مد رأسه خلف ظلال الطيور المحلقة فوق الشمس ، فتثاقلت عليه أوجاع القلب المغموس في طست الأحماض المُرهقة ، لاك بأصابعه صلابة القضبان ليعتصر الألم الذي يفتت أحشاءه المقبلة على الانفجار ، حصر نظراته بين قمم الجبال الملتفة من حوله ،حتى أوغلت في صدره ريبة الانطلاق بعد تلك السنين التي قضاها بين أنصاب هذا المكان المتخم بأبخرة الأفواه المحترقة ، اعتاد على صوت الطعنات ، ووقع الأقدام ، وجادية السوط ، وصوت القهر المنطلق من بين أنياب البشر المتعجرف بآمال العظمة ،لم يتصور أبداً أنه سيعود ليأكل من تلك الأطباق المختلفة التي كانت تنظمها له أمه عند رأس المائدة المنتظرة صباحه ، وظهيرته ، ومسائه ، حرك طرف لسانه يمسح شفتيه الملوثتين ببقايا العدس المضحك ، تذكر عندما أَجهز عليه أول مرة ، بعد حرمانه من الطعام والشراب طيلة ثلاثة أيام متتالية ، كانت بمثابة حضانة الاستقبال التي تخبيء خلفها تلك الأدوات المتفردة من أحذية سوداء باهتة ، وأكف سمراء تلصق بها قضبان من لحم ، وبعض من رذاذ الشتائم المحلقة ، وأشياء أخرى يجهلها حتى هذه اللحظة ، إلا شيئاً واحداً قد عرفه مصادفة عندما كان ينتظر دوره في طابور دورة المياه المستباحة ، اكتشف وللمرة الأولى وبعد كل هذه السنوات التي قضاها تحت أقدام هذا المكان ، أن هناك كوة تفتح وتغلق في جسد هذا السور الملتف ، المتوج بأنياب حديدية تغيظ الشمس،و التي مزقت جسد أحد زملائه عندما حاول الفرار ، من تحت طائلة عرش المملكة ، كنا نسمع صوت لحمه يتمزق ، و فرقعة عظامه عندما كانت تتطحنها أسنان الكلاب المتعطشة للحظات الهروب ، هاجت رائحة الخوف في المكان ، بعد أن أنضجت جلودنا بأزنام السياط المصهللة بالندم ، عدت .. عاد سريعا بذاكرته عند قفا من يقف أمامه في دور الانتظار ، حبست أنفاسي ، ارتعدت عندما تذكرت أنه لا يُسمح لنا بأن نعمل عقولنا هنا أو هناك ، من يفكر يخضع لجلسات الكهرباء ، و يحرم من العدس المعسول بالجوع أيام وأيام ، هززت رأسي وتأملت تعاريج قفاه المتخمة بالشيخوخة ، انطلقت بكلمة نظر لها كل المنتظرين ، حتى الكلاب نالت حظها من التلفت ، والتبصص -إياك أن تفكر-كانت هذه هي الكلمة الفضائية المنطلقة بنهي الواقع المتسرطن داخل خلايانا المخدرة ، تمدد وقت الانتظار هذا اليوم ، تذكر شريحة البطيخ التي جادوا علينا بها أمس على( سرفيس) العدس كوجبة إضافية بمناسبة حلول شهر رمضان ، بيضاء مائلة للحمرة ، نحيفة غير منتظمة ، ، علم أنها السبب وراء طول البقاء في طابور قضاء الحاجة باليوم التالي ، كان ينحني على كفيه المسندتين أسفل بطنه المنتفخة ، وخزته برأس حذائي من الخلف -قلت لك إياك أن تفكر أبداً - التف بجسده نحوي حتى كاد أن يشبه شريحة البطيخ وهلال رمضان وأشياء أخرى أراها جيدا ،ثم هز رأسه بعدم الوقوع في هذا الخطأ مرة أخرى ، قفز خلفنا أحد العظماء عندما وصل إليه همسنا ، سار يتفحصنا ، أمسك رأسي ، عصرها بإصبعيه ، ثم قذف بها لتضغط على عنقي ، وترتد في مكانها ، تركني ، ثم اقترب منه ، تشمم رائحته ، أمسك برأسه هو الآخر ، أحكم إلصاق كفه بجبهته ، احمرت عيناه ، و صرخ في وجهه - فيمَ كنت تفكر يا ابن ...؟؟ - دفعه بقوة ، ألقاه على الأرض ، داس عنقه بحذائه ، ضربه بهراوته على ظهره ، لم يصرخ ، لم يتأوه ، لم ... لكن دموعه كانت تتبخر على الأرض الإسفلتية عندما انتشرت بقع صفراء على سرواله الأبيض ....
**** **** ****
ألقتنا السيارة المعتمة على قارعة الطريق ، رحلت مع غمامة الصوت المزمجر ، نظر كل منا صوب الآخر ، كأننا نرى أنفسنا لأول مرة ، ابتسمنا ... الآن آن لنا أن نقفز ، ونمرح ، ونمزح ، ونضحك ، ونسهر، ونبك دون ألم ، أو .. - بكينا - رقصنا، قفزنا ، ضحكنا ، صحنا بأصواتنا لنسمع الصدى:
- نحن أحرار الآن؟
- نعم أحراراً .. أحراراً
- الآن سأدخن ،و أشاكس بنات أفكاري ، أتزوج من خطيبتي و..
- مهلاً مهلاً . ههههه هههههه هههه
- ما الذي يضحكك ؟!
- تتزوج من خطيبتك ، و هل تعتقد أن خطيبتك في انتظارك يا محمد هههههه ؟
- محمد؟؟!، لأول مرة أسمع أحداً يناديني باسمي منذ .. خمسة عشر عـ ... خمسة عشر عاماً .. ياااااااه ..
- نعم. خمسة عشر عاماً يا محمد .
- لقد كبرت إذن ...
- بل كبرنا معاً..
**** **** ****
كنا نذوب وسط زحام المدينة ، الشوارع مسخت ، البيوت ، العمارات ، السيارات تحورت ، زخم وضجيج ، صراع ، وسباق نحو الذهاب أو العودة ، هذا يحمل حقيبة ، وهذا يحمل كتباً ، و آخر يحمل خبزاً ، وهذه تسير شبه عارية ، كل شيء يجري ، يجري ويلهث ، كشريط سينما أجبر على الإسراع بالمشاهد ، أو كأننا سقطنا في فيلم من أفلام (شارل شابلن) بحلة جديدة ، الألفاظ تتقافز حولنا من أناس يتحدثون بأجهزة صغيرة ، تشبه أجهزة العظماء ، نفهم بعضها ، والبعض الآخر لا يفهمنا ، ولا نفهمه ، كيف سنتعامل مع هؤلاء البشر؟ ، كيف سنتحدث إليهم؟ ، النساء تمردن ، الألوان أصبحت أكثر لمعاناً ، الإعلانات تتحرك بمنتجات جديدة ، لافتات المحلات تزهو بالأضواء والأسماء ، أشكال ملونة ، ووجوه مصورة ، أبطال لأفلام سينما نقرأ أسماءهم لأول مرة ، الناس تنظر إلينا كأننا بعثنا من الكهف ، لم نعد نعرف من أين نذهب ومن أين نأتي ، تهنا ، تفرقنا اختفى عني (محمد) وسط أبراج اللحم المتأفف ، سقطت يدي من يده دون أن أشعر ، أو يشعر هو ، دلفت إلى زقاق صغير ، شعرت ببعض راحة للماضي العالق على جدران المحال والمنازل المتهالكة ، الضوء خافت جداً ، و حرارة الجو مرتفعة ، من الممكن أن يأتي العظيم ليجس جبهته فيعلم أنه يفكر ؟؟ - ابتسمت - مازلت أبحث عن (محمد) ، أو عن طريق منزلنا ، لا أستطيع أن أفكر ، تجمد عقلي أمام اتخاذ القرارات وحسن التصرف .. سمعت صوتاً جهوراً يأتيني من بعيد ، الصوت يقترب ، من الشارع المجاور ، دفعني الفضول لاكتشاف الفاعل ، اتجهت نحوه ، وكانت المفاجأة ، بائع جوال يدفع أمامه عربة خشبية محملة بثمار البطيخ ، ابتسمت ، عندما حدثتني نفسي بأنني لأول مرة منذ خمسة عشر عاماً أرى بطيخة كاملة
**** **** ****
ألقتنا السيارة المعتمة على قارعة الطريق ، رحلت مع غمامة الصوت المزمجر ، نظر كل منا صوب الآخر ، كأننا نرى أنفسنا لأول مرة ، ابتسمنا ... الآن آن لنا أن نقفز ، ونمرح ، ونمزح ، ونضحك ، ونسهر، ونبك دون ألم ، أو .. - بكينا - رقصنا، قفزنا ، ضحكنا ، صحنا بأصواتنا لنسمع الصدى:
- نحن أحرار الآن؟
- نعم أحراراً .. أحراراً
- الآن سأدخن ،و أشاكس بنات أفكاري ، أتزوج من خطيبتي و..
