استعادة الجراح في طقوس نزع الزينة
كتب: أحمد رجب شلتوت
تُعد المجموعة القصصية "طقوس نزع الزينة" للكاتب كرم الصباغ نموذجًا سرديًا فريدًا يندرج ضمن ما يمكن تسميته بأدب ما بعد الصدمة أو النكبة، حيث تتقاطع فيها هموم الهوية، وخرائط الجسد المقموع، وأصوات المهمشين في جغرافيا مأزومة. وفي هذه المجموعة، يتبدى هذا الأدب في أوضح صوره: كتابة تستعيد الألم لا لتدوينه فقط، بل لتفكيكه والنجاة منه عبر اللغة والرمز. حيث تعكس القصص تمثيلًا عضويًا للمأساة الفلسطينية من منظور لا يُغرق في الخطابة، بل يحتفي بالهشاشة الإنسانية وطاقتها الرمزية.
أولا: تأويل العنوان
يشكل عنوان المجموعة "طقوس نزع الزينة" مفتاحًا تأويليًا هامًا، إذ يشير إلى لحظة نزع القناع، تعرية الواقع، وتجريد الأشياء من مساحيقها. الطقوس هنا ليست احتفالية بل حزينة، تمثل عبورًا مؤلمًا نحو الحقيقة، كما تعكس ثيمة النزع/الخسارة التي تتكرر في جميع النصوص. كذلك تحمل عناوين أغلب القصص شحنة رمزية عالية، وتجعل العنوان جزءًا من التأويل، كما في قصص: "عرائس العتمة"، "رقصة وجع لفراشة"، "أعراس الجبّانة".
ثانيا: البنية الجمالية للنصوص
يعتمد السرد على لغة شعرية مكثفة، قادرة على بناء صور سردية مشهدية تتجاوز التوصيف التقليدي نحو المجاز الكاشف. إذ تتبدى اللغة أداة لنزع "زينة" الواقع وكشف قبحه المستتر، اللغة تمثل أحد أبرز مكامن قوة المجموعة. إذ يتسم السرد بتوظيف واسع للمجاز والاستعارات المركبة، دون أن يضيع في الزينة المجانية. هناك اقتصاد لغوي محسوب، وأحيانًا شذرات من التقطيع الشعري داخل النثر.
وتتميز أغلب القصص بتقنية القطع السينمائي، والتقاط لحظات خاطفة مكثفة بالدلالة. كما تتعدد زوايا الرؤية، بين راوٍ عليم وسارد مشارك، مما يفتح النص على احتمالات تأويلية متنوعة.
وتعتمد كثير من القصص على تقنيات الاسترجاع والحلم وتداخل الأزمنة، وهو ما يخلق بنية غير خطية تتناسب مع المحتوى المتشظي، وتضع القارئ في مواجهة صدمة الذاكرة الجمعية والفردية معًا.
ثالثا: الرؤية الثقافية والرمزية
فلسطين كجسد مؤنث ممتهن: تتجسد غزة في أكثر من نص ككائن حي، مؤنث، ينتهك يوميًا بالقصف والتجويع، مما يربط بين الجغرافيا والجسد، ويحوّل الأرض إلى حيز للمعاناة الأنثوية، كما في قصة "عرائس العتمة."
كذلك تقدم المجموعة نماذج نسوية تمثل قضايا الكبت الاجتماعي والتهميش، وتطرح أسئلة الجسد والحرية والمعرفة، كما في "أعراس الجبّانة" و"ياسمين"، حيث تتقاطع السلطة الأبوية مع حرمان المرأة من التعليم أو حق الاختيار.
الطفولة والبراءة المذبوحة: وتحضر الطفولة بصفتها كيانًا جريحًا يحاول اللعب أو النجاة وسط الأنقاض، كما في "رقصة وجع لفراشة وحيدة"، حيث تعجز الأحلام عن الطيران، ويغدو اللعب طقسًا للمقاومة الرمزية، كما تنتقد بعض القصص البنية الإقطاعية والذكورية كما في "دم المزة"، حيث يُمارَس القمع باسم الأب أو المالك، ويُغتال الحلم النسوي تحت وطأة الاستغلال الاقتصادي والعنف الرمزي.
تفاوت المستوى
يلاحظ قارىء المجموعة أن بعض القصص مثل "عرائس العتمة"، "رقصة وجع"، "أعراس الجبّانة" بلغت مستوى رفيعًا من التماسك الفني، بينما قصص أخرى منها: "دم المزة" أو "مخاض" عانت من التكرار أو إطالة غير ضرورية في الوصف، أو خفوت الدهشة في خواتيمها.
أيضا في بعض القصص تبرز نزعة مفرطة لاستعراضات لغوية وهو ما قد يثقل الإيقاع السردي ويضعف من تأثير بعض المشاهد ذات الشحنة الشعورية العالية. وفي عدة قصص، تتشابه النبرة النفسية، والبيئات (القرية، النجع، الفقر، الطفلة المقهورة)، ما يجعل التمايز بين بعض النصوص ضعيفًا، رغم تنوع العناوين والثيمات، وباستثناء إشارات قليلة، يغيب الحوار المباشر عن النصوص، ما يحرم الشخصيات من فرصة التعبير بصوتها الخاص، ويجعل السرد يميل أحيانًا إلى التقريرية أو المونولوج الداخلي المفرط.
وأخيرا فإن مجموعة "طقوس نزع الزينة" تقدم تجربة قصصية تحفر في القاع الإنساني، لا بمنطق الاحتفاء بالمأساة، بل بحويل الجرح إلى سرد محمل بالجمال ويدعو التفكير. إنها كتابة تقاوم النسيان، وتستدعي الغائب والمنسي، وتخلق مساحة للبوح الأنثوي والصرخة الطفولية والتأمل الذكوري المهزوم. يكتب كرم الصباغ هنا سردًا مشبعًا بالتمرد الصامت، والحفر في ذاكرة فردية وجمعية مشروخة، تجعل من القصة القصيرة حقلًا للتأمل والاحتجاج معًا.
كتب: أحمد رجب شلتوت
تُعد المجموعة القصصية "طقوس نزع الزينة" للكاتب كرم الصباغ نموذجًا سرديًا فريدًا يندرج ضمن ما يمكن تسميته بأدب ما بعد الصدمة أو النكبة، حيث تتقاطع فيها هموم الهوية، وخرائط الجسد المقموع، وأصوات المهمشين في جغرافيا مأزومة. وفي هذه المجموعة، يتبدى هذا الأدب في أوضح صوره: كتابة تستعيد الألم لا لتدوينه فقط، بل لتفكيكه والنجاة منه عبر اللغة والرمز. حيث تعكس القصص تمثيلًا عضويًا للمأساة الفلسطينية من منظور لا يُغرق في الخطابة، بل يحتفي بالهشاشة الإنسانية وطاقتها الرمزية.
أولا: تأويل العنوان
يشكل عنوان المجموعة "طقوس نزع الزينة" مفتاحًا تأويليًا هامًا، إذ يشير إلى لحظة نزع القناع، تعرية الواقع، وتجريد الأشياء من مساحيقها. الطقوس هنا ليست احتفالية بل حزينة، تمثل عبورًا مؤلمًا نحو الحقيقة، كما تعكس ثيمة النزع/الخسارة التي تتكرر في جميع النصوص. كذلك تحمل عناوين أغلب القصص شحنة رمزية عالية، وتجعل العنوان جزءًا من التأويل، كما في قصص: "عرائس العتمة"، "رقصة وجع لفراشة"، "أعراس الجبّانة".
ثانيا: البنية الجمالية للنصوص
يعتمد السرد على لغة شعرية مكثفة، قادرة على بناء صور سردية مشهدية تتجاوز التوصيف التقليدي نحو المجاز الكاشف. إذ تتبدى اللغة أداة لنزع "زينة" الواقع وكشف قبحه المستتر، اللغة تمثل أحد أبرز مكامن قوة المجموعة. إذ يتسم السرد بتوظيف واسع للمجاز والاستعارات المركبة، دون أن يضيع في الزينة المجانية. هناك اقتصاد لغوي محسوب، وأحيانًا شذرات من التقطيع الشعري داخل النثر.
وتتميز أغلب القصص بتقنية القطع السينمائي، والتقاط لحظات خاطفة مكثفة بالدلالة. كما تتعدد زوايا الرؤية، بين راوٍ عليم وسارد مشارك، مما يفتح النص على احتمالات تأويلية متنوعة.
وتعتمد كثير من القصص على تقنيات الاسترجاع والحلم وتداخل الأزمنة، وهو ما يخلق بنية غير خطية تتناسب مع المحتوى المتشظي، وتضع القارئ في مواجهة صدمة الذاكرة الجمعية والفردية معًا.
ثالثا: الرؤية الثقافية والرمزية
فلسطين كجسد مؤنث ممتهن: تتجسد غزة في أكثر من نص ككائن حي، مؤنث، ينتهك يوميًا بالقصف والتجويع، مما يربط بين الجغرافيا والجسد، ويحوّل الأرض إلى حيز للمعاناة الأنثوية، كما في قصة "عرائس العتمة."
كذلك تقدم المجموعة نماذج نسوية تمثل قضايا الكبت الاجتماعي والتهميش، وتطرح أسئلة الجسد والحرية والمعرفة، كما في "أعراس الجبّانة" و"ياسمين"، حيث تتقاطع السلطة الأبوية مع حرمان المرأة من التعليم أو حق الاختيار.
الطفولة والبراءة المذبوحة: وتحضر الطفولة بصفتها كيانًا جريحًا يحاول اللعب أو النجاة وسط الأنقاض، كما في "رقصة وجع لفراشة وحيدة"، حيث تعجز الأحلام عن الطيران، ويغدو اللعب طقسًا للمقاومة الرمزية، كما تنتقد بعض القصص البنية الإقطاعية والذكورية كما في "دم المزة"، حيث يُمارَس القمع باسم الأب أو المالك، ويُغتال الحلم النسوي تحت وطأة الاستغلال الاقتصادي والعنف الرمزي.
تفاوت المستوى
يلاحظ قارىء المجموعة أن بعض القصص مثل "عرائس العتمة"، "رقصة وجع"، "أعراس الجبّانة" بلغت مستوى رفيعًا من التماسك الفني، بينما قصص أخرى منها: "دم المزة" أو "مخاض" عانت من التكرار أو إطالة غير ضرورية في الوصف، أو خفوت الدهشة في خواتيمها.
أيضا في بعض القصص تبرز نزعة مفرطة لاستعراضات لغوية وهو ما قد يثقل الإيقاع السردي ويضعف من تأثير بعض المشاهد ذات الشحنة الشعورية العالية. وفي عدة قصص، تتشابه النبرة النفسية، والبيئات (القرية، النجع، الفقر، الطفلة المقهورة)، ما يجعل التمايز بين بعض النصوص ضعيفًا، رغم تنوع العناوين والثيمات، وباستثناء إشارات قليلة، يغيب الحوار المباشر عن النصوص، ما يحرم الشخصيات من فرصة التعبير بصوتها الخاص، ويجعل السرد يميل أحيانًا إلى التقريرية أو المونولوج الداخلي المفرط.
وأخيرا فإن مجموعة "طقوس نزع الزينة" تقدم تجربة قصصية تحفر في القاع الإنساني، لا بمنطق الاحتفاء بالمأساة، بل بحويل الجرح إلى سرد محمل بالجمال ويدعو التفكير. إنها كتابة تقاوم النسيان، وتستدعي الغائب والمنسي، وتخلق مساحة للبوح الأنثوي والصرخة الطفولية والتأمل الذكوري المهزوم. يكتب كرم الصباغ هنا سردًا مشبعًا بالتمرد الصامت، والحفر في ذاكرة فردية وجمعية مشروخة، تجعل من القصة القصيرة حقلًا للتأمل والاحتجاج معًا.