مجيد حسيسي - الموت الأبيض.. قصة

أخذت فرائصه ترتعش..وجسده يرتعد ،اتسعت حدقتا عينيه ، فتح شفتيه ضاغطا على أسنانه ،لا يقوى على التـّـنفس ، ترنـّـح قليلا.. ثمّ وقع.. ضغط على معدته بكلتا يديه ، فتح شفتيه من جديد فسال لعابه على ذقنه التي لم تعرف الحلاقة منذ أيام ، حاول جاهدا أن يقف ، فاتكأ على جانب السرير ووقف منحني الظهر يسعل.. فيتطاير رذاذ اللعاب والبصق إلى كلّ جانب، يتنفس ملء رئتيه ، فيحمرّ وجهه قليلا ثمّ تتلون الأشياء من حوله بلون رمادي ، فيمدّ يده فاتحا درج خزانة صغيرة باحثا عن شيء ، يخرج شيئا من الدرج ، يضعه على منضدة أمامه ، يقرّب وجهه من المنضدة .يضع سبابته اليمنى على منخاره الأيمن ، وبالأيسر يشمّ ما على المنضدة بكل قواه..
يعتدل في وقفته..ويخرج !
تبعثرت أشياؤه في الغرفة وتناثرت في كلّ ركن من أركانها ، سترته الحمراء على كرسي قرب الخزانة ، بنطاله الأبيض على السجادة قرب السرير ، علبة سجائره مفتوحة ملقاة بجانب الباب ، ولاّعته فوق حافـّـة السرير ، غرفته توحي بغرفة النجفي.. لكنـّـها .. بدون عناكب..
مع انفتاحة الرؤى ، كان ملقى على أحد المقاعد في إحدى الحدائق العامـّـه ، تفوح من أنفاسه رائحة الخمرة الكريهة ، يحاول أن يبلع ريقه فيشعر بألم في حلقه فتنبلج عيناه عن نظرة ضعيفة ما تلبث أن تنسدل أهداب عينيه عليها.. ليعود إلى نومه الثقيل دون أن تزعجه أو توقظه أصوات السيارات التي تقل العمال إلى أعمالهم.. يداه ممدودتان حول المقعد وقد اتخذ من السماء لحافا.. جثة.. أو شبه جثة ، وصوت شخيره الناعم هو الدليل الوحيد على وجود روح حيـّـة داخل هذا الجسد ..!!
فجأة..ترتسم ابتسامة على شفتيه..
سعيدا كان ، أحبّ الحياة بكل ما أوتى من محبـّـه ، فقد كان في بيت والديه الإبن البكر المدلل ، قـُـدِّمت له أشياؤه دونما أدنى تعب وحصل على مبتغاه لمجرّد أن طلب..
رآها..فتاة في مثل سنـّـه ، بعينيها السوداوين ، بقوامها الرشيق ، بشعرها المبعثر على كتفيها ، بمشيتها الرقيقة .أحبـّـها..وتمنى أن تكون رفيقة دربه وحياته..
كان في مقتبل العمر ، لم يمرّ بتجارب الحياة المرّة ، لم يعان ِ من مشاكل الحياة ومشاقها ، أحسّ فجأة وكأنّ أبواب الحياة موصدة بوجهه لمجرّد أن.. رفضت لقاءه.. لم يحسن التـّـصرّف . فرفضته..
وفجأة..تتوارى الابتسامة عن ثغره، ويقطب ما بين جبينه..حزينا كان عندما صفعته الحياة صفعتها الأولى ، فعاد إلى بيته وقد قرر أن ينتقم منها.. وهو لا يعلم ،أنـّـه بذلك ينتقم من نفسه، ظنـّـا ً منه أنـّـه يحق له الانتقام من إنسانة لم تستظرفه ، ولم توافقه الرأي ، ولمجرّد أنـّها لم تنصع لأوامره ولم تلبـّّي رغباته..دخل منزل والديه متـّـجها نحو درج طاولة غرفة الصالون ، فتحه.. وأخرج منه مبلغا من المال، دسـّـه في جيبه.. وخرج.. وفي عينيه.. غضب السنين !!
فجأة.. تعود ابتسامة صغيرة لترتسم على شفتيه..
دخل حانة وطلب زجاجة ويسكي وبدأ يشرب.. الكأس..تلو الأخرى ، حمل زجاجة الخمر في يد وكأسين في الأخرى واتجه لإحدى زوايا الحانه، حيث جلست هناك امرأة في العقد الرابع من عمرها، يزين وجهها قناع الزيف ، مبتذلة رخيصه..جالسها وناولها كأسا من الخمر ، وشربا.. وغابا في جحر الخطيئه!!
تذوب الابتسامة.. ويعود التجهـّـم واضحا على وجهه!!!
طرده والده من المنزل بعد أن ساء سلوكه ، فأجـّـر له غرفة في حيّ قديم في المدينه ، شاب عاطل عن العمل ، لا مال له ولا مصدر رزق ، يعيش في حالة يرثى لها..
كان ينتظر حتى ساعة متأخـّـرة من الليل ، لتعود فتاة الحانة إليه بزجاجة خمر وبعض الطعام،فيأكل ويشرب، ويأخذ نصيبه من المال ، ويتركها على السرير تعاني ما تعانيه من عذاب الضـمير.. ويخرج !!
تأبى الابتسامة أن تعود إلى شفتيه..
يسبر في شوارع المدينة مترنحا ، بلا هدف أو غايه ، يسير يبحث له عن هدف، يبحث عن غايه، يبحث عن نفسه التي أضاعها..
يلتقيه..شاب في مثل سنـّه أو أكبر بقليل ، يتأبطه..يسير بجانبه..يحادثه..يضحكان..يسيران قليلا..يتوقفان..يـُخرج الغريب من جيبه شيئا يعطيه إيـّـاه .يهمس في أذنه.. ويتركه لشأنه.. يضع الشيء في كفّ يده ، يقرّب أنفه منه . يستنشقه بقوة ، يحرك ذراعيه لكلا الاتجاهين كمن يقوم بتمارين رياضيه..
وعادت الابتسامة تظهر فوق ثغره..
عاد إلى غرفته.. سعيدا . ضاحكا ملء فيه..كيف لا.. والحياة أمست حلوة لمجرّد أن فتح منخاريه للحياه..!!!
عاد الشخير الخفيف يقطع الصمت ويوقظ الهدوء..فتنبعث الجلـَـبة من كلّ مكان.. وصاحبنا في سبات عميق..هكذا أمست حياته.. وعلى هذا النحو يعيش..!!
تبعثرت أشياؤه في الغرفة وتناثرت في كلّ ركن من أركانها.. وعلى السـّـرير.. جثـّـة أو شبه جثـّـه. وصوت شخير ناعم.. هو الشيء الوحيد الدّال على روح حيـّـة تسكن هذا الجسد...؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى