(1)
لم يمض على زواجنا سوى عشرين يوما، عندما حلت علينا ليالي المطر الطوال.آه.. انني اعزف عن تذكرها، إلا انها تلح على ذهني.. تلح. صفيرها المزعج يرن في تجاويف رأسي. عشرون يوما هي التي جمعتني بزوجي نادية تحت سقف واحد. آوانا بيت نظيف وجميل. كما تعلمون، لم يحدث لي ولابناء جيلي، ان شكل المطر وبالا وكارثة ذات يوم. حدث مثل هذا الامر لأجدادي عندما شردتهم الفيضانات في عقود منصرمة، في فجاج الارض (كما سمعنا وروت الحكايات) وجعلتهم ينصبون خيامهم البالية على السداد الترابية، حتى إذا ما إنحسر خطر غول الماء، عادوا إلى منازلهم الغارقة، اشبه بعصافير مبتلة راجفة (توقيرا لهم لا اشبههم بجرذان)
ما ارويه لكم الآن، حدث مساء العاشر من تشرين الثاني المنصرم.. اكاد اجزم، معظمكم يتذكر تلك الليلة وماتلاها من ايام. فخلالها لم يتوقف إنهمار المطر إلا لماما. يومها ظهر ممثل دائرة الانواء الجوية على شاشة التلفاز، مبيناً ان كمية الامطار الساقطة جاوزت ألـ70 سنتمتراً، ومن المرجح ان يرتفع منسوبها إلى المتر- لم يحدث هذا مذ سنوات. وان المنخفض الجوي سيستمر لاجل غير معلوم، داعيا اجهزة البلدية للاستنفار من اجل إحتواء تداعيات الظرف اللاحق- على حد تعبيره- لحظتها، ونحن نرتشف الشاي بعد عشاء خفيف، تطلعت زوجي معلقة بدهشة: يالارادة السماء العجيبة! طوال العقدين الماضيين كنا نقيم صلوات الاستسقاء في الساحات والمساجد من اجل زخة، ولكن.. دون مجيب. اما اليوم، فالسماء ذاتها تكاد تغرقنا بعطائها المفرط.)
قلت: احيانا يكون كرم السماء اكثر من الحاجة.
الحق، لم نكترث كثيرا لتقرير موظف الانواء الذي لف جسمه الناحل بمعطف جاوز ركبتيه. طغى صوت الرياح على صوت التلفاز.. الرياح التي إشتدت خلال وقت قصير، لتتحول إلى عاصفة سرعان ماهوت باسلاك الكهرباء، وهددت باقتلاع افاريز الشرفات المشيدة من القرميد، ومظلة المرآب ألـ( بي آر سي) جعلنا ننصت لزمجرة الخارج حابسين انفاسنا. هيمنت رائحة المطر والطين على الارجاء. تسمعنا لحفيف الاغصان. بعضها تقصف، والاخر ناخ على الارض مثقلا بحمل الغيث. إستحال زجاج النوافذ إلى مايشبه الواحا بلورية بلون الرصاص. تمليت ماوراء النافذة بتوتر متعاظم. لمحت بصعوبة- إثر كل ومضة برق- سلك مصابيح النشرة الضوئية الملونة، ولمعان ماسلم من الاغصان العارية المتمايلة.. كذلك كان صرير السقوف وألواح الجينكو التي اخذت تئن تحت سياط الريح بعد ان تضعضعت لوالبها، يصلنا واضحا. وخلت ان العصف سيطيح بكل شيء. كل شي بات قابلا للطيران!
تلك الاثناء، رحت اتصور كيف هي الشوارع المطوقة بالوحشة الآن؟ كأن كل الموجودات غاضت في إهاب الليل البهيم وتلاشت في العدم. تناهى لسمعي إصطفاق ظلفتي الباب الخارجي المنفلتين من رتاجهما. لقد تحررتا من السرقي ايضا. تناولت سلسلة وقفلا كنت إحتفظت بهما لشأن ما. هرعت نحو الباب لأوصده. هزتني الريح ذات اليمين والشمال. بعد ان احكمت ربط الظلفتين، إنتهبت إلى ان المياه غمرت الشارع تماما، وحاذا موجها عتبة الدار. رنوت خطفا صوب الاعلى بجفون مبتلة، فرأيت السحب السود تتراكض جنوبا، مثل سورة دخان عملاقة، منذرة بالمزيد من الغيث. عدت ادراجي هرولة، وما ان فتحت باب الغرفة وانا ارتعش بردا، حتى تهاوت الصورة الكبيرة التي جمعتنا سوية في (كوشة العرس) تفكك بروازها وتهشم زجاجها على البساط الثخنين. شهقت نادية للحال شهقة خفيفة، واضعة راحتها على فمها، كمن يحجب صرخة كادت تنفلت من جوفه: ما الذي يجري حقا؟) واسيتها ورحنا نجمع الشظايا.
عندما إقتربنا من آخر المساء، إنطفأ التيار الكهربائي. أرخت العتمة سجوفها وضربت حلكة الليل اطنابها. تلاشى كل ضوء، حتى الاقباس الشحيحة التي كانت تنوس عبر شبابيك البيوتات المواجهة لبيتنا. إذ ذاك، تغطت الموجودات في الخارج باكثر من حجاب. اشعلت مصباح البطارية (التورج) فعم النور الحجرة. فتحت الراديو على إذاعة محلية. جاءنا صوت الساهر: برد، رياح ومطر يتكتك على الشباك.) لم يعد امامنا والوضع هكذا، سوى ان نتدثر باغطيتنا الصوف.. تمددت نادية إلى جانبي واضعة ذراعها الدافئة على صدري. تنفست بعمق من ثم رحت أترنم باغنية الفيروزة: انا وشادي غنينا سوا.. لعبنا على الثلج، ركضنا في الهوا..) إبتسمت بحنو. قرصت حبة التوت النافرة على صدرها برفق. إرتدت قليلا وهي تضحك بدلال آسر. إلتصقت بها اكثر” ما ألذ القبلة في وحشة الليل” قالت: يالشقاوتك يا مجنون! وشوشت في اذنها: هل نترك الزمهرير يفتت عظامنا؟
(2)
لن أنسى ماحييت صدى صرخة زوجي وهي توقظني حاملة مصباح البطارية: إستيقظ يارجل.. إستيقظ. الامواه تحاصرنا من كل جانب.) بحركة مرتبكة إستويت جالسا. مفزوعا، بعد ان ازحت الغطاء بضربة كف، وسرعان ما هالني المنظر! سيول مياه توغلت داخل الحجرة بإرتفاع نحو نصف متر. إستفت بوضوح زفرة المياه الثقيلة مدغمة بمياه المطر. نظرنا المشهد الغرائبي بذهول.. كنا كمن صحيا من جفلة عنيفة. الاحرى من لطمة غشوم! نبّت وجه نادية المخطوف امامي. باندفاعة سريعة وجدتني انزلق وسط المياه القارسة التي بلغت مستوى الركب. خطفت المصباح من يدها واندفعت كالمخبول صوب الغرف الاخرى، لاستطلاع واقع الحال.
عام نظري فوق مساحة المشهد.. واي مشهد!!
الامواه غمرت معظم الحاجات: البُسط والزوالي المفروشة، أرائك وطاولات صالة الضيوف، اغراض المطبخ- ماخلا الكاونتر المعلق- اكياس مؤونة الشتاء المحفوظة تحت السلم.. ناهيك عن فِناء الحديقة والمرآب. وانا اخوض، كانت غير بعيدة عني اعداد الجرذان والسحالي المذعورة وهي تسبح متخبطة لاهثة، باحثة عن خلاص (بعضها طفا نافقا) إبان ذلك، إعتراني خليط مشاعر مضطربة إنحشر في ذهن مشلول، فنحو اي جهة اتحرك، واي حاجة مهمة أنتشلها قبل الأخريات؟ ما ان إستوعبت حجم الحدث وتداعياته، حتى صحت بنادية: هيا بسرعة، علينا نقل الفرش اولا إلى صحن البيتونة.) تلمست طريقي في خضم دفقات غرينية قارسة. تلقفت دفعة من الاغطية، بينما إستمكنت نادية عند الدرجات الدنيا من السلم، لتتناول مني ما اجلبه، لتوصله بدورها إلى الصحن. صار هدفي الاكبر هو ان اصل السلم بين وقت وآخر، حيث تنتظرني الذراعان المتلهفان، من ثم اعاود الكرة مثل دولاب دوار إلى الغرف والزوايا الغارقة.. حيث المواد الشاخصة وسط البحيرة المتشكلة. في كل مرة اخطف مايصادفني.. كل شيء: كارتونات صحون واقداح لم تفتح بعد، مفردات البطاقة التموينية، ملابس العرس، قفص الطيور الفنجز الشامي، فضلا عن محتويات كومدينو الزينة: علبة المصوغات، البومات العائلة، حافظة النقود، الاوراق الرسمية.) ولعل من حسن الحظ ان كنا وضعنا المدفئة النفطية فوق مائدة الطعام، تاليا، سلمت من البلل. وانا منهمك في حركتي الدؤوبة، قدرت انني ساحافظ على الاهم من الاغراض من التلف خلال وقت ليس بالطويل، فالعفش بقضه وقضيضه ليس بالكثير على اية حال.
خلال الدوامة، كنت اوشكت ان أهوي غير مرة، الا انني سرعان ماكنت استعيد توازني وثبات خطواتي. اينما ادير وجهي يشخص امامي حجم ما خلفه عبث الصدمة غير المتوقعة. تعثرت باشياء مغمورة تغيرت مواقعها بفعل المد: ماسحات بلاط، احذية وأواني بلاستك، صفائح زيوت وبقوليات، صرر ملابس صيفية، رزم جرائد مشدودة بخيوط ولواصق، بينما الجرذان الفارة من جحورها تضرب المياه حوالي ملتاعة وهي تصدر صريراً.. عيونها الخرزية جاحظة. هكذا رأيتها تحت هالة المصباح. في غضون ذلك، شخصت امامي مكتبتي الاثيرة. شامخة، متعالية عن مستوى المد.. بدت لي مثل سارية قارب مستقر عند شاطئ رخي. تركت مافي يدي، وإتجهت لانقاذ المجلدات النفيسة والكتب الثمينة (إنقاذ الكتب والمجلدات؟!) كيف وعددها ينيف على الالفين.. هي ذخيرة ماجمعته خلال عقد كامل. جعلت العنوانات تنبجس امام سراعا: الشيخ والبحر، موبي ديك، في زورق واحد، البحار الزرق..) كنت مثل من يجاهد لانتشال اطفال يستغيثون في لحظة غرق! خضت باتجاه السلم الذي امسى بمثابة فنار دلالة. في كل مرة اعود فيها مخوضا، اجيل بصري المضطرب ببلاهة في فوضى المكان. تارة متيقظ الحواس، وتارة مرتبكا، مأخوذا بضغط اللحظات القاسية. فوضى.. كل مايحيطني هي الفوضى.
عندما دق جرس الساعة الجدارية مشيرا إلى الثالثة بعد منتصف الليل، كان الجهد الجهيد قد اعياني. لم يعد في طوقي إحتمال المزيد من المشقة. كنت قد صرفت نحو ساعة ونصف بحركة دائبة. عند ذاك، اخذت نادية تطلق نداءها الملحاح: دع ماتبقى على حاله.. ستصاب بنزلة برد. اين نجد طبيباً وصيدلية؟)
رضخت لنداءها. صعدت السلم مستعيناً بالدرابزين، انوء بآخر حمل تيسر لي إنقاذه. سجتني نادية من كفي، حيث وجدت نفسي وسط باحة الصحن رافعا رايتي البيضاء. كل محاولة لاصلاح الوضع المتداعي برمته غدت محض عبث.. فما تضرر تضرر، وما غرق تلف، و.. العوض على الغد.
ابدلنا ملابسنا المنقوعة باخرى ناشفة معطرة، واغتسلنا كيفما إتفق. اشعلنا المدفأة اليتيمة. إتكات بظهري على الحائط قبالة مهبط السلم، متفكرا بالذي يتعين علي فعله، ووجدتني اقرّع ذاتي: كيف لم نفطن لما حدث إلا متأخرا؟ هل كنا نغط في نوم المفرطين بألثمالة.. ام كنا ننام نوم جنائز؟ وهل..
شملت الاسفل/ المسرح الغارق بنظرة اسف حسيرة. سقف الماء ما إنفك يعلو باضطراد: لننم.. الصباح رباح.) لبثت نادية تكرر. حاولت إقناع نفسي ان الصباح كذلك، بيد انه بدا لي نقيض ذلك، وابعد من نجمة الصبح في ليل غائم! سبقتني إلى الفراش المدعوك. جلست اول وهلة على طرفه ويداها مشبكتان، وعندما ألفتني مطبق الشفتين، جعلت تمسح الماحول بنظرات زائغة. كان الصحن قد غص بالاغراض المرطبة عن بكرة ابيه. آخرا، نهضت بقوى مضعضعة وتهالكت إلى جانبها وانا اشعر ان إرادتي قُهرت.
تقوقعنا داخل اغطيتنا، كائنين منكسرين. فتحت الراديو على محطة الانواء المستمرة بالبث. فريقها اعلن عن تشكيل غرفة طواريء، لكنهم لم يعلنوا جديدا ولم يحدثوا مستجدات للنشرة الجوية. إكتفوا بتصديع الرؤوس باعادة بث اغنية: برد، رياح ومطر يتكتك على الشباك.) لبثنا نصيخ لاصوات الليل المندغمة.. الليل الذي تواصل فيه سقوط المطر لتسع ساعات، وما برح ينهمر! الدقائق تمر ثقيلة، أبطأ من دبيت سلحفاة شائخة. الرياح تزمجر، والبروق تتشظى في كبد سماء مكفهرة كل مايصدر عنها هو ازيز متصل ” هل فلتت الرياح من عقالها ” رسمت صورا في مخيالي لطوابير السحب وهي تتراكض تترى تحت قبة الليل، مغرقة مدن البلاد بما هو اقرب للطوفان. أصوات آدمية مستغيثة تتلاشى كأصداء، يعقبها مواء قطة تائهة في العراء. نسمع أنينها إلا اننا لاندرك لها مكانآ ” يا للمسكينة.. الظلمة والبرد تآزرا ضدها، وضدنا، وضد الجميع! ” ضروب الافكار تتناهبنا. نظرت نادية إلي بعينين عسليتين كليلتين.. أهدابهما ذابلة. الفيتها معتصرة بالكدر.. كانت عقصت شعرها الطويل داخل شال وردي وشي بزهيرات رُمانية اللون. لاذت بجسدي: ( انا بردانة.. بردانة جدا) بدا صوتها أجشآ، واطئاً، تشوبة رنة وجع. لمست اصابعها. الفيتها على العكس.. انها محمومة قليلا. قبلت جبينها. كنت اسمع نبض قلبها بوضوح. قلت: ليس ثمة مايستدعي عظيم الاسف. انه محض تسرب مياه وليس تسوناميا.)
– كيف وقد تلفت كل مدخراتنا؟
– كل شيء سيعوض.. سيعوض.
بدت في عيني اكثر جمالا، حتى وهي متجهمة حد اليأس. اشفقت عليها.. في كل الاحوال، هي في فترة شهر الشهد، وقد حلمت في لحظة ما ان تمضي شهرها الاول معي في مُنتجع، او في مدينة سياحية تعشق الحياة وتضج بالاضواء وبصخب الكرنفالات. همست بحنو: تضيق علي الدنيا بما رحُبت عندما تحزنين.) خنقتها العبرات. اردفت: لاتنسي ياشغاف القلب، إذا كنا نملك صحن بيتونة بات لنا كسفينة نوح، وغيرنا يمتلك منزلا بطبقتين، فان معظم الناس يسكنون اكواخا وبيوتات من صفيح.) جعلت تسعل سعالا خافتا. حضنتها وانا اتمتم بنبرة صوفية: في كل الاحوال المطر خير.)
– إلا في مدينتا، فهو ينقلب وبالا.
في غضون ذلك، إلتصقنا ببعضنا اكثر، ناهلين من دفء جسدينا. بعدها، غفت نادية وهدأت انفاسها. بدا وجهها ودودا على الرغم من التعب والقلق اللذين نالاه. ضوء المصباح بدأ يشحب. إضطررت لاطفائه. في وقت نفد النفط من خزان المدفأة، فراحت شعلتها تذوي شيئا فشيئا.. أما أنا، فلم يجد النوم سبيلا لعيني المنتفختين إلا بعد حين.. تحديدا لحظة دهمني النعاس الثقيل الذي لاراد لسلطانه.
(3)
لحظة جفلت من غفوتي القلقة، كان الفجر قد طر. فوجئت بهدوء الطقس وبتوقف المطر إلا من نثيث خفيف، وبسكون الماحول ” حقا، هل تغير الحال ” اصداء الرعود ماإنفكت تترامى على الرغم من انها نأت وولت بعيدا. قبل وقت قصير من تكشف السماء عن بصيص النور الباهت للصبح، كانت وشالة النثيث قد إنعدمت هي الاخرى, إستقر عزمنا على الذهاب كل واحد منا إلى بيت ذويه مؤقتا. ليس ثمة خيار آخر. قلت لنادية ممازحا لحظة حزمنا حقيبتينا: كل واحد تحت نجمة.. انا تحت نجمة ام الذيل، وانت ستُقيمين تحت قبة بنات نعش.) لم تنبس ببنت شفة. وجهها الكظيم يختلج. بعد ذاك، غادرنا الصحن نازلين نحو عمق البحيرة (هي ليست بحيرة البجعات الحالمات بالطبع) رفع كل منا بنطاله وحذاءيه وحقيبته.
مشينا لصق السياج متجهين نحو الخارج.. هناك، ساد ضوء اميّل للاصفر، كامد. لبثنا دقائقا واقفين بين ظلفتي الباب، ملقين نظرة حسيرة على منزلنا ( خلتها النظرة الاخيرة ) كثير من الخلق بارحوا اماكنهم نحو اماكن اكثر امنا واستقرارا. اثناء ذلك، سمعنا هتاف جارتنا الملتاعة: ما الذي فعلناه حتى تسخط السماء علينا؟ وكان هناك من يرد عليها بتبرم: ليس للسماء علاقة بالامر ياحرة. لقد فلقتم رؤوسنا بهذه الاسطوانة. اهمال دوائر البلدية هو السبب.) الجلبة تعم عند الابواب. الآخرون لم يكونوا افضل حالا منا، فلقد تعالت اصواتهم الناقمة. اكملنا محاضتنا في فيضان الفرع. مشت نادية امامي حاملة صرة مصوغاتها ووثائقنا الرسمية في حقيبتها. كل شيء تركناه خلفنا.. وديعة عند المطر الامين!
عند ناصية الشارع العام الذي لايبعد كثيرا عن فرعنا. كنا جاوزنا المنخفض المائي. وقفنا هناك. تلعثم لسان نادية بحروف مخنوقة. لم يبق لدينا مانقوله.. خزنا رماد كلماتنا في ذاتينا المحبطين. لم ادع الموقف يطول. اكتريت لها سيارة اجرة. ابتعدت بها عني. شيعتها بنظرات غائمة، حرى.. وانا اكاد لم استوعب بعد حقيقة ماجرى!
(4)
بعد كر وفر بين مطر ورياح عاتية، وهواء رخي نسبيا، وعلى مدى سبعة ايام.. هدأ الطقس واشرقت شمس فاترة (اجل، اشرقت شمس فاترة) كان السأم قد إستبد بي وانا محاصر في بيت اخي طوال اسبوع (احسسته دهراً) يومها قرّ عزمي على القيام بنزهة اصطحب خلالها نادية التي كانت اكثر ضجرا وغما مني، إلى كورنيش ابي نؤاس، لِمَ لا؟ هل نستسلم لسطوة ايام سود ونحن في شهر العسل؟ عندما عرضت عليها الفكرة عبر المحمول، لم تُبدِ حماسة واضحة. إكتفت ببضع عبارات مقتضبة مؤداها: انها لاتريد إشغالي بجولة عابرة قد تشكل مضيعة للوقت، فضلا عن ان تقلبات الطقس لا تشجع على ذلك.) قلت لها: اذا كانت الامطار اغرقت منزلنا وجعلتنا لاجئين في بيوتات اهلنا الموزعة بين رصافة العاصمة وكرخها، فانها لن تشكل عائقا حقيقيا يحول دون القيام بنزهة قصيرة في ظل إنفراج الطقس الراهن.)
شّق علي ان اسمعها ترد بنبرة متحشرجة يخالطها خيط مرارة: لاتحمل هما.. انا مرتاحة عند اهلي. انهم يوفرون كل شيء في سبيل تخفيف الصدمة عني.) وجدتني افكر ” حقا، شر البلية مايضحك.. منذ متى شكل المطر صدمة في حيواتنا؟ ثم.. ثم هل نفتقر إلى المشاكل اصلا؟ هات سلالك يا بعيد وإملأها صدمات! “
كنت ابغي تخفيف كرُبة نادية (وهي الرقيقة كفراشة) وان ابعث في نفسها الامل في اننا ملتقين ببعضنا أنىّ شئنا، واننا راجعون إلى عشنا الدافيء في غضون زمن قصير.
– متى؟) عاجلتني بسؤال محرج.
أجبت بغير وثوق: متى ما اكمل عمال البلدية تسليك المجاري التي قيل ان فوهتها الرئيسة اوصدت بسبب رمي متعمد لصخرة عملاقة! ثم اضفت في ختام مكالمتي: اننا في بداية نهار طلق. امامنا فرصة مؤاتية علينا ان لانفرط بها.)
عند ذاك حسب، وافقت على الفكرة بمضض.
(5)
من بداية لسان الرصيف المحاذي لشاطيء النهر ألمنحسرة مياهه الغرينية، جعلنا ندرج الهوينا بخطا متساوقة.. نمشي شابكي الاصابع. بضعة مطاعم كانت مفتوحة، ومعظمها موصد الابواب. المكان شبة خال ليس ثمة صبية، او عوائل، او ثلل مراهقين. المطاعم تقدم نوعا واحدا من الطعام (المسكوف) رائحة السمك المشوي تتضوع عبر سورات الدخان المتصاعدة من مواقد الفحم المتوهجة. انفار من المارة يتها دون باسترخاء، متطلعين إلى النهر الخفيض تارة، وإلى السماء تارة اخرى. الكل يرفع ياقات سترهم ومعاطفهم، واضعين وقايات البرد الصوف على آذانهم المحمرة.
سألتُ نادية: هل كان من الضروري جلب المظلة المطرية؟
– انها ليست حملا ثقيلا. من يدري. ربما نحتاجها في اي لحظة.
كنا في فترة العصر، عندما إلتفت نادية إلي: الى اين سيصل ألمسير بنا؟
قلت: سننتهي عند مضيف شهريار وشهرزاد. ربما سيدعوننا لاحتساء مشروب على حسابهما الخاص.) كركرت حنجرتها، فتهدلت خصلات من شعرها الليلي على جبنيها، مالبثت ان ارجعتهم إلى الاعلى بحركة رشيقة جذابة من رأسها. قطعنا مسافة من رصيف الكورنيش. جلسنا على مصطبة صادفتنا- الرطوبة مابرحت ملتصقة بالخشب- جلسنا صامتين، كما لو اننا نتعمد كتمان مشاعرنا (كنا نضطهدها) على وجهها تعابير مبعثرة، إلا انها مقروءة بيسر من جانبي.. ان قلبها يكتوي بهم الفراق. عديد من الغدران غمرت الحدائق، مشكلة مانعا طبيعيا يحول دون دخولها. الاشجار وأجمات الورود جاردة.. الثيل مُصفر. النهر قبالتنا. هو ليس بعيدا عنا.
يفصلنا عنه منحدر رملي بعرض نحو مئة متر. تكسوه وتحاصره مستعمرات القصب والبردي ونثار النفايات، إمارة الاهمال والنسيان. رأينا إلى الجرف الممتليء بالطمي. قريبا منه ترسو العبّارات النهرية.. مهجورة هي الاخرى. ترفرف فوق قمراتها اعلام مشرشبة الحواف مهترئة القماش، بينما حطت على جوانب القمرات ودرابزينها مجاميع من طيور النورس وهي تتمايل. فيما وراء الضفة الاخرى، هناك المنطقة الخضراء التي وصفت بانها فردوسا مُنعماً.
في غضون ذلك، إستأنفنا سيرنا الوئيد.. كلما تنفس صدر الهواء التشريني هنا، نفث انفاسا باردة. آخرا، وجدنا انفسنا عند نهاية الكورنيش. بالضبط، داخل ساحة شهريار. تميلنا الشاخصين البرونزيين. كان الامير متسلطناً بجلسته المسترخية: يالهذا الرجل العجيب، ألا يكف عن سماع الحكايات الملفقة؟) علقت نادية. من داخل باحة الامير الذي لايكف عن سماع الحكايات، رنونا نحو الافق.. مافوق فضاء المنطقة الخضراء. من هناك لاحت لنا طلائع غيوم تقبل نحونا. جلها رمادية وبعضها بيض. إلتفتنا لبعضنا ” مرة اخرى غيوم! ” احكمت معطفي على جسمي. سورات هواء باردة بدأت تعلن عن حضورها. غذذنا السير باتجاه مطعم وكازينو ( ركن العشاق ) قبل ان ندلف بابه، بلل فروتي رأسينا نثيث ناعم..
– انه مجرد نثيث عابر.) طمئنت نادية.
قالت مشككة وقد سيطر عليها ملمح كآبة: هكذا تبدأ الامور عادة. اردفت بلهجة تفاؤل متكلفة: لقد ضربت السحب ضربتها طوال اسبوع وولت.) لم أوفق في تخميني. هذا ما اثبته الوقت اللاحق. دلفنا إلى الداخل. جلسنا بمواجهة الواجهة الزجاجية المطلة على حديقة مربعة تتوسطها نافورة داخل حوض. يجاور النافورة مُجسم طائر بجع يشهق بمنقاره عاليا، كما لو انه يتأهب لالتقاط هِبة من السماء. طلبت سمكة مشوية (هكذا وعدتها) للوهلة الاولى إستمرأنا السكون الذي يحيطنا، وشد إنتباهنا حشد السمك الملون في الحوض الزجاجي الصقيل، القريب من مائدتنا. حشد يمور بالحركة، كأنه يتأهب لمعركة في جوف بحر! دردشنا قليلا. يتعين علينا تزجية بعض الوقت ريثما يتوقف النثيث. لم يلح اللطف في مزاجها وعلى محياها، حتى ونحن نشاهد مقاطع من مواقف (المستر بن) المضحكة على شاشة البلازا. راقبنا عاملي المطعم وهما ينهمكان باعداد الوجبة. احدهما اربعيني بدين، يرتدي دشداشة وسطها مشدود بحزام جلدي بُني ويعتمر جراوية بغدادية. اما مساعده فكان شابا يافعا نشيط الحركة، عمل من أكليل شعره الفاحم سبايكا لافتا.
من وراء زجاج الواجهة العريضة، عاينا النثيث الذي مالبث ان تحول إلى مطر ناعم (يالسرعة تغيير الطقس) خلال نحو ثلث ساعة، وبينما نحن ننتظر وصول الوجبة، إكفهرت السماء. غمغمت نادية وهي تفرك اصابعها: هوذا المطر الذي قلب حالنا رأسا على عقب يعود ثانية) جاءونا بطبق السمك. إزدردنا محتوياته بعجالة، كما لو ان نداء أو ظرفاً يلح علينا. إتفقت خواطرنا على مغادرة المكان باسرع وقت. فعلا، غادرنا الصالة الدافئة بعد حين. في الخارج حلقت غمام خفيفة في الاعالي. لم يكن ثمة ضوء لافت، سواء مصابيح الاشارة الضوئية واعمدة الكهرباء الصدئة، او مصابيح جسر الجمهورية.. كلها مطفئة. كل شيء يسير نحو الانطفاء! فتحنا مظلتنا ونحن نسرع الخطى. عند الناصية لم نلمح احداً. كما لوان الجميع تبخروا. وحدها الاشجار تتمايل وجذوعها تهتز. تحت سروة معمرة كثيفة لذنا. نادية تتشبث بذراعي اليسرى. الاغصان الراجفة بدأت تنث نقاطا كبيرة.. نسمعها وهي تنقر قبة المظلة. لوحنا لاكثر من سيارة مرت من امامنا خطفا.. اخرا، وقفت احداها حذاءنا. ما ان إستقرينا داخلها حتى شرع سائقها بنوبة ثرثرة، محورها موضوعة المطر الذي عم البلاد وبهذل العباد ” ما الجديد في هذا الحديث الممل الباعث على السخط؟ ” غشي بخار انفاسنا- نحن الثلاثة- الزجاج، كأننا نمضي داخل قبو. فكرت بأسى ” ياللمطر اللعين الذي نغص علينا وشالة شهر العسل.” زخات المطر تشتد.. لهاث مضطرد على الزجاج. يكاد جهد الماسحتين الان ان يذهب هباء. وانا في خضم سرحاني وشرود بصري عبر الزجاج المضبب، تناهى لسمعي سؤال السائق المهذار: المطر رائع يا اخي.. اليس كذلك؟ وجدتني مجبراً للرد. بحنق مكبوت: اجل، اجل.. بل هو اكثر من رائع!!
