كانت عين عبدالله تشبه عين النسر. حادّة، تنقضّ بسرعة على أيّة فرصة. بعد مرور ستة أشهر على زواجه تحوّلت إلى عين نعامة، تركض من مكان إلى آخر دون هدى! حتّى إذا علم أن زوجته تنتظر مولوداً، صارت لا تختلف في شيء عن عين دجاجة، لا يشغلها سوى البحث عن حبوب تأكلها!
شاهد فتاة مليحة نحيفة الجسم. فسأل عنها. فقيل له الكثير. أمور لا تشجّع أيّ إنسان على الاقتران بها. كقولهم أنّها مريضة نفسياً، وأنّ أمّها توفّيت جرّاء مضاعفات المرض نفسه!
لكنه أصمّ أذنيه إلا عن شيء واحد. وهو إنها ابنة فلان من الناس. التاجر الثري، صاحب المحلات المنتشرة في كلّ مكان. فابتسم ابتسامة بحّار تاه على خشبته طويلاً حتى حطّ على شاطئ الأمان.
وقال لنفسه:
- إنّها فرصتي التي وعدني بها القدر. ويجدر بي أن أتمسّك بها تمسّكي بحلم الثروة والغنى.
ورسم خطة للتقرّب بالزلفى إلى أبيها وإخوتها. ووجد الفرصة سانحة، من خلال مجلسهم. فكان لا يفوّت ليلة دون أن يحضر المجلس، مبادراً بخدمة الحضور، مشاركاً في أحاديثهم، مشيعاً جوّاً من الفكاهة طالما افتقر إليه المجلس.
حتّى لفت انتباه صاحب المجلس، الذي أعجب بوسامته وملاحة وجهه، وطلاوة حديثه وقدرته على سرد النكت واستحضار القصص والحكايات. وكذلك بسذاجته، وتباهيه على رغم وضعه المادي المتواضع. خصوصاً بعد أن علم أنه بن لفلان المرحوم، المعروف بظرفه وخفّة دمّه. فصار يعتمد عليه، حتّى أوكل إليه كلّ شئون المجلس.
ثمّ جاء يوم، شعر فيه عبدالله وكأنّ السّماء رضيت عنه أخيراً! وشاءت أن تبدّل حياته إلى النقيض. لقد كان في المجلس. حين سأله صاحبه، فجأة دون مقدّمات:
- عبدالله... لماذا لا تتزوّج؟!
التفت إليه باهتمام:
- لا أملك المال اللازم.
وكان يتوقّع من التاجر أيّ شيء إلا أن يقول له بوضوح:
- ماذا لو توافرت الزوجة والمال... هل تتزوّج؟
قال وكأنّه في حلم:
- طبعا... لكن من هذه الفتاة التي تقبل بي؟!
- إنّها ابنتي!
وأوشك أن يغمى عليه! فالرجل الثري ليس له سوى ابنة وحيدة! فهي إذن الفتاة التي شاهدها. وهي التي سعى طوال هذه المدّة للتقرّب من أبيها، طمعا في الزواج بها! فكيف تسخو المقادير كلّ هذا السّخاء، وتدفع إليه بأمنياته دفعة واحدة؟!
ظلّ ساكتاً، غير قادر على النطق. فسأله التاجر، وعلى فمه ابتسامة أبٍ شفيق:
- سكوتك هذا دليل رفض أم قبول؟
أجاب بسرعة، مشفقاً من ضياع الفرصة:
- بل سكوت القبول. وهل أنا مجنون كي أرفض مصاهرة رجل عظيم مثلك؟!
وأحسّ أنه دخل الجنة فعلاً، عندما قال الرجل الثري:
- على بركة الله إذن. ستكون الخطوبة والزواج في ليلة واحدة!
ولم يتفكّر في عواقب الخطوة التي سيخطوها! فلطالما حلم بالثروة. وها هي تأتيه سافرة بلا قناع. ولم يشغل نفسه حتّى بالسؤال: لماذا هذه العجلة؟! بل لجّ في عناده فهوّن على نفسه كّلّ شيء، وقال لها:
- وماذا لو كانت الفتاة مريضة؟! بضعة شهور على أكثر تقدير، وسأعتاد الحياة معها!
وتمّ له ما أراد. تزوّجها، وانتقل وإيّاها إلى شقة فاخرة، في إحدى عمارات أبيها.
