نضال الخليل - صرخة في الفراغ، حين يفقد الكلام ظله... قراءة نقدية

صرخة — لا تبدأ من مجرد كلمة بل من انفجار يفيض عن ذاته قبل أن يُنطق.
هي فعل صوتي أول لكنها في الوقت ذاته صمت مضاعف، لأن الصرخة لا تُعلن نفسها بالكلام بل تفجّر الصمت وتفضح الفراغ الذي احتوته الليالي المبللة بالحزن واليأس والسأم.

القذائف تتناثر، تنطفئ الأضواء، ويتعاقد الليل مع عويل الرصاص ليصبح المشهد فضاءً يتأرجح بين الصمت والانفجار، بين الرهبة والشهود، بين ما يُرى وما يخفى في الأجساد والديار.

العنوان إذن ليس مجرد إعلان، هو بوابة إلى حالة وجودية، إلى وعي على حافة الصوت حيث الكلام عاجز وتُستدعى الصرخة لتملأ الفراغ الذي تركه الصمت.

الليل في هذا النص ليس زمنًا يمر، لكنه فراغ متكاثر، مساحة تتعرض فيها الذات للاصطدام بذاتها وبالعالم، حيث يمتزج السكون بالعنف، والصمت بالانفجار، وحيث تتحول الحياة إلى ترقّب دائم، إلى وعي ينصهر بين انتظار الصفر والموجة التالية.

الليل مع انطفاء الأنوار يصبح فضاءً للصرخة، لأنه لا ضوء يرصد، لا ظل يكتم، بل كل شيء مكشوف للتحول، وكل شيء معرّض للاختبار.

القذائف التي تمتد أجنحتها لتصطاد كل ما تواجهه تجعل من المكان ليس مجرد مدينة، لكنه ساحة وجودية تُعرّض الذات للرهبة وتُلزمها بالصمت والصراخ في آن واحد.

1762267015264.png

الشخصية في هذا النص لا تُعرّف بالاسم أو الملامح، لكنها حاضرة في الزمان والمكان، مكبّلة بالمشهد.
هي التي تعيش ليلة ليست كسابقاتها، التي شهدت انطفاء الأنوار وسمعت أزيز الرصاص وتجسّدت فيها العتمة.

الذات في هذا المكان تصبح حُفرة، صوتًا داخليًا يتصدّع عند نقطة الصدمة، صمتًا أول، ثم انفجارًا.
الصرخة ليست مجرد رفض، بل فعل شهود: الشهيد يرى هشاشة العالم وسقوط الإنسانية حين يصبح الليل عقدًا من الصمت والرصاص.

الصرخة ليست ترويضًا للعنف بالعنف، لكنها تذكير بأن العنف قد ألزمه الصمت، فتخرج الليلة لتعلن ما طالما تكتّم.
اللغة كثيفة مشبعة بالصور: القذائف تتناثر، انطفأت الأضواء، الليل عقد صفقة مع عويل القذائف والرصاص.
هذه اللغة تنزلق في انعطافات نفسه حيث تتوسع الصورة ثم تنكسر إلى الصمت.

الصورة الأولى – الحزن، العتمة – تتبعها الصرخة لحظة احتمالية:
هل سيصمد الصوت أم يُخنق؟

الليل المفتوح المهدَّد يجعل اللغة نفسها تتصدّع، فتصبح العبارات متيقظة تُحيي التجرد من المعاناة وتجعل النص أكثر من مجرد خبر، بل مساحة للتجربة الوجودية.

الصرخة في سياق القصف والرعب تتجاوز الفرد لتصبح صرخة جماعية: مدينة، حضارة، ليلة، لكنها في اللحظة نفسها انعكاس لحالة الذات المكبّلة والتي تمثل حالة إنسانية أوسع.

الليل المتعاقد مع القذائف ليس ملكًا لذات واحدة، بل لساحة وجودية جماعية، والصرخة تمر من الداخل إلى الخارج، من الفرد إلى الجماعة، من الصوت إلى الصمت المفتَرض.

انطفاء الأنوار ليس مجرد حدث مادي، لكنه رمز لانقطاع الأمل أو لحظة يُحظر فيها الكلام، فالصرخة تصبح الخيار الأخير، صوتًا يحاول أن يُسمع حين يسود الخراب.

القذائف تصطاد كل ما تواجهه دون رحمة، والصرخة هنا ليست طلب نجاة، لكنها إعلان رفض لقدرة الموت على الصمت.
الناجي ليس فائزًا بالضرورة، لكنه حامل للصرخة يتحدث نيابة عن من غاب وصمت.

النص يعيد توزيع الأدوار: من مكبوت إلى متصدٍّ، من ضائع إلى معلن.
البُعد الفلسفي هنا بارز، فهو تأمل في ما يعني أن تكون إنسانًا حين يُمس وجودك بالعنف، حين يُفقد الكلام قيمته.

«صرخة» لعائشة أبو ليل ليست مجرد سرد لمشهد حربي، بل تأمل فلسفي في الوجود المهدَّد، في لغة تتجاوز الصمت وتصل إلى ما قبل الصرخة.
النص يخلق مسرحًا للوعي، لغة استعارية متعددة الطبقات حيث الصوت والفراغ، الحضور والغياب، يتشابكان في لحظة واحدة.

نضال الخليل



***

صرخة... قصة قصيرة

إنها ليلة ليست كسابقتها من الليالي ، مكسوة بالحزن الشديد، مبللة باليأس والسأم. القذائف تتناثر في السماء تمدّ أجنحتها لتصطاد كل ماتصادفه أمامها دون رحمة .
انطفأت الأضواء في البيوت المتلاحمة وازدادت حلكة الليل وكأن الليل عقد صفقة مع عويل القذائف وأزيز الرصاص المتلاحق .
هاهي سراب تحمل شمعة براحة يدها كان لهيبها يتلوى مع نسمات حارقة وكأنها تلعب مع سراب لعبة الاختفاء، ثم تعاود لتشعلها من جديد ، وفجأة احتل قلب سراب خوف حفر أخاديده في حنايا روحها عند سماعها صراخ ابنها سراج الذي يتعالى كل حين ويزداد أنينه ألماً ووجعاً ، تلعثمت سراب بوشاح حيرتها وضجيج الصمت يخنق ضلوعها، احتضنت ابنها سراج، وربتت بيديها الراجفتين على كتفه وتمتمت بكلمات : ماذا نفعل الآن؟ كيف السبيل للوصول إلى أقرب مشفى؟ والليل في الخارج يقضم الأرواح كالشبح. وعينا زوجها تعانقان ملامح سراب وتحتضنان مشاعرها المختلطة خوفاً من هول وضجيج الطائرات والقذائف تارة ، وتوجعاً من آهات ابنها سراج تارة أخرى . وزوجها يهدئ غليانها بتمتمات هادئة مكسوة بالقلق والتوتر .
حرك زوجها سيارته ببطء خوفاً من قذيفة ما ربما تلاحق أمانهم ، وصراخ سراج يتعالى ويتلوى ، لاشئ مسموع في هذه اللحظة الرهيبة سوى نباح الكلاب وأزيز القناصات والرصاص . وتطول المسافات كلما اقترب زوج سراب بسيارته وهو يضغط بقدمه الدعسات ليزيد السرعة ، وسراب تمسك قلبها بيدها تحاول تهدئة خفقاته التي اختلطت بأصوات جنون القذائف ، تنظر من النافذة تترقب الطريق بحذر . للحظة استحكمتها حلقات الحاضر الراجف، وعادت بذكرياتها إلى الماضي الأليم.
استطاعت سراب في خضم حياتها تحقيق جزء من أحلامها، وكونت أسرة صغيرة تستمد بوجودها الدفء والأمان ،
التفتت سراب تنظر إلى وجه زوجها يكسوه صمت رهيب مغموس بالهلع والقلق ، كلما إزداد أنين سراج . وعلى بعد أمتار يوقف سيارته لتلقي الأسئلة المتكررة، إلى أين ذاهب ؟ ومن أين أتيت ؟ ونظرات سراب تجوب المكان وتحتضن ابنها تحاول إسكات وجعه وتترقب نبضات قلبه ، وملامح وجهه .
استحضرت سراب ذكريات الماضي الأليم ، وسرحت بأفكارها إلى عالم والدها ، تذكرت للحظة تمتمات والدها الذي كان دائماً يتغنى بوطنه المسلوب ، وأرضه التي سرقت ، بتخطيط مسبق من قبل عصابة عدوانية مسيطرة بهدف الاستيلاء على الوطن وتشريد شعبه .
يااااه رحمك الله ياوالدي كم نهشت جسدك حياة الاغتراب ! والتهجير والتشريد . عشتّ سنين المعاناة مغموسة بلذة الألم ، ممزوجة بأوقات الأمل ، أمل العودة القريبة إلى وطننا المسروق .
آه... كم آلمك صمتك ياوالدي ، وأنت تنصت إلى أنين الحنين . كم جرعت من كؤوس الأمل والانتظار ، كي تعود إلى جذورك الأصيلة . ترى كم تعادل هذه اللحظة الرهيبة التي تكبلنا بقيود الحيرة وجنازير الحاضر الوخيم ، بسنين الماضي وقلب يسافر بحنينه كل حين إلى بستانه الذي كان يزرعه بيديه .
ايييه ياوالدي ربما الأمل اكذوبة شيعته رغبات الانتظار . ماذا لو كنت على قيد الحياة ورأيت كيف أن التاريخ يتكرر الآن بأوجاعه وآلامه . رحمة الله عليك ياحنون رحلت عن الدنيا وقلبك يهتف بالعودة إلى أرضك ووطنك .
عشت متأملاً ، ومتّ متمنياً أن يكون جثمانك تحت شجرة الزيتون التي زرعتها بيدك .
استيقظت سراب من غفوة ذكرياتها على صرخات سراج التي تتعالى ، وسراب وزوجها يلتهمهما الخوف وطول المسافة . كل شئ مخيف في هذا الليل ، والعتمة غيبت معالم الطريق .
انتشرت ثرثرة الأماكن الصامته وأسبل سراج عينيه اللتين ذبلتا من شدة البكاء والأنين .
توقف نبض قلبه الصغير ولم تقترب المسافة لأقرب مشفى ، لقد طال الوقوف على أطلال الحواجز ، سراج يخبو ويخبو ، وسمع زوج سراب أحدهم يقول : ( الله يرحمه ، عد به إلى بيتك فالطريق إلى المستشفى من هنا ممنوع ).
صرخت سراب من أعلى منصة الألم واختنقت بأشواك جرحها النازف، لقد اقتطف الموت زهرة روحها وخلع من ضلوعها مضغة قلبها وشُيّع سراج في حقول الورد والياسمين .
انقلبت لدى سراب وزوجها كل الموازين بموت ابنهما سراج ، وتغيير المعادلات الكونية ، استمرت مشاهد الرعب على مسرح الوطن، واغتيلت ضحكات.
بدأ زوج سراب يفكر بطرق للهجرة والرحيل والبحث عن مستقبل جديد ، وبتحدثان كل لحظة، إلى أين السبيل؟ والحرب أمامهم تنهش الأجساد ، والبحر وراءهم يلتهم الهاربين ويهديهم غذاءً لأسماك قاع البحر .
لم يكن قراراً سهلاً لدى سراب وزوجها لكن الدروب ضاقت بساكنيها والأماكن أُعتقلت في سجون لاأعمده لها.
ها هي سراب تحزم أمتعتها من نزوح إلى نزوح موجع، ومن رحيل إلى رحيل أشد وجعاً ، هاجرت سراب وأسرتها في فجر كان حائراً كافح البزوغ وعاند اشراقة الشمس، تركت خلفها ذكرياتها المخملية وجاءت لتخوض رحلة اغتراب جديدة بحثاً عن بصيص ضوء لمستقبل مجهول .
يقال إن التاريخ يعيد نفسه، في المرة الأولى كمأساة لكن المرة الثانية لاوجود لها في قاموس المسميات ، قد تختلف الظروف في الزمان والمكان لكن هناك أشياء ثابتة متعلقة بسراب والأنا في ذاتها بأحاسيسها وشعورها بألمها ومعاناتها .
بدأت سراب تجوب بلاد الغربة تبحث عن معنى جديد للأشياء للمفاهيم للأماكن وحتى العلاقات ، بعيون سراب كل شيء جميل هنا يبهر النظر ، كل شئ دقيق بتكوينه وترتيبه واحترام الوقت ونظام التكنلوجيا ، لكن مع مرور الزمن تقلصت الرغبات في روحها وهي تمتطي حصان الوقت وتحصر تفكيرها في نقطة البداية وكيف ستخوض مع أسرتها سفينة الأيام بعاداتها الجديدة وقوانينها المفروضة ، وعادت إلى عهد الدراسة تحفظ دروسها وواجباتها ، تبذل عصارة تفكيرها لتصل إلى مايوصلها للإستقرار وتسير في ظل الضوء الخافت الذي ربما يوصلها للمستقبل .
في بلاد الاغتراب يكتوي قلب سراب
ببصمات صمت عصيّ عن البوح ، كانت سراب تظن أنّ الزمن ورقة بيضاء تصنع فيها خطوط التمني وتبني دروب أحلامها، لكن القدر يلعب لعبته.
تجاهد سراب في غربتها لعلها تصطدم يوماً بحلم عابر يعيد توازن روحها ، أو ربما تجد طريقاً تبني فيه الأمنيات بحجارة الزمرد وألوان الأماني، التي توصلها إلى أرض أجدادها التي سُلبت ودُمِرَت وسُرقت والتي أخذت نصيبها الأكبر من الموت والقهر والاحتلال .
كم يؤلمها اللجوء وكلمة لاجئ ووطنها وجذوره كالجنة بنعيمه وخيراته في أيادي الغاصبين .
هنا وبالرغم من الأمان وبرمجات العصر الحديثة لكن سراب لم تشعر بحلاوتها ولم تتذوق فرح اللحظات غير أنها تسافر بروحها كل حين إلى أرض وطنها التي لم تره إلا عبر حكايا والدها . وتهفو روحها كل يوم وليلة لزيارة قبر سراج الذي دفنته في أرض بعيدة عن ناظرها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى