حسب الله يحيى - أصابع خوبي الستة..

(1)
اعتادت الدابة التي أمتطيها كل أسبوعين، أن تتوقف في هذا المكان.كانت الدابة ترتاح في هذا المكان تحديداً، مثلما كنت أحس بالراحة كذلك، ومثلما تحس خوبي كذلك.
نحن الثلاثة: الدابة وأنا وخوبي.. ثلاثة مخلوقات من طراز مختلف ولغات متعددة وأماكن متباينة.. لا يجمعنا سوى هذا المكان.
لم يكن المكان.. مكاناً متميزاً، ولا يختلف عن أي موقع مهجور.. جف زرعه واحترقت بيوته، وحفرت طرقه، وضاع أهله.. ولم يبق من بينهم سوى هذا المكان الغريب، العجيب الذي اسمه: خوبي.
كانت خوبي امرأة، ومهما تعددت الأوصاف بشأنها.. فإنه لا يمكن إخراجها عن هذا التوصيف كونها: امرأة.
هذه امرأة بالتأكيد، مظهرها، جسدها، شعرها.. كل مواصفات المرأة مقترنة بها.
إلا أن خوبي.. لم تكن أنثى.. بمعنى أنها لم تفكر يوماً أن تتجمل وأن تظهر مفاتنها، مع أنها لا تتجاوز في جميع الأحوال العقد الرابع.
عيناها شرستان، نمرتان، فيها شيء من البدانة، وشيء من الجنون، وأشياء كثيرة من التحدي والغضب والعدوانية.
كان كل من يمر في الطريق ويلتقيها.. يعمد الى تجنبها، حتى ان البعض راح يسلك طريقاً آخر لئلا يمر بها خشية تعرضها له والنيل من كرامته.
كنت من القلة الذين يريدون اللقاء بها.. أتفاءل بها.. أحسها سعيدة بلقائي، لم أكن أعرف لغتها الكردية، مثلما لم تكن تعرف لغتي العربية.
كانت الإشارة، أفضل الرموز التي ابتكرها الإنسان لكي يحقق تفاهمنا..
أقول.. ربما هي الصدفة أن نلتقي أكثر من مرة في الوقت ذاته والمكان ذاته.
الوقت ضحى، الموقع عند شجرة جوز محترقة.. لم يبق منها إلا جذعها الأسود وجذرها والمغول في عمقه.
تجلس في هذا المكان.. على صخرة بعينها.. تنتظر.. وبتكرار اللقاء.
صرت وصارت الدابة تقف في الزمان والمكان في حضرة خوبي.
أسلم بالإشارة وتجيب بالإشارة وبكلمات مضافة لم أكن أفهمها تقول: (بخيربي) وعرفت أنها كلمات ترحاب وتفاؤل بالخير.
كنت أحمل إليها قدراً من المواد الغذائية الجافة وقنينة ماء كبيرة وخبزاً من الرقاق.
كانت تخجل وهي تأخذها مني.. وتبدو سعيدة أن أذكرها كلما مررت بطريقها ذهاباً وإياباً.
لم يكن بوسع دابتي أن تعرفني بها.. مع أن كل ما يحيط بخوبي يثير الأسئلة.. ذلك أنني لم أشاهد في المكان مخلوقاً سواها.. فهل هي وحيدة في هذا المكان الذي هجره أهله؟
كيف تعيش خوبي وحيدة.. إن لم تكن معتوهة أو مجنونة أو فاقدة للذاكرة؟
لكن تكرار اللقاء بها نفى عنها كل هذه الشبهات..
خوبي لم تكن معتوهة أبداً.. إنها امرأة تتمتع بطبع خشن، يحول دون إدارة الكلام أو الإشارة إليها.. لم تكن مجنونة.. فالجنون عدوان أحياناً وسكوت في أحيان أخرى.. وخوبي لم تكن عدوانية كما يحسبها البعض أو يمرون بها.. كما لم تكن بلهاءً وغير مصابة بداء النسيان وفقدان الذاكرة ومرض الزهايمر بعيد عنها.. وإلا كيف تعرف موعد ذهابي وإيابي من هذا المكان، ولماذا لم أجد منها سوى ابتسامة تنمُّ عن حزن وشكوى.. مع أنها لم تشك أبداً، ولم تطلب حاجة أبداً..
باتت خوبي تشغل ذاكرتي، وما كان من طبعي السؤال عن الآخرين، وإنما كنت أفضل معرفتهم بنفسي.. لكنني أدرك جيداً أن من يجيب عن سؤالي.. سوف ينقل رأيه محباً أو كارها.. وما كانت بي حاجة للصفتين.. غير أني هذه المرة، كانت بي ضرورة ملحة لمعرفة شيء عنها..
ثم أهملت السؤال، ورحت أبحث عن سبل لمعرفة خوبي بنفسي.
جئتها من المدينة بثوب وحذاء وطعام.. تناولت ما حملته ولم تعرف كيف تشكرني وتعبر لي عن امتنانها.. كانت مرتبكة، خجولة ومبتسمة.. وكانت بها فرحة غريبة.. أحسست بها وكأنها امرأة أخرى.. بهية الطلعة، مشرقة الوجه..
وعندما التقيتها بعد أسبوعين من زيارتي تلك، وجدتها تنتظرني وهي ترتدي الثوب الذي جئتها به، فيما تنتعل الحذاء بقدم واحدة، وتشد القدم الآخر على الفردة الأخرى للحذاء.. سألتها مشيراً الى الفردتين:
أجابت بحزن.. مشيرة الى أن قدمها الثانية مصابة.. وقد دهست، وأن لكل قدم من قدميها ستة أصابع..
آلمني الموقف، أحسست بمعاناة وألم خوبي.. تساءلت من سحق قدمها.. عربة وليس في القرية عربة، هل هم الذين سحقوا أصابعها الستة؟
ما كانت بي القدرة حتى على معالجة الأصابع المصابة.. ولم أكن أعرف إن كانت الإصابة قديمة، أم مضى عليها زمن وقد تشوهت ولم يعد يصلح لها حذاء؟
لم أعرف كيف أعبر لها، وكيف أصل الى جوابها.
كانت قريتي التي أعمل فيها معلماً.. تبعد ساعة من الزمن مشياً على الأقدام وأكثر من نصف ساعة حين أستعين بدابتي.
شغلتني خوبي، وصارت مصدر اهتمامي وملكت عليّ كل أوقاتي..
حاولت إبعاد فضولي هذا. أبعدت عني الرجل الذي كنته، والمرأة التي كانت مدار اهتمامي صدفة.. فمثلها يستحق الرأفة، مثلما يستحق الأسئلة كذلك.. وإلا كيف تعيش امرأة في الأربعين وحيدة، كانت قد أحرقت ودمرت بيوتها وأشجارها.. وهرب أهلها الى أماكن غير معلومة؟
بقيت الأسئلة مدار عقلي.. من دون إجابات أسعف بها انتباهي واهتمامي وحرصي على معرفة هذا الكائن الغريب الذي اسمه: خوبي!

(2)

شاغلي الذهني، أثقل عليّ أوقاتي، وهو الأمر الذي اضطرني للسؤال عنها.
سألت الرجل الوحيد في قريتي الذي يعرف قدراً من العربية..
كانت كلماته تتكسر على لغة تجمع العربية والكردية.. لكنني استطعت أن أفهم منه.. أن خوبي امرأة عجيبة ونادرة.. يفخرون بها ويعتدون ويتندرون بأمرها، ويرثون لحالها.. وهي لا تقبل إشفاق أحد ولا أن يمن عليها أحد..
قلت: ولكنها تقبل مني ما أقدمه إليها كلما مررت بطريقها!
قال: قد تكون أنت حالة استثنائية..
- وكيف تعيش.. بلا ماء ولا غذاء.. وفي الظلام لوحدها؟
- هناك عين ماء تشرب منها.. كانوا قد عملوا على دفنها بالاسمنت لكنها عادت تنبع ويتدفق منها الماء..
أما الغذاء فهناك أعشاب برية تأكل منها.. أما الليل.. فإن خوبي لا تخاف من الظلام.. وربما كان الظلام نفسه يخشاها!
لها فراش لا تنام فيه إلا قليلاً.. وتجدها تتجول في البيوت المحترقة.
- ماذا تفعل هناك..؟
- لا أعرف.. ربما تتذكر الناس الذين كانوا يسكنونها..
تراكمت في ذهني الكثير من الأسئلة.. واخترت من بينها سؤالاً:
- لماذا بقيت من دون أهل القرية..؟
- المسلحون قتلوا رجال القرية وأحرقوا بيوتهم وتشرد الأطفال والنساء.. لم يبق هناك شيء لم يحترق.. الجميع رحلوا بعد أن امتد سلاحهم الى النساء والأطفال..
وعندما وجدوا خوبي تقف بوجوههم قابلوها بضربات على رأسها.. وعندما شاهدوا قدميها بستة أصابع راحوا يضغطون عليها بأحذيتهم الثقيلة.. وقد نجت إحدى قدميها فيما تهشمت أصابع الثانية وبقيت فاقدة الوعي ولم يتسن لها اللحاق بالنساء والأطفال الذين تركوا القرية..
ويقال إنها ظلت مصّرة على البقاء.. وقد نقلوا عنها أنها قالت: لن أترك القرية.. آثار أصابعي ودماء جراحي وقبر زوجي على الأرض.. لا أترك مكاناً فيه أثر مني ومن الرجل الذي سأظل أحبه!
سكت قليلاً وهو يحاول جمع إيقاظ ذاكرته ليحدثني عنها.. قال:
- الحديث عن خوبي كثير.. كانت تحب رجلاً وتزوجته بعد معاناة طويلة.. قتلوه أمام عينيها.. دفنته بنفسها.. وظلت معنية بقبره.. وتزوره عدة مرات يومياً.. وهي ما زالت تحدق في الأرض علّها تعثر على خاتم زواجها.. هذا الأمر مضت عليه سنوات.
سألت: وهل أصابعها ما زالت تؤذيها.
- نعم.. أصابعها قد تكون قد شفيت.. ولكنها تشوهت ويصعب عليها ارتداء أي حذاء..
- ألم تحاولوا نقلها الى قريتكم..؟
- حاولنا مراراً.. ورفضت، حتى أصبحت تكرهنا وترفض اللقاء بأحد منا.. وإذا صادف وان مرّ بها أحد من القرية فإنها تواجهه بالشتيمة وضربه بالحجارة.. لذلك بتنا نتجنبها..

(3)

كانت المعلومات التي حصلت عليها من ذلك الرجل.. تعتمل في ذاكرتي، وتجعلني شديد الشغف الى لقائها.. وبت شديد الحرص على تدبير طعامها وملابسها كلما استطعت.. وقد استعنت بدابتي لزيارتها.. خارج موعد الاسبوعين المعتادين..
قصدتها مشياً أكثر من مرة.. مع ان ذلك كان يرهقني.. إلا أنني عندما أجدها تجلس في مواجهتي.. أحسن أنها تريد أن تحدثني بأشياء كثيرة تحملها.. ولكن اللغة تظل حاجزاً بيننا.. فيما الإشارات كانت تفلح أحياناً في شدنا الى بعضنا..
وذات مرة.. فوجئت بها ترفض كل ما أحمله من طعام وثياب.. أشرت إليها متسائلاً عن السبب.. وعن الشيء الذي تريد مني أن أحمله إليها..؟ حركت رأسها رافضة.. ألححت عليها بالسؤال.. ربما أكون قد أسأت إليها من دون أن أدري.. وعندما كررت إشارتي بالسؤال، وجدتها تشير الى خاتم الزواج الذي أحمله في اصبعي اليسار.. ترى هل يقترن بنصري ببنصر قدمها.. هل تسألني إن كان يؤلمني وهو محاصر بالخاتم الذهبي..؟
لكنني أفلحت في فمها وهي تشير خجلة الى حاجتها ورغبتها في هذا الخاتم..
انتابني شعور بالحرج.. حرج إن رفضت، وحرج من زوجتي ان تخليت عن هذا الخاتم الذي يعد رمزاً للوفاء والإخلاص والمحبة.
كان عليَّ أن أتدبر أمري وأحسم الموقف.. لصالح خوبي أم لصالح زوجتي التي ما كان أحدنا يشك بالحب المتبادل بيننا.
حاولت أن أعبِّر لها عن عدم فهمي.. حتى لا أحسم الموقف من دون نتائج قد أندم عليها..
لم يكن الخاتم ولا ثمنه وحتى رمزه يعنيني، بقدر ما كنت أريد أن أكون موفقاً بالرثاء لخوبي، وإقناع زوجتي بصدق ما فعلت..
استعادت ذاكرتي عيني خوبي وهي تنظر الى الخاتم في بنصري أكثر من نظراتها الى وجهي.. كان الأمر يتكرر كلما التقيتها.. ولم أحسب للأمر حساباً.. لكنني تمكنت من ربط الأمور مع بعضها.. ذكرى خاتم الزوجية الضائع.. وقبر الزوج الحبيب.. وأصابعها الستة التي سحقت بالأرض.. كما حدثني ذلك القروي في القرى التي أعمل فيها.
قلت: ربما ستجد في خاتمي جنة عرسها.. ولكن كيف يرضى مثلها الاستحواذ على خاتم يجمع ويعد رمزاً للوفاء بين زوجين؟
أنكرت على خوبي كلمة (الاستحواذ) قلت انها تمني نفسها.. ومثلها جدير بالاستجابة.. ومثل زوجتي ليس عصياً عليّه إقناعها بما جرى..
كان قراري حاسماً.. لذلك نزعت الخاتم من إصبعي.. وعندما مددت يدي لأقدمه اليها.. لم تمسكه بيدها وإنما كنت قدمت اصبعها لأضع الخاتم به.. وعندما فعلت.. راحت تضحك وترقص.. وكنت أشهد بهاء صورتها وسعادتها اكثر من أي يوم التقيت بها..
كادت تحتضنني وتقبلني.. لكنها توقفت وابتسمت خجلة.. عندئذ وافقت على استلام ما حملته معي من طعام وملابس ومستلزمات.. ومضيت وقلبي ينشرح سروراً وأنا أترك خوبي بأبهى ما رأيته مقترناً بوجودها..

(4)

بعد أسبوعين.. مررت بها، كانت تنتظرني وكانت دابتي ترتاح عند شجرة الجوز المحترقة الي لم يعد من ظلها سوى جذع يابس يرفض أن ينكسر..
تقدمت دابتي من نبتة صغيرة تبزغ من جذع شجرة الجوز.. فوجئت بخوبي.. تتركني وتتوجه الى الدابة تمنعها من قطع النبتة.. وتبينت انه قبر الزوج مدفون عند جذع الشجرة التي اندفعت الى الحياة في مواجهة الموت..!
سحبت دابتي وأبقيتها قريبة مني..
ابتسمت لي.. وأمسكت باصبعها تنزع عنه الخاتم الذهبي.. وتأخذ يدي وتضع الخاتم في اصبعي حيث كان.
تساءلت عن السبب.. وجدتها تشير الى الألفة التي تجمعني بزوجتي.. وقد فهمت منها.. انني لا أستحق الكراهية والخصومة بيني وبين زوجتي بسبب الخاتم..
أشرت لها.. بما يوحي أن بمقدوري التفاهم مع زوجتي.. وألا مشكلة هناك.
كانت تصر على أخذ الخاتم..
أشارت الى رأسها.. بما يعني أنها قد فكرت.. لا تريد أن تعيش وهماً يرمز الى حياة زوجية لا تعود لها..
وأشارت الى النبتة التي شقت جذع الشجرة وتنفست الفضاء..
فهمت أن النبتة كانت أبلغ وأهم عندها من خاتم الزوجية لا يعود لها ولا يمت لها بصلة لزوجها.. فلماذا تعيش على حياة زوجية وهمية..؟
أشارت الى النبتة مراراً.. والى خاتم الزوجية بما يوحي أن النبتة البديلة عند الشجرة تحتضن زوجها.. وتجسد الحقيقة كاملة.. وتعنيها أكثر من كل حقائق ورموز العالم كله..
حاولت احتضانها.. فأعطتني رأسها.. قبلته وأنا سعيد بقلب ورأس تحمله امرأة وحيدة بستة أصابع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى