- خلق الخوف من الموت أغلب الأساطير ولا يزال ، يبدو الموت كمطلق ، رغم أن هناك فرق بين الموت والألم ولكن الناس يقرنون بينهما ؛ الألم سابق على الموت فلا يكون إلا في الحياة ، أما الموت فهو ببساطة انطفاء الطاقة المحركة للفرد . لا ألم في الموت .. لا عذاب .. فقط تستغل الأديان مخاوف الناس من العدم لترسم لهم طريقا وراء ما تسميه بالبرزخ منذ كتاب الموتى للفراعنة كأقدم أسطورة عن ما بعد الموت. صحيح أن الناس تعشق الحياة وتخاف من العدم ، ولكنهم لو تأملوا الحياة لاكتشفوا أنها لا تختلف كثيرا عن العدم ؛ فلا توجد متعة كاملة في الحياة وهي ليست سوى حركة تأمل في بلوغ المطلق فليست الحياة سوى آمال تمنح سببا للإنسان كي يتحرك في دائرته المغلقة داخل النقاط المتدفقة للزمن . كل إنسان حتما سائر إلى العدم ، والجميع يدركون زوالهم ؛ شوبنهاور قضى جل عمره يناقش هذه الحقيقة السخيفة . ما الجديد فيها ولماذا نخشاها . لماذا نخشى الموت ؟!!! إن ما يجب أن نخشاه حقا هو الألم أي هذه الحياة فقط . أن نتألم ، جسديا ومعنويا ، أن تذل كرامتنا ، أن يهزمنا أعداؤنا ، أن نحتاج لمد أيدينا متسولين البشر اللئام ، أن تجرح مشاعرنا .... وهلم جرا من آلام الحياة .. لا تخشى الموت فهو لا شيء سوى عدم لطيف ، غياب رقيق ، اضمحلال الوجود . إنه الفرح الأخير .. لا تخشى من الموت ولا تصدق الأساطير .. وافرح به ..
- أنت تقول ذلك لأنك غير مؤمن ، يا صديقي دعنا نتحدث بإيجابية أكثر.
- ما أقوله هو الايجابية بعينها ، إنها تدفعنا إلى نبذ الخوف ، لننطلق في الحياة .
- ألم تسأم من الحياة؟
- لم أسأم .. مازلت في الأربعين من عمري وبقى لي عشرين عاماً سأظل أهرول خلف الأمل حتى أخر رمق لي .
- أشعر بالدوار .. الخمر جيدة هذه المرة ..
- المستقبل هو ما نخشاه وليس الحاضر.
- لقد سكرت.
- لم أسكر ..
- أنت تهذي .. إن هذا جنون .. الليل صامت .. والكتب كلها تدور في فلك واحد .. فوكو .. دريدا .. الجابري.. حتى الروايات تكاد تكون تكراراً لقصة واحدة .. لا شيء يمنح الدهشة ..
- حياتنا نفسها صارت تكراراً رغم رفض دولوز لهذه الكلمة .. إنها عواصف حقيقية تلك التي تتقاذفنا إلى أعلى وأسفل من القنوط إلى التفاؤل ..
- نحن نعيش في دولة دكتاتورية بكل ما تعنيه هذه الكلمة .. وفوق ذلك فهي دولة متخلفة في كل شيء .. لذلك من الحتمي أن يكون هذا هو وضعنا .. أن نكون منهارين كالدولة ..
- ألا يمكن أن يكون ذلك شماعة نعلق عليها أخطاءنا فقط .. أخطاؤنا في الحياة ؟
- ربما .. ولكنه عزاء مناسب ..
- هل تعرف أنني مندهش!!
- أنت محظوظ فلا شيء أصبح يمنحنا الدهشة ..
- مندهش من أننا في القرن الحادي والعشرين في عالم التكنولوجيا والحقوق والحريات والعولمة وغير ذلك ومع ذلك فهناك دكتاتوريات .. أليس هذا مدهشاً .. أن نعيش في دولة دكتاتورية ، تصرخ بتمجيد الزعيم المفدى والقائد البطل .. وتعلق صوره على كل مكان .. ولديه حزب يسيطر على كافة مقاليد السلطة .. ويستشري الفساد والحروب الأهلية . وكل مظاهر الدكتاتورية. إنني لا أكاد أصدق ..
- مدهش .. مدهش
- عصاة الكمان .. تجرح الأوتار كالسكين .. وراقصة يابانية .. ترفع راحتها في شكل منقار العصفور .. وتهدهد المهد .. ينسلخ النور .. تشحب الوجوه .. تمد الراقصة رجلا واحدة .. تحاكي لعبة القدر .. أتثاءب فاقدا نضج المجاملة .. أسترخي في مقعدي ولا تتداعى أي ذكريات .. ماتت المشاعر تماما .. وغطيطي صار مزعجا لرواد المسرح .. أصفق لرتابة الأحاسيس الطفولية عند البشر .. وأخرج وأنا أترنح كالسكران .. صرت كقضيب الحديد.. أزداد صدأ كل يوم .. روحي مثل جبل البركل ..تاريخية.. أقود الطريق ويقودني إحساس بالفشل .. أحاول أن أعبر شوارع النرجسية .. لكي أكون آدميا من جديد.. لكن الراقصة اليابانية فضحتني أمام ذاتي.. تفرد يديها الى الأمام وكأنها تصد ريحا هوجاء .. غمغمت وأنا مطأطئ الرأس أنظر إلى عربدة الطريق تحت أقدامي :(لقد انتهيت يافتى .. عليك أن تعترف .. لقد انتهيت) .. انتهيت .. انتهيت ..
عصا الكمان .. تجرح الأوتار كالسكين .. تماما ..كالسكين ..
- أنت مغمور يا الفاضل .. مغمور لتكتب مذكراتك .. أنت ككهف تحت المحيط فدع عنك محاولات التملص من بشريتك هذه .. ستظل بشراً ولن تفقد مشاعرك أبداً مهما كنت براغماتياً ..
- أنت تحب المغالطة والجدل .. أقسم بهذا الكأس إنني أشعر فقط بأنني لا أشعر .. قليلاً ما أشعر بالخوف فقط ، وهو خوف غير مبرر .. خوف من شيء ما..
- لقد تحولت علاقتنا من علاقة مريض بطبيبه إلى علاقة صداقة رغم
أنني مازلت أعتقد بأنك مريض نفسي أو مجنون .. دعني أقول مريض نفسي فأنت أعقل من أن تكون مجنوناً .. هل تناولت أدوية الفصام التي كتبتها لك؟
- هذا المرض المزمن واللعين .. نعم مازلت أتناولها .. تساعدني على النوم ..
- من المفترض أنها تفعل العكس .. لا أعرف .. إن الآثار الجانبية للأدوية النفسية مختلفة من شخص لآخر ..
- لكن أفضل آثارها الجانبية هي الضعف الجنسي ..
- غريب .. ألا يزعجك ذلك ؟
- على العكس تماماً .. إنني الآن فقدت عواطفي تجاه الأنثى تماماً .. الآن أنا عقلاني بالكامل.. يمكنني أن أدلف إلى الجحيم بقدمي اليمنى ..
- ماذا؟ الجحيم !!
- أقصد مع الكفار العقلانيين ..
- رغم أنني طبيب نفسي إلا أنني أنا نفسي أتناول هذه الأدوية .. القليل منها بالطبع فأنا أتناول السيبرام لعلاج الاكتئاب .. وبصراحة كانت الآثار الجانبية علاج لي من سرعة القذف .. رغم أن شهوة زوجتي قلت تدريجياً فهي مصابة بالسكر ..
- يمكنك الزواج بأخرى لتنجب ..
- لا أعرف فأنا أفضل هذا الهدوء .. بصراحة كان زواجي نفسه خطأ ولو أنها أنجبت لشعرت بفداحة هذا الخطأ .. أفكر كثيراً في الطلاق ولكنها امرأة فاضلة لم تمنحني سبباً لطلاقها ..
- صب لي كأساً .. أشكرك .. كنت جالساً في الصف الثالث من الخلف وكان المسرح مضاءً إضاءة خافتة ، وكانت الفرقة اليابانية تصدح بأشعار الهايكو .. إنها أشعار غريبة .. فهي تشعرك بأنها سطحية وعميقة في نفس الوقت .. ثم دخلت الراقصة اليابانية .. لم أعرف –ولا أزال حتى الآن – لا أعرف لماذا شعرت حينها بتمزق ذاتي إلى نصفين .. أو ربما أكثر .. شعرت بأنني حطام ..
- لن أعتبر هذا من ضمن إدلاء مريض لطبيبه ..
- لا لا تعتبره كذلك .. بصراحة أنتم الأطباء النفسيون لا تستمعون أبداً إلى مرضاكم بأريحية .. أنتم تهرولون خلف المرض وتلاحقون القصة التي تتناسب مع ما درستموه عن الأمراض النفسية..
- هذا إتهام صحيح إلى حد ما .. الطبيب الذي يستمع إلى مريضه غير موجود إلا في الأفلام .. إننا نلاحق العالم ما بعد الحداثة .. السرعة .. الدقة .. الغاية النهائية .. هناك مرضى يأتون إلينا وهم غير مستعدين أصلاً للكلام .. إننا نعاملهم كما تعامل جليسة الأطفال الطفل .. نلهث وراء معلومة صغيرة ، وفي كثير من الأحيان نؤسس روشتة الدواء على مجرد افتراضات سطحية ومظهر خارجي ..
- وتتقاضون ثمناً باهظاً ..
- واصل في قصة الراقصة اليابانية فهذا أفضل ..
- آه .. فجأة فقدت كل مشاعري .. هكذا فجأة كما يتوقف المطر .. سحابة إنسانيتي تبددت .. رأيت الماضي كله صفراً كبيراً .. ارتجفت قدماي .. وبلل العرق جسدي .. فوضى هاجت في عقلي .. وومض بريق أسود في عيني .. شعرت بالنعاس .. بل .. بل بالنعاس والإرهاق والتعب الشديد .. كان الناس من حولي يصفقون ويطلقون الصفافير وأنا أذوب كقطعة ثلج ..
- ربما تكون نوبة ذعر .. فلا شيء علمي في قصتك هذه ..
- لا أعرف ..
- عليك أن تثق فيَّ .
- كنت أتثاءب .. وانتهى العرض بسقوط الراقصة ميتة .. في التمثيل طبعاً .. وانطفأت المصابيح .. وانطفأ معها آخر شعور لي بآدميتي .. نسيت سيارتي ومشيت على قدمي .. وتمنيت أن تبتلعني الأرض .. ثم سقطت وغفوت .
- إنها تجربة مخيفة ..
- هي كذلك بالفعل .. ومع ذلك فقد تغيرت حياتي بعدها بالكامل .. لقد أصبحت عقلاً محضاً .. كروبوت .. خطواتي كالمعادلات الرياضية .. علاقاتي براغماتية .. لا حدود لصلابتها وتشرنقها حول الذات .. ذاتي العارفة .. المنفصلة عن الموجودات .. الوحيدة ، ولو كنت أحمل ذرة مشاعر لقلت المستوحشة .. ولكن لا .. فلازلت أشعر بالخوف .. تصور .. هل تصدق أن الخوف الذي كنت أمقته صار اليوم هو رابطي الوحيد ببشريتي .. إنه الآن نعمة ..
- وهل تصدق أنك تشترك مع مليارات البشر في استحواذ الخوف على مجرى حياتهم .. أنهم خائفون .. يعملون بجهد لأنهم خائفون ، يتزوجون لأنهم خائفون ، يتعاركون لأنهم خائفون ، يتحدثون لكسر الخوف ويصمتون عندما تنتابهم المخاوف .. لستَ وحيداً صدقني ..
- لكنهم يحملون مشاعر أخرى ..
- كلها يحركها الشعور الوحيد وهو الخوف .. كل ما حدث لك أنك استطعت تركيز شتات المشاعر البشرية في الفكرة الرئيسية وهي الخوف .. أنت الآن الأكثر عقلانية في العالم .
- لكنني لا أحب هذا الشعور .. إنه قاتل .. أريد أن أرجع بشرياً كما كنت .. حتى ولو عشت شتات مشاعري من جديد ..
- سيعود إليك الفصام والإكتئاب والوسواس القهري بقوة أكبر مما كانت عليه في السابق .. استمتع يا فتى .. استمتع بكونك عقلاً محضاً ..
- لكنني لا أشعر بالاستمتاع .. أنت لم تفهمني .. أنا لا أشعر بشيء سوى بالخوف ..
- سأصرخ الآن يا الفاضل بأعلى صوتي وليذهب النائمون إلى الجحيم .. أنت الآن سوبرمان .. سوبرمان .. لا أحد مثلك .. أنت صاحب العاهة المستديمة الوحيدة التي تجعلك أكثر قوة .. والخوف صدقني هو ليس أكثر من بقايا بشريتك .. استفد من عاهتك اللاشعورية هذه في تحقيق ما كنت تحلم به في السابق .. أدرك أنك فقدت أحلامك .. ولا أطالبك بأن تحلم من جديد ولكني فقط أطلب منك أن تستدعيها إلى الذاكرة .. أن تتذكر ماذا كانت أحلامك .. وأن تعمل على تحقيقها ..
- فكرة ممتازة .. ولكن .. ماذا كانت أحلامي .. الأحلام مشروعة ولكنها تظل أحلام ..
- يؤكد الجميع بأنها مجانية .. وأن هذا أجمل شيء فيها ..
- مجانية لأنها لا تعود على الفرد بالنفع ..
- يمكنها أن تتحقق..
- ما يتحقق ليس الأحلام بل الأماني ..
- هذا مفهوم شرطي .. إن القضية تعتمد على الحظ والقدر ..
- ليس حظاً أو قدراً إنما قرارات خاطئة وصائبة .. نحن نتاج قراراتنا .. سلباً وإيجاباً ..
- لقد أصبحتَ عقلاً بالفعل .. إنك تخيفني ..
- لقد انتهت زجاجتنا ..
- ولم نسكر بعد .. أين تعلمت اليابانية؟
- التقيت بكيم أثناء دراستي للغة الانجليزية ، وبدأت قصة صداقة .. علمتني اليابانية .. وفشلت في تعليمها العربية ..
- قصة حب؟
- رفضت .. كانت تجلس معي شبه عارية فطلبت منها أن نمارس الجنس لكنها أكدت لي بأنها تحب زوجها ..
-كانت متزوجة إذن ؟
- وكان زوجها غائباً .. كان يعمل في منظمة دولية وكان كثير التنقل..
- لو كنت فرويدياً لقلت بأن سبب إنهيار مشاعرك في المسرحية هو سبب امتناع كيم ورفضها لممارسة الجنس معك ..
- لا .. كانت مجرد صداقة .. رغم أنها كانت جميلة لكنني لم أفكر كثيراً في تطوير العلاقة أكثر من مجرد تسولي للجنس مرة واحدة ولم أكررها بعد ذلك ..
- أما أنا فإنني اختار الطريق الأسهل والمباشر .. زواج ..
- لقد اخترت مرة واحدة ..
- مرة واحدة وأخيرة .. ولكن دعني أصدقك القول فكل خياراتي في الحياة كانت الخيارات السهلة .. الانهزامية.. حتى ولو كانت مرهقة .. عملت في مهنة لا أحبها ولكنها متوفرة .. وتزوجت امرأة لم أحببها ولكنها كانت المتوفرة .. وهكذا حياتي .. أمضي في أقرب منعطف .. وأدخل أول مطعم ولا أفكر في الشارع الذي خلف منزلي .. وأعتقد أن أغلب الناس هكذا .. إن المجازفين هم رجال الأعمال .
- يا دكتور ؟
- هذه استشارة بما أنك ناديتني بالدكتور ..
- بالفعل .. إنني إنني أشعر بشعور غريب .. إنني أتقلب بين الفينة والأخرى بين التفاؤل والتشاؤم .. ولا أستقر على حال .. الخوف والارتياح ..
- أنت من النوع الذي لا يستجيب للأدوية بسهولة .. عليك بزيادة الجرعة ..
- هذه هي المرة الرابعة التي تزيد لي فيها الجرعة وكل النتيجة هي أنني فقدت مشاعري المختلفة ولم يتبق لي سوى هذا الشعور المسمى بالخوف ..
- ما هو الخوف الذي تشعر به؟
- كأنه صعقة كهرباء .. جسدي يرتعش وأشعر بأن العالم أضيق من خرم إبرة .. وأنه شديد الظلام .. وأنني وحيد .. بلا أمل في المستقبل ... تنهار الأحلام .. بطن قدمي يتشنج .. وأكتافي تصاب بالتنميل .. أشعر بأن الزمن سيفترسني .. لا أعرف هو خليط من كل هذا وأكثر..
- والأعداء ..
- لا أعرف .. أشعر بأن الكل عدو .. أو أنني يجب أن أنعزل عن العالم .. حانق أنا على هؤلاء الذين يتدخلون في حياتي كأنهم أوصياء ..
- تصلح معك أناركية باكونين ..
- بأكونين؟
- ثوري روسي أناركي عارض السلطة .. له مفاهيم تجاه الحرية الفردية ..
- بالفعل إن حريتي مقيدة .. في مجتمعنا اللاهوتي هذا ..
- حتى في العالم الحر توجد قيود .. الرأسمالية .. شركات الإعلام .. الجيوش .. حين تتحول الليبرالية إلى وحش .. فإنها تأكلك من قمة رأسك إلى أخمص قدميك ..
- والحل ..
- الحل هو أن تكون وحشاً وهذا ليس سهلا إنه برمجة كاملة للإنسان منذ نعومة أظافره ..
- لم أتربى على أن أكون وحشاً ..
- إذن ستعيش كفريسة .. وهذا ليس عيباً .. الأغلبية هي فريسة .. كلنا فرائس ..
- سئمت من الحياة ..
- إذن .. غادر ..
- هكذا بكل بساطة؟
- هكذا بكل بساطة .. سأتوقف عن الشرب الآن .. عقلي يدور .. إلى أين أنت ذاهب ..
- سأغادر ..
- إلى أين ؟
- إلى ما وراء الحياة ..
- هل أنت جاد ..
- نعم .. سئمت الأدوية .. والأناركية والاشتراكية والرأسمالية .. سئمت كل شيء..
- ألا يمكنك أن تمنح نفسك فرصة أخرى؟
- لا .. أنت قلت لي أن أغادر بكل بساطة .. وسأغادر بكل بساطة .. بدون تفكير طويل في الأمر ..
- حسنا .. لا أستطيع أن أقول لك إلى اللقاء ..
- لا أعرف .. فربما صدقت الأديان وتقابلنا يوماً ما ..
- صحيح .. امنحني شيئاً لأتذكرك به ..
- لن تنساني أبداً .. ولكن خذ ساعتي هذه ..
- إنها رمز للزمن ..
- حياتنا كلها رمز ..
- صحيح ..
- وداعاً ..
- وداعاً..
(تمت)
- أنت تقول ذلك لأنك غير مؤمن ، يا صديقي دعنا نتحدث بإيجابية أكثر.
- ما أقوله هو الايجابية بعينها ، إنها تدفعنا إلى نبذ الخوف ، لننطلق في الحياة .
- ألم تسأم من الحياة؟
- لم أسأم .. مازلت في الأربعين من عمري وبقى لي عشرين عاماً سأظل أهرول خلف الأمل حتى أخر رمق لي .
- أشعر بالدوار .. الخمر جيدة هذه المرة ..
- المستقبل هو ما نخشاه وليس الحاضر.
- لقد سكرت.
- لم أسكر ..
- أنت تهذي .. إن هذا جنون .. الليل صامت .. والكتب كلها تدور في فلك واحد .. فوكو .. دريدا .. الجابري.. حتى الروايات تكاد تكون تكراراً لقصة واحدة .. لا شيء يمنح الدهشة ..
- حياتنا نفسها صارت تكراراً رغم رفض دولوز لهذه الكلمة .. إنها عواصف حقيقية تلك التي تتقاذفنا إلى أعلى وأسفل من القنوط إلى التفاؤل ..
- نحن نعيش في دولة دكتاتورية بكل ما تعنيه هذه الكلمة .. وفوق ذلك فهي دولة متخلفة في كل شيء .. لذلك من الحتمي أن يكون هذا هو وضعنا .. أن نكون منهارين كالدولة ..
- ألا يمكن أن يكون ذلك شماعة نعلق عليها أخطاءنا فقط .. أخطاؤنا في الحياة ؟
- ربما .. ولكنه عزاء مناسب ..
- هل تعرف أنني مندهش!!
- أنت محظوظ فلا شيء أصبح يمنحنا الدهشة ..
- مندهش من أننا في القرن الحادي والعشرين في عالم التكنولوجيا والحقوق والحريات والعولمة وغير ذلك ومع ذلك فهناك دكتاتوريات .. أليس هذا مدهشاً .. أن نعيش في دولة دكتاتورية ، تصرخ بتمجيد الزعيم المفدى والقائد البطل .. وتعلق صوره على كل مكان .. ولديه حزب يسيطر على كافة مقاليد السلطة .. ويستشري الفساد والحروب الأهلية . وكل مظاهر الدكتاتورية. إنني لا أكاد أصدق ..
- مدهش .. مدهش
- عصاة الكمان .. تجرح الأوتار كالسكين .. وراقصة يابانية .. ترفع راحتها في شكل منقار العصفور .. وتهدهد المهد .. ينسلخ النور .. تشحب الوجوه .. تمد الراقصة رجلا واحدة .. تحاكي لعبة القدر .. أتثاءب فاقدا نضج المجاملة .. أسترخي في مقعدي ولا تتداعى أي ذكريات .. ماتت المشاعر تماما .. وغطيطي صار مزعجا لرواد المسرح .. أصفق لرتابة الأحاسيس الطفولية عند البشر .. وأخرج وأنا أترنح كالسكران .. صرت كقضيب الحديد.. أزداد صدأ كل يوم .. روحي مثل جبل البركل ..تاريخية.. أقود الطريق ويقودني إحساس بالفشل .. أحاول أن أعبر شوارع النرجسية .. لكي أكون آدميا من جديد.. لكن الراقصة اليابانية فضحتني أمام ذاتي.. تفرد يديها الى الأمام وكأنها تصد ريحا هوجاء .. غمغمت وأنا مطأطئ الرأس أنظر إلى عربدة الطريق تحت أقدامي :(لقد انتهيت يافتى .. عليك أن تعترف .. لقد انتهيت) .. انتهيت .. انتهيت ..
عصا الكمان .. تجرح الأوتار كالسكين .. تماما ..كالسكين ..
- أنت مغمور يا الفاضل .. مغمور لتكتب مذكراتك .. أنت ككهف تحت المحيط فدع عنك محاولات التملص من بشريتك هذه .. ستظل بشراً ولن تفقد مشاعرك أبداً مهما كنت براغماتياً ..
- أنت تحب المغالطة والجدل .. أقسم بهذا الكأس إنني أشعر فقط بأنني لا أشعر .. قليلاً ما أشعر بالخوف فقط ، وهو خوف غير مبرر .. خوف من شيء ما..
- لقد تحولت علاقتنا من علاقة مريض بطبيبه إلى علاقة صداقة رغم
أنني مازلت أعتقد بأنك مريض نفسي أو مجنون .. دعني أقول مريض نفسي فأنت أعقل من أن تكون مجنوناً .. هل تناولت أدوية الفصام التي كتبتها لك؟
- هذا المرض المزمن واللعين .. نعم مازلت أتناولها .. تساعدني على النوم ..
- من المفترض أنها تفعل العكس .. لا أعرف .. إن الآثار الجانبية للأدوية النفسية مختلفة من شخص لآخر ..
- لكن أفضل آثارها الجانبية هي الضعف الجنسي ..
- غريب .. ألا يزعجك ذلك ؟
- على العكس تماماً .. إنني الآن فقدت عواطفي تجاه الأنثى تماماً .. الآن أنا عقلاني بالكامل.. يمكنني أن أدلف إلى الجحيم بقدمي اليمنى ..
- ماذا؟ الجحيم !!
- أقصد مع الكفار العقلانيين ..
- رغم أنني طبيب نفسي إلا أنني أنا نفسي أتناول هذه الأدوية .. القليل منها بالطبع فأنا أتناول السيبرام لعلاج الاكتئاب .. وبصراحة كانت الآثار الجانبية علاج لي من سرعة القذف .. رغم أن شهوة زوجتي قلت تدريجياً فهي مصابة بالسكر ..
- يمكنك الزواج بأخرى لتنجب ..
- لا أعرف فأنا أفضل هذا الهدوء .. بصراحة كان زواجي نفسه خطأ ولو أنها أنجبت لشعرت بفداحة هذا الخطأ .. أفكر كثيراً في الطلاق ولكنها امرأة فاضلة لم تمنحني سبباً لطلاقها ..
- صب لي كأساً .. أشكرك .. كنت جالساً في الصف الثالث من الخلف وكان المسرح مضاءً إضاءة خافتة ، وكانت الفرقة اليابانية تصدح بأشعار الهايكو .. إنها أشعار غريبة .. فهي تشعرك بأنها سطحية وعميقة في نفس الوقت .. ثم دخلت الراقصة اليابانية .. لم أعرف –ولا أزال حتى الآن – لا أعرف لماذا شعرت حينها بتمزق ذاتي إلى نصفين .. أو ربما أكثر .. شعرت بأنني حطام ..
- لن أعتبر هذا من ضمن إدلاء مريض لطبيبه ..
- لا لا تعتبره كذلك .. بصراحة أنتم الأطباء النفسيون لا تستمعون أبداً إلى مرضاكم بأريحية .. أنتم تهرولون خلف المرض وتلاحقون القصة التي تتناسب مع ما درستموه عن الأمراض النفسية..
- هذا إتهام صحيح إلى حد ما .. الطبيب الذي يستمع إلى مريضه غير موجود إلا في الأفلام .. إننا نلاحق العالم ما بعد الحداثة .. السرعة .. الدقة .. الغاية النهائية .. هناك مرضى يأتون إلينا وهم غير مستعدين أصلاً للكلام .. إننا نعاملهم كما تعامل جليسة الأطفال الطفل .. نلهث وراء معلومة صغيرة ، وفي كثير من الأحيان نؤسس روشتة الدواء على مجرد افتراضات سطحية ومظهر خارجي ..
- وتتقاضون ثمناً باهظاً ..
- واصل في قصة الراقصة اليابانية فهذا أفضل ..
- آه .. فجأة فقدت كل مشاعري .. هكذا فجأة كما يتوقف المطر .. سحابة إنسانيتي تبددت .. رأيت الماضي كله صفراً كبيراً .. ارتجفت قدماي .. وبلل العرق جسدي .. فوضى هاجت في عقلي .. وومض بريق أسود في عيني .. شعرت بالنعاس .. بل .. بل بالنعاس والإرهاق والتعب الشديد .. كان الناس من حولي يصفقون ويطلقون الصفافير وأنا أذوب كقطعة ثلج ..
- ربما تكون نوبة ذعر .. فلا شيء علمي في قصتك هذه ..
- لا أعرف ..
- عليك أن تثق فيَّ .
- كنت أتثاءب .. وانتهى العرض بسقوط الراقصة ميتة .. في التمثيل طبعاً .. وانطفأت المصابيح .. وانطفأ معها آخر شعور لي بآدميتي .. نسيت سيارتي ومشيت على قدمي .. وتمنيت أن تبتلعني الأرض .. ثم سقطت وغفوت .
- إنها تجربة مخيفة ..
- هي كذلك بالفعل .. ومع ذلك فقد تغيرت حياتي بعدها بالكامل .. لقد أصبحت عقلاً محضاً .. كروبوت .. خطواتي كالمعادلات الرياضية .. علاقاتي براغماتية .. لا حدود لصلابتها وتشرنقها حول الذات .. ذاتي العارفة .. المنفصلة عن الموجودات .. الوحيدة ، ولو كنت أحمل ذرة مشاعر لقلت المستوحشة .. ولكن لا .. فلازلت أشعر بالخوف .. تصور .. هل تصدق أن الخوف الذي كنت أمقته صار اليوم هو رابطي الوحيد ببشريتي .. إنه الآن نعمة ..
- وهل تصدق أنك تشترك مع مليارات البشر في استحواذ الخوف على مجرى حياتهم .. أنهم خائفون .. يعملون بجهد لأنهم خائفون ، يتزوجون لأنهم خائفون ، يتعاركون لأنهم خائفون ، يتحدثون لكسر الخوف ويصمتون عندما تنتابهم المخاوف .. لستَ وحيداً صدقني ..
- لكنهم يحملون مشاعر أخرى ..
- كلها يحركها الشعور الوحيد وهو الخوف .. كل ما حدث لك أنك استطعت تركيز شتات المشاعر البشرية في الفكرة الرئيسية وهي الخوف .. أنت الآن الأكثر عقلانية في العالم .
- لكنني لا أحب هذا الشعور .. إنه قاتل .. أريد أن أرجع بشرياً كما كنت .. حتى ولو عشت شتات مشاعري من جديد ..
- سيعود إليك الفصام والإكتئاب والوسواس القهري بقوة أكبر مما كانت عليه في السابق .. استمتع يا فتى .. استمتع بكونك عقلاً محضاً ..
- لكنني لا أشعر بالاستمتاع .. أنت لم تفهمني .. أنا لا أشعر بشيء سوى بالخوف ..
- سأصرخ الآن يا الفاضل بأعلى صوتي وليذهب النائمون إلى الجحيم .. أنت الآن سوبرمان .. سوبرمان .. لا أحد مثلك .. أنت صاحب العاهة المستديمة الوحيدة التي تجعلك أكثر قوة .. والخوف صدقني هو ليس أكثر من بقايا بشريتك .. استفد من عاهتك اللاشعورية هذه في تحقيق ما كنت تحلم به في السابق .. أدرك أنك فقدت أحلامك .. ولا أطالبك بأن تحلم من جديد ولكني فقط أطلب منك أن تستدعيها إلى الذاكرة .. أن تتذكر ماذا كانت أحلامك .. وأن تعمل على تحقيقها ..
- فكرة ممتازة .. ولكن .. ماذا كانت أحلامي .. الأحلام مشروعة ولكنها تظل أحلام ..
- يؤكد الجميع بأنها مجانية .. وأن هذا أجمل شيء فيها ..
- مجانية لأنها لا تعود على الفرد بالنفع ..
- يمكنها أن تتحقق..
- ما يتحقق ليس الأحلام بل الأماني ..
- هذا مفهوم شرطي .. إن القضية تعتمد على الحظ والقدر ..
- ليس حظاً أو قدراً إنما قرارات خاطئة وصائبة .. نحن نتاج قراراتنا .. سلباً وإيجاباً ..
- لقد أصبحتَ عقلاً بالفعل .. إنك تخيفني ..
- لقد انتهت زجاجتنا ..
- ولم نسكر بعد .. أين تعلمت اليابانية؟
- التقيت بكيم أثناء دراستي للغة الانجليزية ، وبدأت قصة صداقة .. علمتني اليابانية .. وفشلت في تعليمها العربية ..
- قصة حب؟
- رفضت .. كانت تجلس معي شبه عارية فطلبت منها أن نمارس الجنس لكنها أكدت لي بأنها تحب زوجها ..
-كانت متزوجة إذن ؟
- وكان زوجها غائباً .. كان يعمل في منظمة دولية وكان كثير التنقل..
- لو كنت فرويدياً لقلت بأن سبب إنهيار مشاعرك في المسرحية هو سبب امتناع كيم ورفضها لممارسة الجنس معك ..
- لا .. كانت مجرد صداقة .. رغم أنها كانت جميلة لكنني لم أفكر كثيراً في تطوير العلاقة أكثر من مجرد تسولي للجنس مرة واحدة ولم أكررها بعد ذلك ..
- أما أنا فإنني اختار الطريق الأسهل والمباشر .. زواج ..
- لقد اخترت مرة واحدة ..
- مرة واحدة وأخيرة .. ولكن دعني أصدقك القول فكل خياراتي في الحياة كانت الخيارات السهلة .. الانهزامية.. حتى ولو كانت مرهقة .. عملت في مهنة لا أحبها ولكنها متوفرة .. وتزوجت امرأة لم أحببها ولكنها كانت المتوفرة .. وهكذا حياتي .. أمضي في أقرب منعطف .. وأدخل أول مطعم ولا أفكر في الشارع الذي خلف منزلي .. وأعتقد أن أغلب الناس هكذا .. إن المجازفين هم رجال الأعمال .
- يا دكتور ؟
- هذه استشارة بما أنك ناديتني بالدكتور ..
- بالفعل .. إنني إنني أشعر بشعور غريب .. إنني أتقلب بين الفينة والأخرى بين التفاؤل والتشاؤم .. ولا أستقر على حال .. الخوف والارتياح ..
- أنت من النوع الذي لا يستجيب للأدوية بسهولة .. عليك بزيادة الجرعة ..
- هذه هي المرة الرابعة التي تزيد لي فيها الجرعة وكل النتيجة هي أنني فقدت مشاعري المختلفة ولم يتبق لي سوى هذا الشعور المسمى بالخوف ..
- ما هو الخوف الذي تشعر به؟
- كأنه صعقة كهرباء .. جسدي يرتعش وأشعر بأن العالم أضيق من خرم إبرة .. وأنه شديد الظلام .. وأنني وحيد .. بلا أمل في المستقبل ... تنهار الأحلام .. بطن قدمي يتشنج .. وأكتافي تصاب بالتنميل .. أشعر بأن الزمن سيفترسني .. لا أعرف هو خليط من كل هذا وأكثر..
- والأعداء ..
- لا أعرف .. أشعر بأن الكل عدو .. أو أنني يجب أن أنعزل عن العالم .. حانق أنا على هؤلاء الذين يتدخلون في حياتي كأنهم أوصياء ..
- تصلح معك أناركية باكونين ..
- بأكونين؟
- ثوري روسي أناركي عارض السلطة .. له مفاهيم تجاه الحرية الفردية ..
- بالفعل إن حريتي مقيدة .. في مجتمعنا اللاهوتي هذا ..
- حتى في العالم الحر توجد قيود .. الرأسمالية .. شركات الإعلام .. الجيوش .. حين تتحول الليبرالية إلى وحش .. فإنها تأكلك من قمة رأسك إلى أخمص قدميك ..
- والحل ..
- الحل هو أن تكون وحشاً وهذا ليس سهلا إنه برمجة كاملة للإنسان منذ نعومة أظافره ..
- لم أتربى على أن أكون وحشاً ..
- إذن ستعيش كفريسة .. وهذا ليس عيباً .. الأغلبية هي فريسة .. كلنا فرائس ..
- سئمت من الحياة ..
- إذن .. غادر ..
- هكذا بكل بساطة؟
- هكذا بكل بساطة .. سأتوقف عن الشرب الآن .. عقلي يدور .. إلى أين أنت ذاهب ..
- سأغادر ..
- إلى أين ؟
- إلى ما وراء الحياة ..
- هل أنت جاد ..
- نعم .. سئمت الأدوية .. والأناركية والاشتراكية والرأسمالية .. سئمت كل شيء..
- ألا يمكنك أن تمنح نفسك فرصة أخرى؟
- لا .. أنت قلت لي أن أغادر بكل بساطة .. وسأغادر بكل بساطة .. بدون تفكير طويل في الأمر ..
- حسنا .. لا أستطيع أن أقول لك إلى اللقاء ..
- لا أعرف .. فربما صدقت الأديان وتقابلنا يوماً ما ..
- صحيح .. امنحني شيئاً لأتذكرك به ..
- لن تنساني أبداً .. ولكن خذ ساعتي هذه ..
- إنها رمز للزمن ..
- حياتنا كلها رمز ..
- صحيح ..
- وداعاً ..
- وداعاً..
(تمت)