رغم مضي أكثر من خمسين عاما على حرب أكتوبر، إلا أن الذاكرة الجمعية المصرية لا تزال تختزن في أعماقها تفاصيل تلك الملحمة، ليس كحدث عسكري فحسب، بل كتجربة إنسانية شاملة، انطبعت في وجدان الأفراد والمجتمع.
تأتي مجموعة “ضلع هايك” القصصية للكاتب سمير الفيل، والصادرة عام 2024، عن دار المفكر العربي بالقاهرة، كشاهد أدبي على هذه التجربة، لا يروي بطولات المعارك بقدر ما يغوص في الأعماق الإنسانية للجنود، مبرزًا فكرة المقاومة بوصفها فعلًا وجوديًا يتجاوز ساحة القتال إلى فضاءات الذاكرة والروح والواقع اليومي. وفي هذا السياق تمثل قصتا “ضلع هايك” و “طلقة مكدبة” عماد المجموعة، حيث تشكلان معا نسيجًا سرديًا مكثفًا يعيد بناء عالم الحرب من منظور الشخصي والحميم.
الألم شاهدا
تحكي القصة عن لقاء غير متوقع بين زملاء السلاح بعد عشرين عامًا من انتهاء الخدمة. “ضلع الهايك” – قطعة القماش المثلثة التي استخدمت كضمادة لجرح البطل “مغاوري” – تتحول من مجرد أثر مادي إلى رمز حي للذاكرة والألم والتضامن. فالضلع ليس مجرد غطاء للجرح، بل هو حافظة لدماء المغاوري، وشاهد على لحظة الألم التي كادت أن تودي بحياته.
. “لولا أن لفوا صدري بالضلع لما تمكنوا من نقلي بسرعة قصوى للمؤخرة.”
هنا، لا يتم تقديم البطولة كفعل استثنائي، بل كضرورة إنسانية للبقاء. اللقاء بين “مغاوري” و “حمام” و الراوي لا يحكي عن انتصارات مجردة، بل عن جروح لم تندمل، وذكريات تطل برأسها كلما التقى أصحابها. الصورة القديمة لطاقم الهاون توقظ الماضي بكل تفاصيله المؤلمة، حتى أن مغاوري يبدو في الصورة “غاضبًا ولا توجد له ظل ابتسامة”. الحرب في “ضلع هايك” هي حرب الجسد الذي يحمل ندوبه، والروح التي تعاني من صدمة لا تزول.
القلق الوجودي وعبثية الموت
في قصة “طلقة مكدبة” ، تتحول القذيفة التي لم تنفجر إلى استعارة مروعة للخطر المعلّق والموت المؤجل. الجنود محاصرون بتهديد غير مرئي، قذيفة قد تنفجر في أي لحظة، أو قد لا تنفجر أبدًا. هذا الوضع يخلق حالة من “الاستنفار الدائم” والقلق الوجودي الذي يطارد الجنود حتى بعد انتهاء الحرب، الطلقة المكذبة تجعلك في حالة استنفار دائم، فلا القذيفة انفجرت ولا هي مؤمنة بشكل جيد. هي في وضع انتظار مرهق، وقتل معلق.
البطل، الذي يعود إلى حياته المدنية، لا يجد خلاصًا من هذه الذكريات. فهو يصرخ في نومه، وتطارده مشاهد القتل والدماء. زوجته “وداد” تحاول مساعدته، لكنها تعجز عن فهم عمق الصدمة التي يعاني منها. هنا، تظهر المقاومة كمعركة داخلية ضد أشباح الماضي، وكفاح من أجل استعادة التوازن النفسي والعاطفي. حتى حين تحاول “وداد” ترك الزوج، نجد أن المعركة الحقيقية هي مع الذات والذاكرة، أكثر من كونها مع عدو خارجي.
المقاومة المتعددة الوجوه
لا تقتصر فكرة المقاومة في المجموعة على ساحة الحرب التقليدية، بل تمتد لتشكل خيطًا ناظمًا يربط بين معظم القصص، متخذة أشكالاً متعددة، مثل مقاومة النسيان والضياع، كما في قصة “المفاتيح”، حيث يواجه البطل صعوبة بالغة في فتح باب بيته بمفاتيحه الـ 99. الباب المغلق يمثل الحواجز التي وضعها النظام ضده، وذاكرته المسلوبة، وصعوبة العودة إلى الذات بعد سنوات من السجن والتعذيب. مقاومته هنا هي محاولة يائسة لاستعادة هويته وملكيته لذاته وتاريخه.
وأيضا مقاومة القهر الاجتماعي، كما في قصة “السيدة (س) على الخط”، نجد مقاومة من نوع آخر. الشابة التي تواجه أزمة حمل غير شرعي من صديقها “مراد”، ترفض دور الضحية. بتشجيع من الراوي، تتحول إلى “مفترسة لا كضحية”، وتقرر مواجهة الموقف بقوة. النهاية التي تظهرها بعد خمس سنوات مع طفلها وزوجها (مراد) تشير إلى انتصار الإرادة وإمكانية إصلاح الخطأ ومواجهة التابوهات الاجتماعية.
كذلك مقاومة الفقر، التي تبدو جلية في قصة “كسوة الشتاء”، حيث يحاول “رشاد” توفير ملابس الشتاء لبناته ببيع دجاجات المنزل. تعرضه للخدعة من تاجر الطيور لا يثنيه، بل يدفعه للمحاولة مرة أخرى، ليكتشف في النهاية أن “الديك صحا من موته” – على حد قول التاجر الماكر – في استعارة لضرورة عدم الاستسلام لليأس، وأن الأمل قد يعود حتى من حيث لا نتوقع.
وتتكرر في قصص المجموعة صور مقاومة الشيخوخة والمرض والموت، كما في قصص مثل “طلوع السلم” و “العكاز” و “بجوار النافذة”، نرى مقاومة كبرى ضد تدهور الجسد وزحف الشيخوخة. الراوي في “طلوع السلم” الذي كان يصعد السلم في وثبات، أصبح يعاني من كل درجة. صراعه مع النسيان (“أتذكر ما حدث منذ أربعين عامًا ولا أتذكر ما حدث الأسبوع الماضي”) هو شكل من أشكال المقاومة اليومية للزمن الذي لا يرحم. في “بجوار النافذة”، تقف الابنة بين وظيفتها المنتظرة في الخارج ووالدتها المحتضرة، لتختار البقاء في لحظة مقاومة أخلاقية للانتهازية والانشغال عن القيم الإنسانية.
وقد تكون المقاومة رمزية كما في قصة “الأخدود”، حيث يتحول “الأخدود” من مجرد حفرة في الأرض إلى رمز للمؤامرات الاجتماعية والحبائل التي تنصب للفرد. سقوط البطل فيه ونجاته منه يمثلان دورة المعاناة والصمود. وفي “عند الحافة”، نرى مقاومة فكرية ضد قسوة اللغة والمجتمع، حيث يرفض البطل الانتحار رغم إحاطة اليأس به، مفضلاً مواجهة الحياة بـ “أخمص قدميه”، في إشارة إلى ضرورة الثبات حتى النهاية.
إن فكرة المقاومة، بكل تجلياتها، هي القلب النابض لهذه المجموعة. إنها المقاومة التي تبدأ بضلع هايك يضمّد جرحًا في ساحة القتال، وتمتد لتصبح مفتاحًا يفتح بابًا موصدًا، أو إصرارًا على شراء كسوة الشتاء، أو اختيارًا للبقاء بجوار نافذة والد محتضر.
إنها مقاومة تثبت أن الإنسان، في أدق لحظات ضعفه وأقسى ظروفه، يظل قادرًا على المواجهة، ليس بالسلاح وحده، بل بالإرادة والذاكرة والأمل. وفي ذلك تكمن الرسالة الأبدية لأدب المقاومة الحقيقي، أن تنتصر الحياة على الموت، والإنسان على كل محاولات تحويله إلى رقم أو ظل أو طلقة “مكدبة” في رمال التاريخ.
تأتي مجموعة “ضلع هايك” القصصية للكاتب سمير الفيل، والصادرة عام 2024، عن دار المفكر العربي بالقاهرة، كشاهد أدبي على هذه التجربة، لا يروي بطولات المعارك بقدر ما يغوص في الأعماق الإنسانية للجنود، مبرزًا فكرة المقاومة بوصفها فعلًا وجوديًا يتجاوز ساحة القتال إلى فضاءات الذاكرة والروح والواقع اليومي. وفي هذا السياق تمثل قصتا “ضلع هايك” و “طلقة مكدبة” عماد المجموعة، حيث تشكلان معا نسيجًا سرديًا مكثفًا يعيد بناء عالم الحرب من منظور الشخصي والحميم.
الألم شاهدا
تحكي القصة عن لقاء غير متوقع بين زملاء السلاح بعد عشرين عامًا من انتهاء الخدمة. “ضلع الهايك” – قطعة القماش المثلثة التي استخدمت كضمادة لجرح البطل “مغاوري” – تتحول من مجرد أثر مادي إلى رمز حي للذاكرة والألم والتضامن. فالضلع ليس مجرد غطاء للجرح، بل هو حافظة لدماء المغاوري، وشاهد على لحظة الألم التي كادت أن تودي بحياته.
. “لولا أن لفوا صدري بالضلع لما تمكنوا من نقلي بسرعة قصوى للمؤخرة.”
هنا، لا يتم تقديم البطولة كفعل استثنائي، بل كضرورة إنسانية للبقاء. اللقاء بين “مغاوري” و “حمام” و الراوي لا يحكي عن انتصارات مجردة، بل عن جروح لم تندمل، وذكريات تطل برأسها كلما التقى أصحابها. الصورة القديمة لطاقم الهاون توقظ الماضي بكل تفاصيله المؤلمة، حتى أن مغاوري يبدو في الصورة “غاضبًا ولا توجد له ظل ابتسامة”. الحرب في “ضلع هايك” هي حرب الجسد الذي يحمل ندوبه، والروح التي تعاني من صدمة لا تزول.
القلق الوجودي وعبثية الموت
في قصة “طلقة مكدبة” ، تتحول القذيفة التي لم تنفجر إلى استعارة مروعة للخطر المعلّق والموت المؤجل. الجنود محاصرون بتهديد غير مرئي، قذيفة قد تنفجر في أي لحظة، أو قد لا تنفجر أبدًا. هذا الوضع يخلق حالة من “الاستنفار الدائم” والقلق الوجودي الذي يطارد الجنود حتى بعد انتهاء الحرب، الطلقة المكذبة تجعلك في حالة استنفار دائم، فلا القذيفة انفجرت ولا هي مؤمنة بشكل جيد. هي في وضع انتظار مرهق، وقتل معلق.
البطل، الذي يعود إلى حياته المدنية، لا يجد خلاصًا من هذه الذكريات. فهو يصرخ في نومه، وتطارده مشاهد القتل والدماء. زوجته “وداد” تحاول مساعدته، لكنها تعجز عن فهم عمق الصدمة التي يعاني منها. هنا، تظهر المقاومة كمعركة داخلية ضد أشباح الماضي، وكفاح من أجل استعادة التوازن النفسي والعاطفي. حتى حين تحاول “وداد” ترك الزوج، نجد أن المعركة الحقيقية هي مع الذات والذاكرة، أكثر من كونها مع عدو خارجي.
