إيمان العبيدي - وسادة واحدة تكفي.. قصة قصيرة

كانت تنظر الى العالم من زاوية بعيدة، لم يبهرها أيُ شيء في هذه الدنيا، أستقلت سيارة أجرة، جلست تُراقب و تتأمل من خلف زجاج السيارة حركة الناس، وتحصي الشوارع، تُحلق في الوجوه التي تمرُ عليها بسرعة خاطفة، تنظرالى اللافتات و العناوين، و أسماء الأطباء وعيادات التشخيص المُبكر للأورام و العلاج الأشعاعي.

دخلت غرفة الطبيب الذي يُعالجها وهي تحمل نتائج التحاليل التي أجرتها مؤخراً، و بيدين راجفتين أعطتها له و كأنها بأنتظار حكم الأعدام، كان إدراكها شبه متوقف و هي تستمع إليه و تزاحمت الصور والمواقف في مُخيلتها، خُيل اليها إنها لم تسمع منه غير كلمة واحدة..”خلايا خبيثة “.. و قفت كتمثال رخام أمامه، تحجرت كُل إنفعالاتها خاطبها الطبيب : إستريحي لم أكمل بعد…

و كأن ذهولاً أطبق على كل حواسها و مزقت كلماته كُل أحلامها و أمنياتها بلحظة لتتهاوى الى بئرٍ سحيق من الخوف والرعب، و ما أن أفاقت من صدمتها، حتى خرجت مُسرعة دون أن تنبس ببنت شفة، لم تدعهُ يُكمل حتى لا ترى ملامح الشفقة على وجهه و الحسرة في عينيه، رفضت أن يكتب لها العلاج، خُيل لها إنهُ سيكتب نعيها

لم تستطع منع دموعها النازلة على وجهها و هي تسير في الشارع بلا هدف، كم كانت تُفزعها لحظات التفكير بالموت و شعوره المؤلم، نحن نعرف الموت لكننا لم نُجربه، و سنعيش إحتضاره يوماً ما أكيد!

و بإنكسارٍ و خوف حدثت نفسها قائلة : كُلنا سنموت ووحده الدائم الباقي.

و مع هذا الأحساس توالد إحساس آخر بالحنين و هي تستذكر كيف كانت بضحكاتها وهمساتها تضفي سعادتها على زوجها، تلاعب اولادها كأنها طفلة مثلهم، هكذا كانوا، هذا يصرخ و ذاكَ يلعب، و أبنتها الجميلة الصغيرة ذات الضفائر الذهبية، تمتمت دون وعي : أبنتي..أريد أن أصل الى بيتي بسرعة أشتاقُ أن أضمها لصدري وأرغبُ في أن أسمعها تُناديني..ماما.أحبكِ…

و عندما وصلت لبيتها، تهالكت على أول مقعد صادفها، تمتمت دون وعي..خلايا..خلايا..

و بحركة لا إرادية تحسست جسدها كمن يبحث عن شيئ ما و رددت : خلايا إنها تكبر و تنمو تتوالد و تنشطر في جسدي، إرتجفَ قلبُها و أستكانت مستسلمة للأفكار السود بعد تلك الثورة و ذلك الهيجان العاطفي الذي إعتراها، تُحاول أن تهدئ نفسها من جنون مخبوء فيها، كأنها تنثر رماد جسدها على شاطئ الأمنيات المؤجلة أختلطت أنفاسها بالنشــيج المؤلم و هي تتأرجح مابين الموت و الحياة، مالذي ستقوله لأولادها، كيف تشرح لهم؟ هل تستطيع أن تبتسم لهم و هي غارقة ببحرٍ من الدموع هل تصف لهم الحياة و هي تتنفس الموت، وشعرت و كأن بركانا سينفجر في جسدها، مررت يدها على جبينها المتعرق و هي تهذي : إنها الحمى أكيد الحمى، تسابقت الكلمات مع الدموع المنهمرة لتكمل : من الآن و صاعداً سأكون معهم :كل صباح سأقبلهم و كل مساء سأضمهم الى صدري. و انفجرت ببكاءٍ حار تُعزي نفسها

كانت تُراقب أولادها و هم يلعبون، يتصارعون، يمرحون بعين أرهقتها الدموع و بقلبٍ وجلٍ بائس، و كلما كانت الأيام تمر تتوالد الخلايا كالهشيم في النار لتعيث في جسدها الخراب و الدمار يوماً بعد يوم. كان زوجها قد لاحظ عليها التغير المفاجىءالذي إعتراها و طرأ عليها، و في لحظة حميمية جمعتهما روت لهُ مصابها، عندما نطقت اولى الكلمات، إضطربت نظراته و تداعت الأبتسامات في وجهه، فتح ذراعيه و ضمها لصدره بقوة كالمتلهف المشتاق مرر يده على رأسها يرتبُ شعرها و بأنينٍ خفي همس في أذنها : حبيبتي، يا من انتِ الحياة، إتركي الخوف و أهزئي بكل شيئ، أنا أحتاج لرفقتكِ يارفيقة دربي و أولادنا بحاجة لنا.

كان يُسقيها الأمل و هو مكسورالأمل، يُعانقها بحرارة و هي أصبحت كالجليد، قلبه يتهرأ مع قلبها و كأنهُ يحملُ نعش قلبه قبلَ نعشِها، يُحلق مع الامل تارة فيخنقهُ اليأس هل يخدعُها أم يخدع نفسه و هو يعرف أن مرضها لا شفاء منه، مؤمن بشراهته و جوعه.

قالت له :حبيبي كم أحتاجكَ..لمَ عندما تُقبلني أشعر بأنها القُبلة الأخيرة، و أتخيل أن هذا السرير الذي يضمنا بوسادتين لا أرى ألا وسادة واحدة، في الصباح أضعُها و في المساء أخفيها.

و ضع يده على فمها بلطف أن لا تُكمل حديثها و هواجس خوفها..

قال لها : صغيرتي.. لا تكفيني هذه السنوات التي مضت و لا أضعافها، كم أود أن أفديكِ بحياتي، فقد تعودتُ أن أغفو على نغمات قلبك كُل ليلة مثل طفلٍ صغير دعينا نبحث عن حقائق جديدة تخُصنا، نبحث عن بذرة أمل نزرعها في نفوسنا نهيئ الأجواء لها، نسقيها العشق و الحنان حتى تُزهر لنتستظل بها و نحتمي، سنهرب الى الله الجليل ندعوه، نساله و نستجدي العافية بالصدقات، سنطلب العون منه، من رب لا تغفل عينهُ و لا تنام..

و في مساء اليوم التالي عندما توجهت الى غُرفتها فوجئت بأن على السرير وسادة واحدة، غمرها حزن شديد ووجع مدفون، لم تشعر الأ وهو يحيطها بذراعيه يشُم عبق دفئها، و هو يقول : حبيبتي وسادة واحدة تكفينا، ذراعي هي وسادة لكِ، فهي تُجمعنا و تُقربنا اكثر.إبتسمت لهُ و طوقته بذراعيها لتحتضنه بقوة لتشهق أنفاسه الحنون و تُزفر خوفها و يأسها معاً…….أنتبها..الى نور الفرح الذي تولد في نفسيهما، نور الوجد في الله..نسيا المرض… و نساهم المرض، الى الأبد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى