداعبه.. ويرى فيه حبيبته التي اهدته حياةً باسرها.
وعلى حين غرة.. اثاب الى واقعه.. واقعه الذي كان كزنزانته التي احتجزته في رحمها ، تأبى ان تطلقه. افاق متلفتا حوله وقد جف رضابه وجحظت عيناه ، وشرعت الحقيقة بالوضوح امامه رويدا رويدا. وبعد تحليقه في سماء خياله والجولة التي اخذته الى ابعد مايكون ادرك حقيقة حاله المقيتة وادرك ان حياته خلت من حبيبة وطفل وبيت وراحة غابرة وادرك ان هذه الجولة ماكانت الا ضربة ثانية وجهتها اليه ايدي القدر بعد الضربة الاولى التي اعطته اياها اذ القت به في هذا العالم النائي فقارن بين ماكان وبين ماهو كائن في حاضره فأيقن بؤس حاله فتوسد حزنه وخلد الى النوم.
( الذكرى رقم 2 )
اضطجع في مرقده البائس متطلعا في سقف زنزانته الرث الذي افنته حملقة البؤساء المظلومين فيه حتى حمل عنهم هموهم ومأسيهم فاضحى فانيا.. باليا.. متآكلا. ظل راقدا في موضعه ذاك محملقا بسقف زنزانته التي مافتئت ترسل اليه أمارات الموت واحدة في اثر الاخرى ، اجال بصره فيما حوله من ارض جرداء وجدران صماء واناس اختلطت احلامهم بشرور واثام اقترفوها فأودت بهم في هذا المعزل عن ارض الله وخلقه.
جلس القرفصاء واغمض عينيه لوهلة ، مستحضرا في ذهنه ذكرياته عله يرى فيها مؤنسا لوحشة مكانه البئيس ، بدأ بأستحضار حياته ككتاب رث يقلب صفحاته بتؤدة وتمهل خشية تمزق احداهن ، فتذكر ايامه التي كان يقضيها في عمله الذي كان اشبه بالاعمال الشاقة التي تفرض على اصحاب الجنايات الكبرى ، وتذكر تجلده على تلك الاعمال ، والمشاق المصاحبة للمتاعب التي كانت تتوافد عليه من كل حدب وصوب ، تذكر بيته ، ذلك البيت (السرداب) الذي قضى ايامه فيه بين فزعة بسبب افعى دخيلة على غرفته و عقرب غادر.. بين برد في شتاء وقيظ في صيف ، إذ كان ذلك البيت محض احجار رصت فوق بعض بعشوائية بُغية اتقاء المطر والشمس فحسب.
انتقل الى الصفحة التالية من كتاب ذكرياته العقيمة من اي بارقة امل ، فتذكر والده الذي كان أشبه بــ (عزرائيل) ولكن الفرق بين ابيه وعزرائيل كان يكمن في وظيفة عزرائيل في ارسال سهام المنايا الى من كُلف به فقط ، اما والده فقد كان يقذف بسهام الحزن والذعر في كل لحظة وكل مكان ، منذ لحظة دخوله البيت وحتى لحظة خروجه الذي كان يمثل عيدا للاستقلال الذي توقد فيه الشموع وتنتشر فيه الضحكات والاهازيج التي تنم عن قلوب القت عبئا ثقيلا عن كاهلها ، لم يكن يوما يمضي الا بعد ان يتلقى من والده شتى انواع الشتائم والسِباب لسبب او لغير سبب ، تذكر حبيبته التي استجدى حبها لايام طوال إلا انها ضنت عليه بما اراد وابت الا ان تعطيه الحسرة واللوعة ، حيث كانت تزدريه وتقابله بالتهكم والصد لفقر حاله وعسرة معيشته ، كان يحبها حبا جما واطلق عليها لفظ ( الحبيبية ) حتى وان كانت لا تعبئ به ولا تقيم له وزنا ، ولكنه كان يعيش بحبها في عالم هو وحده يدرك حدوده ومعالمه. تذكر جوعه المضني الذي كان يصارعه كل يوم وكانت هزيمته هي النتيجة المحتومة عقب كل صراع بينهما ، كانت عائلته تعيش في فقر مدقع وكأن الايام قد جمعت مافي الارض من فقر لتصبه فوق رؤوسهم صبا ، كانوا لا يجدون مايسد رمقهم ، فعائلته مكونة من امه وابيه واخته التي فتك بها مرض طارئ وعجزوا عن معاجلتها لفقر حالهم فتلقفتها ايدي المنايا منهم لتزيد وعاء لوعاتهم الذي مانضب يوما ، لوعة ويأس. تذكر نظرته ذات مرة لمرآته التي كانت تريه واقعه المرير بما تحمله من خدوش وكسور في اطرافها ففي اثناء نظره الى مرآته راى وجهه الذي اجتاحته التجاعيد وهو في ريعان شبابه هذه التجاعيد التي احدثتها معاول الايام في وجهه ليس لبلوغ سن بل لبلوغ حزن واسى.
فجاءة افاق من كابوسه المزري وكأنه كان على كف غيمة رفعته الى السماء وجابت به العالم ومن ثم وعلى حين غرة القته الى الثرى ، نظر الى ماحوله كمحاولة لاثبات حقيقة حاله في حاضره واتضح له افضلية حاله في زنزانته المظلمة عن حاله خارجها. فتنفس الصعداء وتوسد فرحته وخلد الى النوم
كان في سجنه قابعا فوق سريره ، تدور في راسه ذكريات ايامه المنصرمة ، حلوها ومرها. وجد في ذكرياته مؤنسا له ، توكّأ على ماضيه الجميل ليجتاز عقبة الشقاء التي كانت تهوي به الى القاع في كل مرة اراد فيها القيام واستئناف سيره. مكث في زنزانة مشؤومة مع ذكرياته التي تأخذه على اكف الخيال لترقى به الى عوالم لا يعرف كنهها ولا يدرك لها خبرا ، وبينما هو في رقدته تلك على سريره الذي كان اشبه بقبر مفتوح ، كان مستلقيا على ظهره يسترجع ماتراكم في رأسه من خطوب وصور حملت في طياتها اجمل ايامه وابهى لحظاته ، بدأ يجعل من تلك الذكريات شيء قابل للنمو والتطور كغرسة غرسها في ارضٍ وسقاها واكتنفها برعاية خاصة علها تثمر وتزهو ، اخذ ذكرياته ومزجها مع خياله الذي اضحى خصبا بسبب وحدته وعزلته عمن معه ، ليتذكر بيته الذي هجره كرُها ، وتذكر الزقاق الموحش الذي كان يمتلئ انساً وبهجة ما أن بدأ يحوم حول بيت معشوقته التي كان على وشك الزواج بها حيث أنه عاش على هذا الاساس وتعامل مع كل شيء على ان حبيبته ستشاركه فيه ، بيته.. شرفته.. سريره.. حياته ، لولا ان تخطفته ايدي القدر والقت به في هذا القبو الذي لا يُدرَك له قرار ، تذكر جلسته الصافية في شرفة بيته التي كان يقضي فيها اجمل لحظاته وابهى لياليه ، تذكر بيته الذي كان عبارة عن مجموعة احلام تراكمت فوق بعض لتشكل عالما صغيرا من اروع مايكون ، عالم مكوّن من كتب واوراق و(بيانو) من طراز قديم واثاث كأنه قد سُرِق من متحف ، إذ كانت كل قطعة اثاث في بيته تعود لقرن معين.
ورغم ان بيته كان في ركن سحيق من المدينة بيد انه كان يرى فيه مكمن احلامه ومنطلق افكاره وطموحاته ، هذا البيت الذي وضع فيه جميع ماكان يروم ويبتغي ، من حب ومال وعمل وغيره ، فصار يتخيّل بأنه تزوج من معشوقته التي كانت تمثل له شطر قلبه ، بل كانت تمثل له قلبه كله ، وانها شاركته بيته البهي بما فيه من احلام وامال وانهما تشاركا الجلسة في شرفته وتشاركا الحديث والحب وتقاسما كأس العشق الذي لم ينضب يوما مذ راها لاول مرة ، وتخيل انه انجب منها طفلاً كان هدية اهداه القدر اياها ، كان يناغيه.. يداعبه.. ويرى فيه حبيبته التي اهدته حياةً باسرها.
وعلى حين غرة.. اثاب الى واقعه.. واقعه الذي كان كزنزانته التي احتجزته في رحمها ، تأبى ان تطلقه. افاق متلفتا حوله وقد جف رضابه وجحظت عيناه ، وشرعت الحقيقة بالوضوح امامه رويدا رويدا. وبعد تحليقه في سماء خياله والجولة التي اخذته الى ابعد مايكون ادرك حقيقة حاله المقيتة وادرك ان حياته خلت من حبيبة وطفل وبيت وراحة غابرة وادرك ان هذه الجولة ماكانت الا ضربة ثانية وجهتها اليه ايدي القدر بعد الضربة الاولى التي اعطته اياها اذ القت به في هذا العالم النائي فقارن بين ماكان وبين ماهو كائن في حاضره فأيقن بؤس حاله فتوسد حزنه وخلد الى النوم.
( الذكرى رقم 2 )
اضطجع في مرقده البائس متطلعا في سقف زنزانته الرث الذي افنته حملقة البؤساء المظلومين فيه حتى حمل عنهم هموهم ومأسيهم فاضحى فانيا.. باليا.. متآكلا. ظل راقدا في موضعه ذاك محملقا بسقف زنزانته التي مافتئت ترسل اليه أمارات الموت واحدة في اثر الاخرى ، اجال بصره فيما حوله من ارض جرداء وجدران صماء واناس اختلطت احلامهم بشرور واثام اقترفوها فأودت بهم في هذا المعزل عن ارض الله وخلقه.
جلس القرفصاء واغمض عينيه لوهلة ، مستحضرا في ذهنه ذكرياته عله يرى فيها مؤنسا لوحشة مكانه البئيس ، بدأ بأستحضار حياته ككتاب رث يقلب صفحاته بتؤدة وتمهل خشية تمزق احداهن ، فتذكر ايامه التي كان يقضيها في عمله الذي كان اشبه بالاعمال الشاقة التي تفرض على اصحاب الجنايات الكبرى ، وتذكر تجلده على تلك الاعمال ، والمشاق المصاحبة للمتاعب التي كانت تتوافد عليه من كل حدب وصوب ، تذكر بيته ، ذلك البيت (السرداب) الذي قضى ايامه فيه بين فزعة بسبب افعى دخيلة على غرفته و عقرب غادر.. بين برد في شتاء وقيظ في صيف ، إذ كان ذلك البيت محض احجار رصت فوق بعض بعشوائية بُغية اتقاء المطر والشمس فحسب.
انتقل الى الصفحة التالية من كتاب ذكرياته العقيمة من اي بارقة امل ، فتذكر والده الذي كان أشبه بــ (عزرائيل) ولكن الفرق بين ابيه وعزرائيل كان يكمن في وظيفة عزرائيل في ارسال سهام المنايا الى من كُلف به فقط ، اما والده فقد كان يقذف بسهام الحزن والذعر في كل لحظة وكل مكان ، منذ لحظة دخوله البيت وحتى لحظة خروجه الذي كان يمثل عيدا للاستقلال الذي توقد فيه الشموع وتنتشر فيه الضحكات والاهازيج التي تنم عن قلوب القت عبئا ثقيلا عن كاهلها ، لم يكن يوما يمضي الا بعد ان يتلقى من والده شتى انواع الشتائم والسِباب لسبب او لغير سبب ، تذكر حبيبته التي استجدى حبها لايام طوال إلا انها ضنت عليه بما اراد وابت الا ان تعطيه الحسرة واللوعة ، حيث كانت تزدريه وتقابله بالتهكم والصد لفقر حاله وعسرة معيشته ، كان يحبها حبا جما واطلق عليها لفظ ( الحبيبية ) حتى وان كانت لا تعبئ به ولا تقيم له وزنا ، ولكنه كان يعيش بحبها في عالم هو وحده يدرك حدوده ومعالمه. تذكر جوعه المضني الذي كان يصارعه كل يوم وكانت هزيمته هي النتيجة المحتومة عقب كل صراع بينهما ، كانت عائلته تعيش في فقر مدقع وكأن الايام قد جمعت مافي الارض من فقر لتصبه فوق رؤوسهم صبا ، كانوا لا يجدون مايسد رمقهم ، فعائلته مكونة من امه وابيه واخته التي فتك بها مرض طارئ وعجزوا عن معاجلتها لفقر حالهم فتلقفتها ايدي المنايا منهم لتزيد وعاء لوعاتهم الذي مانضب يوما ، لوعة ويأس. تذكر نظرته ذات مرة لمرآته التي كانت تريه واقعه المرير بما تحمله من خدوش وكسور في اطرافها ففي اثناء نظره الى مرآته راى وجهه الذي اجتاحته التجاعيد وهو في ريعان شبابه هذه التجاعيد التي احدثتها معاول الايام في وجهه ليس لبلوغ سن بل لبلوغ حزن واسى.
فجاءة افاق من كابوسه المزري وكأنه كان على كف غيمة رفعته الى السماء وجابت به العالم ومن ثم وعلى حين غرة القته الى الثرى ، نظر الى ماحوله كمحاولة لاثبات حقيقة حاله في حاضره واتضح له افضلية حاله في زنزانته المظلمة عن حاله خارجها. فتنفس الصعداء وتوسد فرحته وخلد الى النوم