والحقّ أنّه لاحظ اضطراباً في شخصيتها منذ الساعات الأولى التي جمعته بها قبل الزواج. كان ارتباكها، تلعثمها، يخفي شيئاً أكبر من مجرّد الخجل. إلاّ أنّ عين «النسر» لم تبصر سوى الطريدة، التي أوقعها القدر في طريق شاب يتفجّر رغبة لدخول عالم المال والثراء.
لكنّ شهراً واحداً لا أكثر، كان كافيا ليدرك أنّه ألقى بنفسه من شاهق إلى بحر متلاطم الأمواج. فالفتاة كانت مريضة فعلاً، لكنه مرض يحوّل حياة أقرب الناس إليها إلى جحيم.
كان الوسواس القهري يغزو رأسها الجميل! وكان البكاء ديدنها ليل نهار! فهي على الدوام تتطلّع في يديها وتتوهّم أنّها مريضة! وتتصوّر أن جميع الناس يكرهونها ويتمنّون موتها. أمّا الكآبة فطيف ثقيل يخيّم على رأسها، ويملأ نفس من يجتمع بها مرارة وشقاء بها. ولا يمرّ يوم دون أن تتشكّى وترغم زوجها على الذهاب بها إلى المستشفى!
أمّا الحقيقة التي صدمته حقّاً، فهي النظرات التي كانت تنصبّ حمما عليه، من قبل أبيها، كلّما لمح طيفا من الشكوى يّطلّ في عينيه. نظرات تخبره بوضوح أنّه ليس بكفؤ لابنته. وأنّه مَنّ عليه بنعمة تستلزم أن يحافظ عليها. وإلاّ فإن لعمّه، معارفاً وطرقاً تدخله في جهنم، حيث لا سبيل للهروب!
فمن حسبه أطيب الناس، بل توهّم أنّه ساذج يمكن خداعه، كشف عن قلبه، فإذا به هو الغرّ عديم الفهم والذوق!
لقد هيّأ الشباك تماماً لاصطياده. فعندما ضاق وأبناؤه، بابنته، بحيث أنهم لم يعودوا يطيقون الجلوس معها حتّى، قرّروا أن يزوّجوها من ساذج يسهل خداعه!
وكان له ما أراد. أحكم أبواب السجن عليه جيّداً. فتحوّلت الشقّة إلى عيادة! بها مريض واحد هو زوجه. وممرّض اسمه عبدالله، عليه أن لا يفارق المريضة، وأن يكون تحت تصرّفها ليلاً ونهاراً.
وحتّى لا يفكّر لحظة في الانفصال عن مريضته، غلّ يديه وقدميه بمؤخّر صداق لو قطع عمره في جمعه لما استطاع!
وكان في البداية يشعر بقدرته على التأقلم مع أعراض هذا المرض. ويعلّل نفسه بنهاية قريبة لعذابه. لكنّ بمرور الأيام وتتابع الليالي، أدرك عبدالله أنّه يعيش في فجوة وسط جبل من الرمال! وعندها غشيته كآبة ضيّقت عليه منافذ حياته، وسمّمتها بنَفَس كريه يشبه رائحة غاز قاتل.
لقد جُنّ تماما! وتحوّل إلى نعامة حقّاً. فنظرات عينيه لا تستقرّ على حال. وشروده يدفع للرثاء. وقلبه ينتفضّ لدى أيّ حركة! ورجفة جسمه ورعشة أصابعه، تنبيء عن ألم نفسي شديد.
وإذ أحسّ أنّه كالطائر الذي وقع في براثن فخّ شديد الإحكام، انقلب إلى الطعام والشراب، يزدرد منه ما يعوّض به عن حالته النفسية الصعبة! على رغم إدراكه تمام الإدراك، أنّه وسيلة أخرى من وسائل عمّه، لتكميم فمه، حين يأمر خادمه في كلّ صباح، بملأ ثلاجة الشقة بكلّ أصناف الطعام التي لم يذق عبدالله طعمها من قبل!
وشيئاً فشيئاً، ومع علمه أن زوجه حامل، انقلب عبدالله إلى دجاجة مسكينة، تأكل وتشرب كّلّ ما يقدّم إليها. فهو يغشى مجلس عمّه، صامتاً، ساهماً، مشغولاً بعالمه الخاص. لا يضحك ولا يبكي. يشرف بهمّة على الولائم، حتّى إذا أكل الناس وصدروا شباعاً، جمع ما تبقى من طعام. وحمله معه إلى بيته، الذي تفضّل به عليه عمّه، بعد الشقة الفاخرة.
شاهد فتاة مليحة نحيفة الجسم. فسأل عنها. فقيل له الكثير. أمور لا تشجّع أيّ إنسان على الاقتران بها. كقولهم أنّها مريضة نفسياً، وأنّ أمّها توفّيت جرّاء مضاعفات المرض نفسه!
لكنه أصمّ أذنيه إلا عن شيء واحد. وهو إنها ابنة فلان من الناس. التاجر الثري، صاحب المحلات المنتشرة في كلّ مكان. فابتسم ابتسامة بحّار تاه على خشبته طويلاً حتى حطّ على شاطئ الأمان.
وقال لنفسه:
- إنّها فرصتي التي وعدني بها القدر. ويجدر بي أن أتمسّك بها تمسّكي بحلم الثروة والغنى.
ورسم خطة للتقرّب بالزلفى إلى أبيها وإخوتها. ووجد الفرصة سانحة، من خلال مجلسهم. فكان لا يفوّت ليلة دون أن يحضر المجلس، مبادراً بخدمة الحضور، مشاركاً في أحاديثهم، مشيعاً جوّاً من الفكاهة طالما افتقر إليه المجلس.
حتّى لفت انتباه صاحب المجلس، الذي أعجب بوسامته وملاحة وجهه، وطلاوة حديثه وقدرته على سرد النكت واستحضار القصص والحكايات. وكذلك بسذاجته، وتباهيه على رغم وضعه المادي المتواضع. خصوصاً بعد أن علم أنه بن لفلان المرحوم، المعروف بظرفه وخفّة دمّه. فصار يعتمد عليه، حتّى أوكل إليه كلّ شئون المجلس.
ثمّ جاء يوم، شعر فيه عبدالله وكأنّ السّماء رضيت عنه أخيراً! وشاءت أن تبدّل حياته إلى النقيض. لقد كان في المجلس. حين سأله صاحبه، فجأة دون مقدّمات:
- عبدالله... لماذا لا تتزوّج؟!
التفت إليه باهتمام:
- لا أملك المال اللازم.
وكان يتوقّع من التاجر أيّ شيء إلا أن يقول له بوضوح:
- ماذا لو توافرت الزوجة والمال... هل تتزوّج؟
قال وكأنّه في حلم:
- طبعا... لكن من هذه الفتاة التي تقبل بي؟!
- إنّها ابنتي!
وأوشك أن يغمى عليه! فالرجل الثري ليس له سوى ابنة وحيدة! فهي إذن الفتاة التي شاهدها. وهي التي سعى طوال هذه المدّة للتقرّب من أبيها، طمعا في الزواج بها! فكيف تسخو المقادير كلّ هذا السّخاء، وتدفع إليه بأمنياته دفعة واحدة؟!
ظلّ ساكتاً، غير قادر على النطق. فسأله التاجر، وعلى فمه ابتسامة أبٍ شفيق:
- سكوتك هذا دليل رفض أم قبول؟
أجاب بسرعة، مشفقاً من ضياع الفرصة:
- بل سكوت القبول. وهل أنا مجنون كي أرفض مصاهرة رجل عظيم مثلك؟!
وأحسّ أنه دخل الجنة فعلاً، عندما قال الرجل الثري:
- على بركة الله إذن. ستكون الخطوبة والزواج في ليلة واحدة!
ولم يتفكّر في عواقب الخطوة التي سيخطوها! فلطالما حلم بالثروة. وها هي تأتيه سافرة بلا قناع. ولم يشغل نفسه حتّى بالسؤال: لماذا هذه العجلة؟! بل لجّ في عناده فهوّن على نفسه كّلّ شيء، وقال لها:
- وماذا لو كانت الفتاة مريضة؟! بضعة شهور على أكثر تقدير، وسأعتاد الحياة معها!
وتمّ له ما أراد. تزوّجها، وانتقل وإيّاها إلى شقة فاخرة، في إحدى عمارات أبيها.
والحقّ أنّه لاحظ اضطراباً في شخصيتها منذ الساعات الأولى التي جمعته بها قبل الزواج. كان ارتباكها، تلعثمها، يخفي شيئاً أكبر من مجرّد الخجل. إلاّ أنّ عين «النسر» لم تبصر سوى الطريدة، التي أوقعها القدر في طريق شاب يتفجّر رغبة لدخول عالم المال والثراء.
لكنّ شهراً واحداً لا أكثر، كان كافيا ليدرك أنّه ألقى بنفسه من شاهق إلى بحر متلاطم الأمواج. فالفتاة كانت مريضة فعلاً، لكنه مرض يحوّل حياة أقرب الناس إليها إلى جحيم.
كان الوسواس القهري يغزو رأسها الجميل! وكان البكاء ديدنها ليل نهار! فهي على الدوام تتطلّع في يديها وتتوهّم أنّها مريضة! وتتصوّر أن جميع الناس يكرهونها ويتمنّون موتها. أمّا الكآبة فطيف ثقيل يخيّم على رأسها، ويملأ نفس من يجتمع بها مرارة وشقاء بها. ولا يمرّ يوم دون أن تتشكّى وترغم زوجها على الذهاب بها إلى المستشفى!
أمّا الحقيقة التي صدمته حقّاً، فهي النظرات التي كانت تنصبّ حمما عليه، من قبل أبيها، كلّما لمح طيفا من الشكوى يّطلّ في عينيه. نظرات تخبره بوضوح أنّه ليس بكفؤ لابنته. وأنّه مَنّ عليه بنعمة تستلزم أن يحافظ عليها. وإلاّ فإن لعمّه، معارفاً وطرقاً تدخله في جهنم، حيث لا سبيل للهروب!
فمن حسبه أطيب الناس، بل توهّم أنّه ساذج يمكن خداعه، كشف عن قلبه، فإذا به هو الغرّ عديم الفهم والذوق!
لقد هيّأ الشباك تماماً لاصطياده. فعندما ضاق وأبناؤه، بابنته، بحيث أنهم لم يعودوا يطيقون الجلوس معها حتّى، قرّروا أن يزوّجوها من ساذج يسهل خداعه!
وكان له ما أراد. أحكم أبواب السجن عليه جيّداً. فتحوّلت الشقّة إلى عيادة! بها مريض واحد هو زوجه. وممرّض اسمه عبدالله، عليه أن لا يفارق المريضة، وأن يكون تحت تصرّفها ليلاً ونهاراً.
وحتّى لا يفكّر لحظة في الانفصال عن مريضته، غلّ يديه وقدميه بمؤخّر صداق لو قطع عمره في جمعه لما استطاع!
وكان في البداية يشعر بقدرته على التأقلم مع أعراض هذا المرض. ويعلّل نفسه بنهاية قريبة لعذابه. لكنّ بمرور الأيام وتتابع الليالي، أدرك عبدالله أنّه يعيش في فجوة وسط جبل من الرمال! وعندها غشيته كآبة ضيّقت عليه منافذ حياته، وسمّمتها بنَفَس كريه يشبه رائحة غاز قاتل.
لقد جُنّ تماما! وتحوّل إلى نعامة حقّاً. فنظرات عينيه لا تستقرّ على حال. وشروده يدفع للرثاء. وقلبه ينتفضّ لدى أيّ حركة! ورجفة جسمه ورعشة أصابعه، تنبيء عن ألم نفسي شديد.
وإذ أحسّ أنّه كالطائر الذي وقع في براثن فخّ شديد الإحكام، انقلب إلى الطعام والشراب، يزدرد منه ما يعوّض به عن حالته النفسية الصعبة! على رغم إدراكه تمام الإدراك، أنّه وسيلة أخرى من وسائل عمّه، لتكميم فمه، حين يأمر خادمه في كلّ صباح، بملأ ثلاجة الشقة بكلّ أصناف الطعام التي لم يذق عبدالله طعمها من قبل!
وشيئاً فشيئاً، ومع علمه أن زوجه حامل، انقلب عبدالله إلى دجاجة مسكينة، تأكل وتشرب كّلّ ما يقدّم إليها. فهو يغشى مجلس عمّه، صامتاً، ساهماً، مشغولاً بعالمه الخاص. لا يضحك ولا يبكي. يشرف بهمّة على الولائم، حتّى إذا أكل الناس وصدروا شباعاً، جمع ما تبقى من طعام. وحمله معه إلى بيته، الذي تفضّل به عليه عمّه، بعد الشقة الفاخرة.