لم يمض على زواجنا سوى عشرين يوما، عندما حلت علينا ليالي المطر الطوال.آه.. انني اعزف عن تذكرها، إلا انها تلح على ذهني.. تلح. صفيرها المزعج يرن في تجاويف رأسي. عشرون يوما هي التي جمعتني بزوجي نادية تحت سقف واحد. آوانا بيت نظيف وجميل. كما تعلمون، لم يحدث لي ولابناء جيلي، ان شكل المطر وبالا وكارثة ذات يوم. حدث مثل هذا الامر لأجدادي عندما شردتهم الفيضانات في عقود منصرمة، في فجاج الارض (كما سمعنا وروت الحكايات) وجعلتهم ينصبون خيامهم البالية على السداد الترابية، حتى إذا ما إنحسر خطر غول الماء، عادوا إلى منازلهم الغارقة، اشبه بعصافير مبتلة راجفة (توقيرا لهم لا اشبههم بجرذان)
ما ارويه لكم الآن، حدث مساء العاشر من تشرين الثاني المنصرم.. اكاد اجزم، معظمكم يتذكر تلك الليلة وماتلاها من ايام. فخلالها لم يتوقف إنهمار المطر إلا لماما. يومها ظهر ممثل دائرة الانواء الجوية على شاشة التلفاز، مبيناً ان كمية الامطار الساقطة جاوزت ألـ70 سنتمتراً، ومن المرجح ان يرتفع منسوبها إلى المتر- لم يحدث هذا مذ سنوات. وان المنخفض الجوي سيستمر لاجل غير معلوم، داعيا اجهزة البلدية للاستنفار من اجل إحتواء تداعيات الظرف اللاحق- على حد تعبيره- لحظتها، ونحن نرتشف الشاي بعد عشاء خفيف، تطلعت زوجي معلقة بدهشة: يالارادة السماء العجيبة! طوال العقدين الماضيين كنا نقيم صلوات الاستسقاء في الساحات والمساجد من اجل زخة، ولكن.. دون مجيب. اما اليوم، فالسماء ذاتها تكاد تغرقنا بعطائها المفرط.)
قلت: احيانا يكون كرم السماء اكثر من الحاجة.
الحق، لم نكترث كثيرا لتقرير موظف الانواء الذي لف جسمه الناحل بمعطف جاوز ركبتيه. طغى صوت الرياح على صوت التلفاز.. الرياح التي إشتدت خلال وقت قصير، لتتحول إلى عاصفة سرعان ماهوت باسلاك الكهرباء، وهددت باقتلاع افاريز الشرفات المشيدة من القرميد، ومظلة المرآب ألـ( بي آر سي) جعلنا ننصت لزمجرة الخارج حابسين انفاسنا. هيمنت رائحة المطر والطين على الارجاء. تسمعنا لحفيف الاغصان. بعضها تقصف، والاخر ناخ على الارض مثقلا بحمل الغيث. إستحال زجاج النوافذ إلى مايشبه الواحا بلورية بلون الرصاص. تمليت ماوراء النافذة بتوتر متعاظم. لمحت بصعوبة- إثر كل ومضة برق- سلك مصابيح النشرة الضوئية الملونة، ولمعان ماسلم من الاغصان العارية المتمايلة.. كذلك كان صرير السقوف وألواح الجينكو التي اخذت تئن تحت سياط الريح بعد ان تضعضعت لوالبها، يصلنا واضحا. وخلت ان العصف سيطيح بكل شيء. كل شي بات قابلا للطيران!
تلك الاثناء، رحت اتصور كيف هي الشوارع المطوقة بالوحشة الآن؟ كأن كل الموجودات غاضت في إهاب الليل البهيم وتلاشت في العدم. تناهى لسمعي إصطفاق ظلفتي الباب الخارجي المنفلتين من رتاجهما. لقد تحررتا من السرقي ايضا. تناولت سلسلة وقفلا كنت إحتفظت بهما لشأن ما. هرعت نحو الباب لأوصده. هزتني الريح ذات اليمين والشمال. بعد ان احكمت ربط الظلفتين، إنتهبت إلى ان المياه غمرت الشارع تماما، وحاذا موجها عتبة الدار. رنوت خطفا صوب الاعلى بجفون مبتلة، فرأيت السحب السود تتراكض جنوبا، مثل سورة دخان عملاقة، منذرة بالمزيد من الغيث. عدت ادراجي هرولة، وما ان فتحت باب الغرفة وانا ارتعش بردا، حتى تهاوت الصورة الكبيرة التي جمعتنا سوية في (كوشة العرس) تفكك بروازها وتهشم زجاجها على البساط الثخنين. شهقت نادية للحال شهقة خفيفة، واضعة راحتها على فمها، كمن يحجب صرخة كادت تنفلت من جوفه: ما الذي يجري حقا؟) واسيتها ورحنا نجمع الشظايا.
عندما إقتربنا من آخر المساء، إنطفأ التيار الكهربائي. أرخت العتمة سجوفها وضربت حلكة الليل اطنابها. تلاشى كل ضوء، حتى الاقباس الشحيحة التي كانت تنوس عبر شبابيك البيوتات المواجهة لبيتنا. إذ ذاك، تغطت الموجودات في الخارج باكثر من حجاب. اشعلت مصباح البطارية (التورج) فعم النور الحجرة. فتحت الراديو على إذاعة محلية. جاءنا صوت الساهر: برد، رياح ومطر يتكتك على الشباك.) لم يعد امامنا والوضع هكذا، سوى ان نتدثر باغطيتنا الصوف.. تمددت نادية إلى جانبي واضعة ذراعها الدافئة على صدري. تنفست بعمق من ثم رحت أترنم باغنية الفيروزة: انا وشادي غنينا سوا.. لعبنا على الثلج، ركضنا في الهوا..) إبتسمت بحنو. قرصت حبة التوت النافرة على صدرها برفق. إرتدت قليلا وهي تضحك بدلال آسر. إلتصقت بها اكثر” ما ألذ القبلة في وحشة الليل” قالت: يالشقاوتك يا مجنون! وشوشت في اذنها: هل نترك الزمهرير يفتت عظامنا؟
(2)
لن أنسى ماحييت صدى صرخة زوجي وهي توقظني حاملة مصباح البطارية: إستيقظ يارجل.. إستيقظ. الامواه تحاصرنا من كل جانب.) بحركة مرتبكة إستويت جالسا. مفزوعا، بعد ان ازحت الغطاء بضربة كف، وسرعان ما هالني المنظر! سيول مياه توغلت داخل الحجرة بإرتفاع نحو نصف متر. إستفت بوضوح زفرة المياه الثقيلة مدغمة بمياه المطر. نظرنا المشهد الغرائبي بذهول.. كنا كمن صحيا من جفلة عنيفة. الاحرى من لطمة غشوم! نبّت وجه نادية المخطوف امامي. باندفاعة سريعة وجدتني انزلق وسط المياه القارسة التي بلغت مستوى الركب. خطفت المصباح من يدها واندفعت كالمخبول صوب الغرف الاخرى، لاستطلاع واقع الحال.
عام نظري فوق مساحة المشهد.. واي مشهد!!
الامواه غمرت معظم الحاجات: البُسط والزوالي المفروشة، أرائك وطاولات صالة الضيوف، اغراض المطبخ- ماخلا الكاونتر المعلق- اكياس مؤونة الشتاء المحفوظة تحت السلم.. ناهيك عن فِناء الحديقة والمرآب. وانا اخوض، كانت غير بعيدة عني اعداد الجرذان والسحالي المذعورة وهي تسبح متخبطة لاهثة، باحثة عن خلاص (بعضها طفا نافقا) إبان ذلك، إعتراني خليط مشاعر مضطربة إنحشر في ذهن مشلول، فنحو اي جهة اتحرك، واي حاجة مهمة أنتشلها قبل الأخريات؟ ما ان إستوعبت حجم الحدث وتداعياته، حتى صحت بنادية: هيا بسرعة، علينا نقل الفرش اولا إلى صحن البيتونة.) تلمست طريقي في خضم دفقات غرينية قارسة. تلقفت دفعة من الاغطية، بينما إستمكنت نادية عند الدرجات الدنيا من السلم، لتتناول مني ما اجلبه، لتوصله بدورها إلى الصحن. صار هدفي الاكبر هو ان اصل السلم بين وقت وآخر، حيث تنتظرني الذراعان المتلهفان، من ثم اعاود الكرة مثل دولاب دوار إلى الغرف والزوايا الغارقة.. حيث المواد الشاخصة وسط البحيرة المتشكلة. في كل مرة اخطف مايصادفني.. كل شيء: كارتونات صحون واقداح لم تفتح بعد، مفردات البطاقة التموينية، ملابس العرس، قفص الطيور الفنجز الشامي، فضلا عن محتويات كومدينو الزينة: علبة المصوغات، البومات العائلة، حافظة النقود، الاوراق الرسمية.) ولعل من حسن الحظ ان كنا وضعنا المدفئة النفطية فوق مائدة الطعام، تاليا، سلمت من البلل. وانا منهمك في حركتي الدؤوبة، قدرت انني ساحافظ على الاهم من الاغراض من التلف خلال وقت ليس بالطويل، فالعفش بقضه وقضيضه ليس بالكثير على اية حال.
خلال الدوامة، كنت اوشكت ان أهوي غير مرة، الا انني سرعان ماكنت استعيد توازني وثبات خطواتي. اينما ادير وجهي يشخص امامي حجم ما خلفه عبث الصدمة غير المتوقعة. تعثرت باشياء مغمورة تغيرت مواقعها بفعل المد: ماسحات بلاط، احذية وأواني بلاستك، صفائح زيوت وبقوليات، صرر ملابس صيفية، رزم جرائد مشدودة بخيوط ولواصق، بينما الجرذان الفارة من جحورها تضرب المياه حوالي ملتاعة وهي تصدر صريراً.. عيونها الخرزية جاحظة. هكذا رأيتها تحت هالة المصباح. في غضون ذلك، شخصت امامي مكتبتي الاثيرة. شامخة، متعالية عن مستوى المد.. بدت لي مثل سارية قارب مستقر عند شاطئ رخي. تركت مافي يدي، وإتجهت لانقاذ المجلدات النفيسة والكتب الثمينة (إنقاذ الكتب والمجلدات؟!) كيف وعددها ينيف على الالفين.. هي ذخيرة ماجمعته خلال عقد كامل. جعلت العنوانات تنبجس امام سراعا: الشيخ والبحر، موبي ديك، في زورق واحد، البحار الزرق..) كنت مثل من يجاهد لانتشال اطفال يستغيثون في لحظة غرق! خضت باتجاه السلم الذي امسى بمثابة فنار دلالة. في كل مرة اعود فيها مخوضا، اجيل بصري المضطرب ببلاهة في فوضى المكان. تارة متيقظ الحواس، وتارة مرتبكا، مأخوذا بضغط اللحظات القاسية. فوضى.. كل مايحيطني هي الفوضى.
عندما دق جرس الساعة الجدارية مشيرا إلى الثالثة بعد منتصف الليل، كان الجهد الجهيد قد اعياني. لم يعد في طوقي إحتمال المزيد من المشقة. كنت قد صرفت نحو ساعة ونصف بحركة دائبة. عند ذاك، اخذت نادية تطلق نداءها الملحاح: دع ماتبقى على حاله.. ستصاب بنزلة برد. اين نجد طبيباً وصيدلية؟)
رضخت لنداءها. صعدت السلم مستعيناً بالدرابزين، انوء بآخر حمل تيسر لي إنقاذه. سجتني نادية من كفي، حيث وجدت نفسي وسط باحة الصحن رافعا رايتي البيضاء. كل محاولة لاصلاح الوضع المتداعي برمته غدت محض عبث.. فما تضرر تضرر، وما غرق تلف، و.. العوض على الغد.
ابدلنا ملابسنا المنقوعة باخرى ناشفة معطرة، واغتسلنا كيفما إتفق. اشعلنا المدفأة اليتيمة. إتكات بظهري على الحائط قبالة مهبط السلم، متفكرا بالذي يتعين علي فعله، ووجدتني اقرّع ذاتي: كيف لم نفطن لما حدث إلا متأخرا؟ هل كنا نغط في نوم المفرطين بألثمالة.. ام كنا ننام نوم جنائز؟ وهل..
شملت الاسفل/ المسرح الغارق بنظرة اسف حسيرة. سقف الماء ما إنفك يعلو باضطراد: لننم.. الصباح رباح.) لبثت نادية تكرر. حاولت إقناع نفسي ان الصباح كذلك، بيد انه بدا لي نقيض ذلك، وابعد من نجمة الصبح في ليل غائم! سبقتني إلى الفراش المدعوك. جلست اول وهلة على طرفه ويداها مشبكتان، وعندما ألفتني مطبق الشفتين، جعلت تمسح الماحول بنظرات زائغة. كان الصحن قد غص بالاغراض المرطبة عن بكرة ابيه. آخرا، نهضت بقوى مضعضعة وتهالكت إلى جانبها وانا اشعر ان إرادتي قُهرت.
تقوقعنا داخل اغطيتنا، كائنين منكسرين. فتحت الراديو على محطة الانواء المستمرة بالبث. فريقها اعلن عن تشكيل غرفة طواريء، لكنهم لم يعلنوا جديدا ولم يحدثوا مستجدات للنشرة الجوية. إكتفوا بتصديع الرؤوس باعادة بث اغنية: برد، رياح ومطر يتكتك على الشباك.) لبثنا نصيخ لاصوات الليل المندغمة.. الليل الذي تواصل فيه سقوط المطر لتسع ساعات، وما برح ينهمر! الدقائق تمر ثقيلة، أبطأ من دبيت سلحفاة شائخة. الرياح تزمجر، والبروق تتشظى في كبد سماء مكفهرة كل مايصدر عنها هو ازيز متصل ” هل فلتت الرياح من عقالها ” رسمت صورا في مخيالي لطوابير السحب وهي تتراكض تترى تحت قبة الليل، مغرقة مدن البلاد بما هو اقرب للطوفان. أصوات آدمية مستغيثة تتلاشى كأصداء، يعقبها مواء قطة تائهة في العراء. نسمع أنينها إلا اننا لاندرك لها مكانآ ” يا للمسكينة.. الظلمة والبرد تآزرا ضدها، وضدنا، وضد الجميع! ” ضروب الافكار تتناهبنا. نظرت نادية إلي بعينين عسليتين كليلتين.. أهدابهما ذابلة. الفيتها معتصرة بالكدر.. كانت عقصت شعرها الطويل داخل شال وردي وشي بزهيرات رُمانية اللون. لاذت بجسدي: ( انا بردانة.. بردانة جدا) بدا صوتها أجشآ، واطئاً، تشوبة رنة وجع. لمست اصابعها. الفيتها على العكس.. انها محمومة قليلا. قبلت جبينها. كنت اسمع نبض قلبها بوضوح. قلت: ليس ثمة مايستدعي عظيم الاسف. انه محض تسرب مياه وليس تسوناميا.)
– كيف وقد تلفت كل مدخراتنا؟
– كل شيء سيعوض.. سيعوض.
بدت في عيني اكثر جمالا، حتى وهي متجهمة حد اليأس. اشفقت عليها.. في كل الاحوال، هي في فترة شهر الشهد، وقد حلمت في لحظة ما ان تمضي شهرها الاول معي في مُنتجع، او في مدينة سياحية تعشق الحياة وتضج بالاضواء وبصخب الكرنفالات. همست بحنو: تضيق علي الدنيا بما رحُبت عندما تحزنين.) خنقتها العبرات. اردفت: لاتنسي ياشغاف القلب، إذا كنا نملك صحن بيتونة بات لنا كسفينة نوح، وغيرنا يمتلك منزلا بطبقتين، فان معظم الناس يسكنون اكواخا وبيوتات من صفيح.) جعلت تسعل سعالا خافتا. حضنتها وانا اتمتم بنبرة صوفية: في كل الاحوال المطر خير.)
– إلا في مدينتا، فهو ينقلب وبالا.
في غضون ذلك، إلتصقنا ببعضنا اكثر، ناهلين من دفء جسدينا. بعدها، غفت نادية وهدأت انفاسها. بدا وجهها ودودا على الرغم من التعب والقلق اللذين نالاه. ضوء المصباح بدأ يشحب. إضطررت لاطفائه. في وقت نفد النفط من خزان المدفأة، فراحت شعلتها تذوي شيئا فشيئا.. أما أنا، فلم يجد النوم سبيلا لعيني المنتفختين إلا بعد حين.. تحديدا لحظة دهمني النعاس الثقيل الذي لاراد لسلطانه.
(3)
لحظة جفلت من غفوتي القلقة، كان الفجر قد طر. فوجئت بهدوء الطقس وبتوقف المطر إلا من نثيث خفيف، وبسكون الماحول ” حقا، هل تغير الحال ” اصداء الرعود ماإنفكت تترامى على الرغم من انها نأت وولت بعيدا. قبل وقت قصير من تكشف السماء عن بصيص النور الباهت للصبح، كانت وشالة النثيث قد إنعدمت هي الاخرى, إستقر عزمنا على الذهاب كل واحد منا إلى بيت ذويه مؤقتا. ليس ثمة خيار آخر. قلت لنادية ممازحا لحظة حزمنا حقيبتينا: كل واحد تحت نجمة.. انا تحت نجمة ام الذيل، وانت ستُقيمين تحت قبة بنات نعش.) لم تنبس ببنت شفة. وجهها الكظيم يختلج. بعد ذاك، غادرنا الصحن نازلين نحو عمق البحيرة (هي ليست بحيرة البجعات الحالمات بالطبع) رفع كل منا بنطاله وحذاءيه وحقيبته.
مشينا لصق السياج متجهين نحو الخارج.. هناك، ساد ضوء اميّل للاصفر، كامد. لبثنا دقائقا واقفين بين ظلفتي الباب، ملقين نظرة حسيرة على منزلنا ( خلتها النظرة الاخيرة ) كثير من الخلق بارحوا اماكنهم نحو اماكن اكثر امنا واستقرارا. اثناء ذلك، سمعنا هتاف جارتنا الملتاعة: ما الذي فعلناه حتى تسخط السماء علينا؟ وكان هناك من يرد عليها بتبرم: ليس للسماء علاقة بالامر ياحرة. لقد فلقتم رؤوسنا بهذه الاسطوانة. اهمال دوائر البلدية هو السبب.) الجلبة تعم عند الابواب. الآخرون لم يكونوا افضل حالا منا، فلقد تعالت اصواتهم الناقمة. اكملنا محاضتنا في فيضان الفرع. مشت نادية امامي حاملة صرة مصوغاتها ووثائقنا الرسمية في حقيبتها. كل شيء تركناه خلفنا.. وديعة عند المطر الامين!
عند ناصية الشارع العام الذي لايبعد كثيرا عن فرعنا. كنا جاوزنا المنخفض المائي. وقفنا هناك. تلعثم لسان نادية بحروف مخنوقة. لم يبق لدينا مانقوله.. خزنا رماد كلماتنا في ذاتينا المحبطين. لم ادع الموقف يطول. اكتريت لها سيارة اجرة. ابتعدت بها عني. شيعتها بنظرات غائمة، حرى.. وانا اكاد لم استوعب بعد حقيقة ماجرى!
(4)
بعد كر وفر بين مطر ورياح عاتية، وهواء رخي نسبيا، وعلى مدى سبعة ايام.. هدأ الطقس واشرقت شمس فاترة (اجل، اشرقت شمس فاترة) كان السأم قد إستبد بي وانا محاصر في بيت اخي طوال اسبوع (احسسته دهراً) يومها قرّ عزمي على القيام بنزهة اصطحب خلالها نادية التي كانت اكثر ضجرا وغما مني، إلى كورنيش ابي نؤاس، لِمَ لا؟ هل نستسلم لسطوة ايام سود ونحن في شهر العسل؟ عندما عرضت عليها الفكرة عبر المحمول، لم تُبدِ حماسة واضحة. إكتفت ببضع عبارات مقتضبة مؤداها: انها لاتريد إشغالي بجولة عابرة قد تشكل مضيعة للوقت، فضلا عن ان تقلبات الطقس لا تشجع على ذلك.) قلت لها: اذا كانت الامطار اغرقت منزلنا وجعلتنا لاجئين في بيوتات اهلنا الموزعة بين رصافة العاصمة وكرخها، فانها لن تشكل عائقا حقيقيا يحول دون القيام بنزهة قصيرة في ظل إنفراج الطقس الراهن.)
شّق علي ان اسمعها ترد بنبرة متحشرجة يخالطها خيط مرارة: لاتحمل هما.. انا مرتاحة عند اهلي. انهم يوفرون كل شيء في سبيل تخفيف الصدمة عني.) وجدتني افكر ” حقا، شر البلية مايضحك.. منذ متى شكل المطر صدمة في حيواتنا؟ ثم.. ثم هل نفتقر إلى المشاكل اصلا؟ هات سلالك يا بعيد وإملأها صدمات! “
كنت ابغي تخفيف كرُبة نادية (وهي الرقيقة كفراشة) وان ابعث في نفسها الامل في اننا ملتقين ببعضنا أنىّ شئنا، واننا راجعون إلى عشنا الدافيء في غضون زمن قصير.
– متى؟) عاجلتني بسؤال محرج.
أجبت بغير وثوق: متى ما اكمل عمال البلدية تسليك المجاري التي قيل ان فوهتها الرئيسة اوصدت بسبب رمي متعمد لصخرة عملاقة! ثم اضفت في ختام مكالمتي: اننا في بداية نهار طلق. امامنا فرصة مؤاتية علينا ان لانفرط بها.)
عند ذاك حسب، وافقت على الفكرة بمضض.
(5)
من بداية لسان الرصيف المحاذي لشاطيء النهر ألمنحسرة مياهه الغرينية، جعلنا ندرج الهوينا بخطا متساوقة.. نمشي شابكي الاصابع. بضعة مطاعم كانت مفتوحة، ومعظمها موصد الابواب. المكان شبة خال ليس ثمة صبية، او عوائل، او ثلل مراهقين. المطاعم تقدم نوعا واحدا من الطعام (المسكوف) رائحة السمك المشوي تتضوع عبر سورات الدخان المتصاعدة من مواقد الفحم المتوهجة. انفار من المارة يتها دون باسترخاء، متطلعين إلى النهر الخفيض تارة، وإلى السماء تارة اخرى. الكل يرفع ياقات سترهم ومعاطفهم، واضعين وقايات البرد الصوف على آذانهم المحمرة.
سألتُ نادية: هل كان من الضروري جلب المظلة المطرية؟
– انها ليست حملا ثقيلا. من يدري. ربما نحتاجها في اي لحظة.
كنا في فترة العصر، عندما إلتفت نادية إلي: الى اين سيصل ألمسير بنا؟
قلت: سننتهي عند مضيف شهريار وشهرزاد. ربما سيدعوننا لاحتساء مشروب على حسابهما الخاص.) كركرت حنجرتها، فتهدلت خصلات من شعرها الليلي على جبنيها، مالبثت ان ارجعتهم إلى الاعلى بحركة رشيقة جذابة من رأسها. قطعنا مسافة من رصيف الكورنيش. جلسنا على مصطبة صادفتنا- الرطوبة مابرحت ملتصقة بالخشب- جلسنا صامتين، كما لو اننا نتعمد كتمان مشاعرنا (كنا نضطهدها) على وجهها تعابير مبعثرة، إلا انها مقروءة بيسر من جانبي.. ان قلبها يكتوي بهم الفراق. عديد من الغدران غمرت الحدائق، مشكلة مانعا طبيعيا يحول دون دخولها. الاشجار وأجمات الورود جاردة.. الثيل مُصفر. النهر قبالتنا. هو ليس بعيدا عنا.
يفصلنا عنه منحدر رملي بعرض نحو مئة متر. تكسوه وتحاصره مستعمرات القصب والبردي ونثار النفايات، إمارة الاهمال والنسيان. رأينا إلى الجرف الممتليء بالطمي. قريبا منه ترسو العبّارات النهرية.. مهجورة هي الاخرى. ترفرف فوق قمراتها اعلام مشرشبة الحواف مهترئة القماش، بينما حطت على جوانب القمرات ودرابزينها مجاميع من طيور النورس وهي تتمايل. فيما وراء الضفة الاخرى، هناك المنطقة الخضراء التي وصفت بانها فردوسا مُنعماً.
في غضون ذلك، إستأنفنا سيرنا الوئيد.. كلما تنفس صدر الهواء التشريني هنا، نفث انفاسا باردة. آخرا، وجدنا انفسنا عند نهاية الكورنيش. بالضبط، داخل ساحة شهريار. تميلنا الشاخصين البرونزيين. كان الامير متسلطناً بجلسته المسترخية: يالهذا الرجل العجيب، ألا يكف عن سماع الحكايات الملفقة؟) علقت نادية. من داخل باحة الامير الذي لايكف عن سماع الحكايات، رنونا نحو الافق.. مافوق فضاء المنطقة الخضراء. من هناك لاحت لنا طلائع غيوم تقبل نحونا. جلها رمادية وبعضها بيض. إلتفتنا لبعضنا ” مرة اخرى غيوم! ” احكمت معطفي على جسمي. سورات هواء باردة بدأت تعلن عن حضورها. غذذنا السير باتجاه مطعم وكازينو ( ركن العشاق ) قبل ان ندلف بابه، بلل فروتي رأسينا نثيث ناعم..
– انه مجرد نثيث عابر.) طمئنت نادية.
قالت مشككة وقد سيطر عليها ملمح كآبة: هكذا تبدأ الامور عادة. اردفت بلهجة تفاؤل متكلفة: لقد ضربت السحب ضربتها طوال اسبوع وولت.) لم أوفق في تخميني. هذا ما اثبته الوقت اللاحق. دلفنا إلى الداخل. جلسنا بمواجهة الواجهة الزجاجية المطلة على حديقة مربعة تتوسطها نافورة داخل حوض. يجاور النافورة مُجسم طائر بجع يشهق بمنقاره عاليا، كما لو انه يتأهب لالتقاط هِبة من السماء. طلبت سمكة مشوية (هكذا وعدتها) للوهلة الاولى إستمرأنا السكون الذي يحيطنا، وشد إنتباهنا حشد السمك الملون في الحوض الزجاجي الصقيل، القريب من مائدتنا. حشد يمور بالحركة، كأنه يتأهب لمعركة في جوف بحر! دردشنا قليلا. يتعين علينا تزجية بعض الوقت ريثما يتوقف النثيث. لم يلح اللطف في مزاجها وعلى محياها، حتى ونحن نشاهد مقاطع من مواقف (المستر بن) المضحكة على شاشة البلازا. راقبنا عاملي المطعم وهما ينهمكان باعداد الوجبة. احدهما اربعيني بدين، يرتدي دشداشة وسطها مشدود بحزام جلدي بُني ويعتمر جراوية بغدادية. اما مساعده فكان شابا يافعا نشيط الحركة، عمل من أكليل شعره الفاحم سبايكا لافتا.
من وراء زجاج الواجهة العريضة، عاينا النثيث الذي مالبث ان تحول إلى مطر ناعم (يالسرعة تغيير الطقس) خلال نحو ثلث ساعة، وبينما نحن ننتظر وصول الوجبة، إكفهرت السماء. غمغمت نادية وهي تفرك اصابعها: هوذا المطر الذي قلب حالنا رأسا على عقب يعود ثانية) جاءونا بطبق السمك. إزدردنا محتوياته بعجالة، كما لو ان نداء أو ظرفاً يلح علينا. إتفقت خواطرنا على مغادرة المكان باسرع وقت. فعلا، غادرنا الصالة الدافئة بعد حين. في الخارج حلقت غمام خفيفة في الاعالي. لم يكن ثمة ضوء لافت، سواء مصابيح الاشارة الضوئية واعمدة الكهرباء الصدئة، او مصابيح جسر الجمهورية.. كلها مطفئة. كل شيء يسير نحو الانطفاء! فتحنا مظلتنا ونحن نسرع الخطى. عند الناصية لم نلمح احداً. كما لوان الجميع تبخروا. وحدها الاشجار تتمايل وجذوعها تهتز. تحت سروة معمرة كثيفة لذنا. نادية تتشبث بذراعي اليسرى. الاغصان الراجفة بدأت تنث نقاطا كبيرة.. نسمعها وهي تنقر قبة المظلة. لوحنا لاكثر من سيارة مرت من امامنا خطفا.. اخرا، وقفت احداها حذاءنا. ما ان إستقرينا داخلها حتى شرع سائقها بنوبة ثرثرة، محورها موضوعة المطر الذي عم البلاد وبهذل العباد ” ما الجديد في هذا الحديث الممل الباعث على السخط؟ ” غشي بخار انفاسنا- نحن الثلاثة- الزجاج، كأننا نمضي داخل قبو. فكرت بأسى ” ياللمطر اللعين الذي نغص علينا وشالة شهر العسل.” زخات المطر تشتد.. لهاث مضطرد على الزجاج. يكاد جهد الماسحتين الان ان يذهب هباء. وانا في خضم سرحاني وشرود بصري عبر الزجاج المضبب، تناهى لسمعي سؤال السائق المهذار: المطر رائع يا اخي.. اليس كذلك؟ وجدتني مجبراً للرد. بحنق مكبوت: اجل، اجل.. بل هو اكثر من رائع!!