المقاومة المتعددة الوجوه
لا تقتصر فكرة المقاومة في المجموعة على ساحة الحرب التقليدية، بل تمتد لتشكل خيطًا ناظمًا يربط بين معظم القصص، متخذة أشكالاً متعددة، مثل مقاومة النسيان والضياع، كما في قصة “المفاتيح”، حيث يواجه البطل صعوبة بالغة في فتح باب بيته بمفاتيحه الـ 99. الباب المغلق يمثل الحواجز التي وضعها النظام ضده، وذاكرته المسلوبة، وصعوبة العودة إلى الذات بعد سنوات من السجن والتعذيب. مقاومته هنا هي محاولة يائسة لاستعادة هويته وملكيته لذاته وتاريخه.
وأيضا مقاومة القهر الاجتماعي، كما في قصة “السيدة (س) على الخط”، نجد مقاومة من نوع آخر. الشابة التي تواجه أزمة حمل غير شرعي من صديقها “مراد”، ترفض دور الضحية. بتشجيع من الراوي، تتحول إلى “مفترسة لا كضحية”، وتقرر مواجهة الموقف بقوة. النهاية التي تظهرها بعد خمس سنوات مع طفلها وزوجها (مراد) تشير إلى انتصار الإرادة وإمكانية إصلاح الخطأ ومواجهة التابوهات الاجتماعية.
كذلك مقاومة الفقر، التي تبدو جلية في قصة “كسوة الشتاء”، حيث يحاول “رشاد” توفير ملابس الشتاء لبناته ببيع دجاجات المنزل. تعرضه للخدعة من تاجر الطيور لا يثنيه، بل يدفعه للمحاولة مرة أخرى، ليكتشف في النهاية أن “الديك صحا من موته” – على حد قول التاجر الماكر – في استعارة لضرورة عدم الاستسلام لليأس، وأن الأمل قد يعود حتى من حيث لا نتوقع.
وتتكرر في قصص المجموعة صور مقاومة الشيخوخة والمرض والموت، كما في قصص مثل “طلوع السلم” و “العكاز” و “بجوار النافذة”، نرى مقاومة كبرى ضد تدهور الجسد وزحف الشيخوخة. الراوي في “طلوع السلم” الذي كان يصعد السلم في وثبات، أصبح يعاني من كل درجة. صراعه مع النسيان (“أتذكر ما حدث منذ أربعين عامًا ولا أتذكر ما حدث الأسبوع الماضي”) هو شكل من أشكال المقاومة اليومية للزمن الذي لا يرحم. في “بجوار النافذة”، تقف الابنة بين وظيفتها المنتظرة في الخارج ووالدتها المحتضرة، لتختار البقاء في لحظة مقاومة أخلاقية للانتهازية والانشغال عن القيم الإنسانية.
وقد تكون المقاومة رمزية كما في قصة “الأخدود”، حيث يتحول “الأخدود” من مجرد حفرة في الأرض إلى رمز للمؤامرات الاجتماعية والحبائل التي تنصب للفرد. سقوط البطل فيه ونجاته منه يمثلان دورة المعاناة والصمود. وفي “عند الحافة”، نرى مقاومة فكرية ضد قسوة اللغة والمجتمع، حيث يرفض البطل الانتحار رغم إحاطة اليأس به، مفضلاً مواجهة الحياة بـ “أخمص قدميه”، في إشارة إلى ضرورة الثبات حتى النهاية.
إن فكرة المقاومة، بكل تجلياتها، هي القلب النابض لهذه المجموعة. إنها المقاومة التي تبدأ بضلع هايك يضمّد جرحًا في ساحة القتال، وتمتد لتصبح مفتاحًا يفتح بابًا موصدًا، أو إصرارًا على شراء كسوة الشتاء، أو اختيارًا للبقاء بجوار نافذة والد محتضر.
إنها مقاومة تثبت أن الإنسان، في أدق لحظات ضعفه وأقسى ظروفه، يظل قادرًا على المواجهة، ليس بالسلاح وحده، بل بالإرادة والذاكرة والأمل. وفي ذلك تكمن الرسالة الأبدية لأدب المقاومة الحقيقي، أن تنتصر الحياة على الموت، والإنسان على كل محاولات تحويله إلى رقم أو ظل أو طلقة “مكدبة” في رمال التاريخ.