- مهلاً مهلاً . ههههه هههههه هههه
- ما الذي يضحكك ؟!
- تتزوج من خطيبتك ، و هل تعتقد أن خطيبتك في انتظارك يا محمد هههههه ؟
- محمد؟؟!، لأول مرة أسمع أحداً يناديني باسمي منذ .. خمسة عشر عـ ... خمسة عشر عاماً .. ياااااااه ..
- نعم. خمسة عشر عاماً يا محمد .
- لقد كبرت إذن ...
- بل كبرنا معاً..
**** **** ****
كنا نذوب وسط زحام المدينة ، الشوارع مسخت ، البيوت ، العمارات ، السيارات تحورت ، زخم وضجيج ، صراع ، وسباق نحو الذهاب أو العودة ، هذا يحمل حقيبة ، وهذا يحمل كتباً ، و آخر يحمل خبزاً ، وهذه تسير شبه عارية ، كل شيء يجري ، يجري ويلهث ، كشريط سينما أجبر على الإسراع بالمشاهد ، أو كأننا سقطنا في فيلم من أفلام (شارل شابلن) بحلة جديدة ، الألفاظ تتقافز حولنا من أناس يتحدثون بأجهزة صغيرة ، تشبه أجهزة العظماء ، نفهم بعضها ، والبعض الآخر لا يفهمنا ، ولا نفهمه ، كيف سنتعامل مع هؤلاء البشر؟ ، كيف سنتحدث إليهم؟ ، النساء تمردن ، الألوان أصبحت أكثر لمعاناً ، الإعلانات تتحرك بمنتجات جديدة ، لافتات المحلات تزهو بالأضواء والأسماء ، أشكال ملونة ، ووجوه مصورة ، أبطال لأفلام سينما نقرأ أسماءهم لأول مرة ، الناس تنظر إلينا كأننا بعثنا من الكهف ، لم نعد نعرف من أين نذهب ومن أين نأتي ، تهنا ، تفرقنا اختفى عني (محمد) وسط أبراج اللحم المتأفف ، سقطت يدي من يده دون أن أشعر ، أو يشعر هو ، دلفت إلى زقاق صغير ، شعرت ببعض راحة للماضي العالق على جدران المحال والمنازل المتهالكة ، الضوء خافت جداً ، و حرارة الجو مرتفعة ، من الممكن أن يأتي العظيم ليجس جبهته فيعلم أنه يفكر ؟؟ - ابتسمت - مازلت أبحث عن (محمد) ، أو عن طريق منزلنا ، لا أستطيع أن أفكر ، تجمد عقلي أمام اتخاذ القرارات وحسن التصرف .. سمعت صوتاً جهوراً يأتيني من بعيد ، الصوت يقترب ، من الشارع المجاور ، دفعني الفضول لاكتشاف الفاعل ، اتجهت نحوه ، وكانت المفاجأة ، بائع جوال يدفع أمامه عربة خشبية محملة بثمار البطيخ ، ابتسمت ، عندما حدثتني نفسي بأنني لأول مرة منذ خمسة عشر عاماً أرى بطيخة كاملة