أحمد رجب شلتوت - بطولة الصمت وتأويل القسوة: قراءة في رواية مصطفى البلكي

تنتمي أعمال الروائي المصري مصطفى البلكي إلى ذلك الطيف السردي الذي يدمج بين الواقعي والأسطوري، بين الحس الشعبي والبعد الرمزي، مهموما بالهامش الاجتماعي أكثر من المتن السياسي. وهو في روايته "سبع حركات للقسوة"، يكتب عن العزلة والانتظار من داخل بيت ريفي تحت الحصار، مستبدلًا البطولات الصاخبة بلحظات صمت مشبعة بالدلالة. تصدر الرواية ضمن مشروعه المتصل في مساءلة العنف والهشاشة من خلال اللغة المتقشفة ذات الدلالة الرمزية الكثيفة.

القسوة بوصفها طقسًا وجوديًا

يحمل عنوان الرواية "سبع حركات للقسوة" كثافة رمزية عالية، تستدعي تأويلاً متعدد المستويات. فالرقم سبعة هنا ليس مجرد رقم، بل يحمل إيحاءات تراثية ودينية وأسطورية عميقة، حيث يحيل في الذاكرة الثقافية إلى معاني الكمال أو الاكتمال: سبع سماوات، سبع أراضين، سبع سنوات عجاف، سبع بوابات في الجحيم في الأساطير البابلية. كل هذه الاستحضارات تمنح الرقم طابعًا طقسيًا، وتحيله إلى إشارة على دورة مكتملة للمصير.

كذلك تشير "الحركات" إلى الأداء الجسدي والشعائري، وكأن القسوة لا تُمارس بوصفها فعلًا عابرًا، بل عبر طقوس محددة، منتظمة، ومتكررة. بهذا المعنى، فإن العنوان لا يلمح فقط إلى تواتر القسوة في الحياة اليومية، بل يرى أنها أصبحت نظامًا حياتيًا، أو طقسًا يتكرر بوجوه مختلفة: التجاهل، اللامبالاة، الجوع، الانسحاب، العزلة، الصمت، والحلم المؤجل.

أما القسوة فليست مجرد ممارسة خارجية للعنف، بل حالة مركبة يعيشها الجسد واللغة معًا، فتصبح الحياة نفسها سلسلة من الحركات المؤلمة التي تؤدى في صمت. هنا لا تضعنا الساردة في مواجهة القسوة الكبرى (كالحرب أو القتل)، بل تكشف الحركات الصغيرة التي تنحت الألم في تفاصيل الحياة اليومية: تفتيش الخزانة الفارغة، سقوط الجسد في الطمي، عجز الزوج عن الحب، غياب الماء، وانطفاء الرغبة. هذه الحركات السبع هي طقس داخلي، تمارسه البطلة كل يوم، دون أن تجد له خلاصًا.

هكذا يصبح العنوان مدخلا أساسيا لفهم الرواية وليس مجرد لافتة دلالية، لأنه يُدخل القارئ منذ اللحظة الأولى في أفق شعوري خاص، حيث تتجلى الحرب كخلفية بعيدة، فيما تصبح القسوة هي المشهد القريب، المتكرر.

بين تيار الوعي والذاكرة

تنهض رواية "سبع حركات للقسوة" على بنية سردية داخلية، تتقاطع شكليًا مع تيار الوعي، دون أن تنتمي إليه بنيويًا. فالساردة تمارس تأملاً متواصلاً في تفاصيل الحياة اليومية، وتغوص في أعماق وعيها، عبر تداعيات حرة للمشاعر والانطباعات، لكنها لا تفقد الخيط السردي المنطقي وتقبض على التماسك الزمني. هي أقرب إلى سرد داخلي تأملي، يحتفظ بتماسكه اللغوي والزمني، ويستعير من تيار الوعي روحه، دون شكله الكامل. هذا التوازن يمنح النص قدرة مزدوجة على الغوص في الذات ومراقبة العالم معا.

في قلب هذا البناء السردي، تلعب الذاكرة دورًا جوهريًا، لا كخزان صور، بل كمساحة مقاومة. فالراوية، تستدعي الماضي لتقاوم هشاشة الحاضر. الذاكرة هنا ليست نوستالجيا، بل فعل وجودي يعيد تثبيت الهوية في زمن الانهيار: تتذكر الأب، والزوج، والساقية، والطريق، وحتى تفاصيل المطبخ، فتصبح الذكريات أداة حماية داخلية من التفكك، وتتضاعف دلالة هذا الصوت السارد حين ندرك أن الراوية امرأة. فالأنثى هنا ليست مجازًا للضحية، بل هي الوعي الراصد للمذبحة الصامتة. عبر نظرتها، يُقرأ الواقع لا كمجريات سياسية فقط، بل ككوارث إنسانية تتسرب من المطبخ، ومن غياب الرغبة، ومن تقشر اليدين في غياب الماء.

المرأة هنا تمثل الجسد المُقاوم، وهي التي تراقب، وتنتظر، وتطهو، وتخاف، وتعود لتحفر في الأرض بحثًا عن درنات البطاطس، لتطعم من تحب. وهي الوحيدة القادرة على أن تمنح لكل تفصيل معناه الرمزي، ومن خلالها تُكتَب الحرب من داخل البيوت، وليس من الميدان. فلا تصبح الساردة وقد اتخذت موقع "الراوي العليم" مجرد شاهد عيان، بل يتحول السرد من خلالها إلى حركة بطيئة للذاكرة تجعل من القسوة فعلًا يوميًا، متكررًا، وصامتًا، ومع ذلك يظل محتفظا برمزيته.

مرآة للخراب

القرية، الطريق، المطبخ، المدرسة المغلقة، حقول البطاطس، كلها فضاءات تتحرك داخلها البطلة، لكنها لا تشكل مجرد مسرح للأحداث، بل تتحول إلى علامات دالة على الانهيار الجماعي. المطبخ ليس مكانًا منزليًا فحسب، بل هو مسرح الجوع والتقشف والاستغناء القسري. الطريق إلى الحقول ليس خط سير، بل رمز للعبور إلى المجهول. المدرسة، حين يدخلها الزوج الهارب من واقعه، تتحول إلى مسرح لجنون رمزي. إذًا، المكان في الرواية ليس خلفية، بل مرآة لما هو نفسي ووجودي، ويظل يتقلص تدريجيًا، كأن الحرب تلتهمه ببطء. تبدأ الرواية بفضاء البيت الكبير، ثم يضيق حتى يصبح العالم كله هو المطبخ أو الطريق بين البيت والساقية. هذا التقلص المكاني يرمز إلى الشعور بالخنق الذي تفرضه الحرب، حيث لا مهرب إلا إلى الداخل، إلى الجسد، أو إلى الذاكرة.

شعرية الألم

يكتب مصطفى البلكي روايته بلغة ذات تكثيف شعري ملحوظ. فالصور المجازية تتوالى، ليس لتزيين النص، بل لتكثيف الألم وتجسيده. "نملة تلتهم الخشب"، "الماء المراوغ"، "السكين كرمز للحسم أو النجاة"، كلها صور دالة على التآكل البطيء. تتخلى اللغة عن البلاغة الخطابية لصالح البلاغة الشعورية، وتعبيرا عن الانكسار، لذا تتردد كثيرًا مفردات مثل: الخيبة، الحصار، التردي، الانتظار، الصبر، وكلها مفردات دالة على القسوة التي لم تعد مقتصرة على القتل، بل تمتد لتشمل التخلي، التواطؤ، اللامبالاة، عجز الرجال، انسحاب الدولة، وحتى صمت الأمهات، والعنوان نفسه يوحي بأن القسوة لم تعد فعلًا طارئًا بل أصبحت بنية، طقسًا يوميًا يتكرر كما في الطقوس الدينية أو الحركات المسرحية، وكأنها لم تعد نهاية الحرب بل أسلوب حياة.

والجدة، التي تمثل ذاكرة الجيل الأقدم، تقاوم القسوة بالذاكرة، لكنها تنكفئ في النهاية. الزوج يهرب إلى المدرسة المغلقة ليحاور أشباح تلاميذه. الزوجة، وهي بطلة الرواية، هي الوحيدة التي تواجه القسوة بالفعل: تخرج، تحفر، تجلب الماء، وتطبخ، وتحلم. هكذا تصبح القسوة نظامًا لا ينهار إلا من الداخل، بفعل نسائي مضاد. وهكذا ينجح مصطفى البلكي، بذكائه السردي، في أن يجعل من البطلة لا مجرد شاهدة على الحصار، بل صانعة لمشهدية القسوة الجديدة، ومُؤرخة للهشاشة البشرية في زمن لا يعرف البطولات.

وتكمن أهمية هذا التحوّل في أن الساردة لا تُمنح فقط سلطة الكلام، بل سلطة التأويل أيضًا، فهي التي تُعيد ترتيب مشاهد الحياة اليومية لتحوّل ما يبدو عاديًا أو هامشيًا إلى شهادة على خراب شامل. بهذا، لا تكتفي الرواية بوصف الألم، بل تُنتج سردية بديلة تُقصي البطولة الذكورية التقليدية لصالح بطولة كامنة، صامتة، نسوية، تقوم على الاستمرار والملاحظة والتأمل. وتصبح البطلة نموذجًا لجيل يكتب تاريخه من الداخل، لا عبر انتصارات مدوية، بل عبر النجاة المتكررة، الهشة، التي لا يراها أحد سوى الذاكرة التي تغدو الوسيلة الوحيدة للنجاة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى