هل يعقل ان تتحول السماء التي لايحدها البصر الى بقعة صغيرة جدا ليست اكبر من النافذة الشاهقة التي يرفع اليها رأسه ؟ مرة يراها زرقاء ومرة سوداء او سمراء غائمة واكثر المرات مغبرة. هي كالفتحة في اخر نفق مظلم تربطه بالحياة وبالتاريخ الذي مر به. لم يكن معه من يتحدث اليه او شيء يقرأه حتى ولو كان ورقة جريدة ممزقة. وهذا من اصعب الامور واقساها على من تعود القراءة ساعات يومياً. اذن ليحكي للنافذة ويقرأ صفحات ذاكرته ويتصفح معها البوم حياته ويتفحص مابقي منها. ويتقهقر به الزمن مثل قطار ينزلق الى الخلف.
سماؤك يانافذتي زرقاء. تسربين لي من شمسها شعاعا واحدا يبدد جزءا من ظلام الغرفة. أأنت بخيلة يانافذتي ؟ اعرف ان الشمس توزع كل ماعندها على ابنائها فهي لاتعرف فروقا خلقها البشر بسبب لون او دين او عنصر. ولكن قسما من الابناء يغلق نوافذ الهواء والضوء بما يمتلك من سطوة وجبروت. عند صورة من زمن مضى. كنت في المتوسطة حين جمعنا المدير ليقول ” ستتعطل الدراسة فاذهبوا الى بيوتكم وانتظروا خبر اعادة افتتاح المدارس من الراديو ” شاعت الغبطة في نفوسنا الصغيرة وكدنا ان نصفق ونهلل للخبر فالطالب تفرحه العطلة لان فيها اقفال لكل مسائل ومشاكل الكتب المدرسية. كان الوقت خريفا يمد يده للشتاء. خرجت مع اصحابي وعند باب المعظم رأيت طلبة اكبر منا عمرا ، عرفت انهم طلبة الكليات والبنات اللاتي معهم هن الطالبات. تعلقت عيوننا بالطالبات. شيء جميل ان تكون معك طالبة في الصف وتخرج معك في مظاهرة. اول مرة يطرق سمعي من يتكلم ضد الحكومة علنا وبصوت عال اسمه ” هتاف “. قال الكبار لنا برفق وحنو : اهتفوا معنا : يسقط العدوان الثلاثي. يسقط حلف بغداد. يسقط نوري السعيد. يسقط الملك. كلام مخيف ! ومع ذلك فقد رددنا ما قالوا. سمعنا اصوات انفجارات ورأينا دخانا. كنا خائفين. احسسنا ومن في الشارع ان اعيننا بدأت تغوش وان بها حرقة. امتدت الاصابع الى الاعين تحكها وتفركها. شعرنا بصعوبة في التنفس وبرغبة في العطاس. قال واحد هذه القنابل المسيلة للدموع. ثم اقتربت الشرطة واخذ افرادها ينهالون بالهراوات على رؤوس وظهور المتظاهرين. اطلقت ساقي للريح ومثلي زملائي من اولاد محلتنا. انتهت المظاهرات ولم يسقط نوري السعيد ولا حلف بغداد ولا الملك.
انا اقف الان امامك عند الجدار مطرقا الى الارض. يا لهفتي على اولادي وامهم فهم لايعرفون عني شيئا ابدا وقد مرت عليّ اشهر. اولادي ليسوا صغارا ولكن القلق والخوف لايفرقان بين كبير وصغير. هل تحسين بمعاناتي ؟ اجرَّب احد الالم من مثانة ممتلئة ومنحبسة ولا يدري اين يريقها. استنجدت بالحارس الذي دفع الي بماعون القصعة ونصف صمونه من تحت الباب ، ان يفتحه لي لاذهب الى التواليت فقال ساخرا.
– تريد تواليت ؟ هل انت في فندق ؟ امامك جدران الغرفة فخذ حريتك.
استدرت الى الحائط متسائلا هل هذه هي الحرية التي من اجلها صعد طلابها المشانق ؟
تبعت عيناي خط البول ينحدر نحو نصف الصمونة والماعون.
لنترك هذا الحديث لاريك هذه الصورة كنت وحدي في البيت عصر يوم شتائي مشمس حين سمعت طرقا على الباب الخلفي المؤدي الى حديقة خلفية صغيرة. فلما سألت من الطارق ؟ سمعت صوتا انثويا متوسلا.. الله يخليك دريب ميّه. فتحت لارى شابة متسربلة بعباءة وفوطة سوداء حافية القدمين. ورغم الفقر البادي الا ان جمالها لم تخطؤه عين صبي مثلي. دخلت حاملة برميلا فارغا على رأسها رافعة ذراعها لتمسك به وضعته تحت الصنبور بالحديقة. بدا عليها السرور والماء يوشوش في قعر البرميل ويرتفع ليملأه. سالتها :
– كيف جئتم الى بغداد ؟
– شردَّنا الاقطاعي من الهور. اخذ زرعاتنا وحلالنا بما يفرضه من ديون. سكنّا خلف السدة في صريفة مثل الاخرين تحيطنا النزيزة.
– وكيف تعيشون ؟
– بالضيم. حتى البهائم تجد من يسقيها ومن يطعمها. اما نحن فليس لنا من يرعانا. لا ماء ولا كهرباء.
سألتني لو جلبت لها قطعة خبز. عدت اليها بلفة خبز وجبن. وجدتها مقرفصة على الارض ، متكئة على الجدار كالغافية وقد ارتفع ثوبها فوق ركبتيها. وقفت بين ساقيها المنفرجتين قائلا.. جلبت لك الخبز.
فلما رأته خبزا وجبنا فتحت لي ذراعيها وطوقتني بساقيها قائلة : تعال.
انت ايتها النافذة ليس عندك هوية. فأنت ومن تحتك ” بدون ” والبدون مجردون من حقوقهم المدنية والانسانية. قد تكون هويتك عربية او شرقية على العموم اما تأريخك فهو ماقبل التاريخ.
ويستمر صاحبنا بتصفح الالبوم ويستمر في حكاياته للنافذة فيعثر على صورة غيرت تاريخ العراق والعراقيين استيقظ اهل بغداد صباح يوم تموزي يشوي الوجوه على صوت مذيع لم يألفوه وهو يردد بحماس : دار الإذاعة للجمهورية العراقية. فتصوروا انها اذاعة للمعارضة ولكن مؤشر الراديو كان يعود ليقف عند بغداد والصوت الحماسي. نظروا من سطوح منازلهم ومن النوافذ والشناشيلات. خرج البعض الى رؤوس الدرابين والشوارع. لم يكن هناك مايخيف فلا شرطي متربص بهراوة ولا جندي يهدد الناس. اذن هي الثورة التي كانوا ينتظرون تواصل اذاعة بياناتها. زحفت الجماهير وكأن شيئا يوحدهم ويدفعهم نحو وزارة الدفاع ودار الاذاعة فقد قام الجيش بالثورة. وعند ساحة الشهداء رأيت جثة الامير عبد الاله معلقة من شرفة احد الفنادق والناس تهتف للجيش والثورة. تأكد لي ان المظاهرات وحدها لاتكفي لتغيير حكم ان لم تكن تسندها قوة عاتية.
تريدين ان تذكريني بالمطر. نعم لقد سمعت الرعد وانتشيت بهمس المطر ورذاذه. ترى هل غرقت الازقة ؟ وهل حمل الاطفال احذيتهم بايديهم او وضعوها في حقائبهم ليخوضوا الماء مسرعين الى المدارس ؟
مسحت التراب عن هذه الصورة. انها تذكرني ببواكير الحب. كان كتفها وذراعها يلامسان كتفي وذراعي ونحن نرتب وننسق الطوابع في البوم خاص. كان شعرها يهفهف على صفحة وجهي بسبب حركة المروحة. لا ادري باية مباغته انطبعت شفتاي على خدها فردت القبلة بمثلها وبسرعة فاغرقنا بالضحك. كنت في الثالث المتوسط وكانت في الاول. ومرت العلاقة سريعا كما يمر الصبا ويلفه النسيان.
شكرا فقد غمرتني اليوم بضوء اكثر وهواء انقى وجعلتني اتذكر صداقة خالصة وحبا ليس فيه ولا ذرة غبار. كنت و” رزان ” نجلس وخلفنا صف من النوافذ طويل في نادي الكلية. كان المكان مزدحما وصوت ام كلثوم يغمر شجيا النادي باغنيتها الستينية انت عمري. كنا نستمع صامتين فأنا واياها من عشاق ام كلثوم. كان قسم من الطلاب ينصت وقسم منشغل باحاديث واصوات عالية وضحكات وقسم منسجم في همس. قالت رزان رافعة وجهها الخمري نحوي مركزة في عيني عيناها الساحرتان ويالموج بحرها الذي يجرفني !
– اراك ذاهلا هذه الايام كانك فقدت شيئا. لاتكن قليل الكلام مبهما معي احكي لي يانزار.
– حكايتي مؤلمة ولا اريدك ان تتألمي معي. دعيني وحدي اعاني., لا استطيع ان اتكلم ولكن سأكتب. أتأخذي ما اكتب ؟
– منك وحدك فقط اخذ واقر ماتكتب لي.
– على شرط ان تردي علىّ كتابة.
قالت مبتسمة عن شفتين رائعتين
– اتفقنا.
وبعد يومين اعطيتها ما كتبت : انا شراعي تمزق والريح كسرت الواح سفينتي فهل تريدني ان استمر بالحديث ؟ اقسى درجات الالم ان يطعنك انسان تحبه ، فهل تستطيعين رؤية الطعنات ؟ انا اخاف عليك ان يخدشك النسيم فكيف اضعك وسط الاعصار ؟ حكايتي تمتد بعيدا الى عهد الصبا. كانت عندي حمامة بيضاء نألف بعضنا. جاء غراب فاختطفها غارزا مخالبة في عنقها فسال الدم على صدرها فهل تريدين بعد هذا ان احكي لك ؟
في اليوم التالي قدمت لي ورقة اقتطعتها من شجرة برتقال قائلة :
– اقرأ ماكتبت لك وعلى ورقة البرتقال هذه.
احسست اني اريد ان ابكي وانا اقرأ اول جملة تخاطبني بها : رزان ياصديقتي العزيزة ، نعم انا صديقتك. افرغ مافي صدرك فلمن تشكو ان لم تكن شكواك لرزان؟
وتنتهي ايام الكلية عسلا صافيا ثم يصعب اللقاء ويكاد يستحيل. واعمل في المحاماة وتعمل في التدريس. ثم نفترق تماما فقد هاجرت في واحد من مواسم الهجرة بصحبة اهلها الى امريكا.
وينفتح الباب بعنف ويجرجرني اثنان. حاولت ان اعرف الوقت رفعت رأسي نحوك اسأل فلم ار الا سماء معتمة ونجيمات متباعدات كم مضى من الليل وكم بقي ؟ صعب علي من في مثل حالتي ان يعرف. ادخلوني في ممر.
وجدت مجموعة مثلهم متهيئين للانقضاض علي. كنت مرعوبا. انهال علي الجميع ركلا ولكما وصفعا دون ان يسألوني او ينتظروا جوابا. الظاهر اني فقدت الوعي ولا ادري كيف ارجعوني الى الغرفة؟هل حملوني او سحلوني؟ تمنيت بعد ان افقت لو ان عندي مرآة لارى ما الذي حصل لوجهي ؟ غريبة هذه الامنية. كانت اصابعي مزرقة. تحسست وجهي فما استطعت ان اتصور كيف هو هذا الوجه الذي احمله معي منذ زمن ؟ كان احد اجفاني منتفخ وعيني متورمتان.
اطرافي توجعني. احسست بالغربة والوحدة ولوعة الشوق الى البيت. تذكرت السياب وهو على فراش الموت يصرخ : عراق. عراق الريح تصرخ لي : عراق والموج يعول بي : عراق. سرحت قليلا او كثيرا لا ادري فاين هو الزمن بدون ساعة. تذكرت ان هناك شيئا اسمه الضحك وانه يسري عن النفس. ويبدد الحزن. اريد ان اضحك. توقفت عند صورة لمسرحية (النخلة والجيران لغائب طعمة فرحان) ومشهد الدلال الذي قام بدروه الفنان خليل شوقي الذي ظهر على المسرح يشكو الحر القائظ ويهفهف على وجهه بسدارته قائلا : (هذا شلون حر ؟ من هيجي العراقيين مايخافون من نار جهنم) ضحكت بل قهقهت ولا ادري ان كان الحراس قد سمعوا فتصوروا اني في طريقي الى الجنــون.
علك تتسائلين.
– وماذا عن بقية الفنون ؟
– نحن نحتنا اقدم الجداريات في العالم ليتني القي نظرة على جدارية جواد سليم. نحن اول من صنع الاوتار. اما الفرقة السمفونية الوطنية فشيء يدعو للاعتزاز بعراقيتنا وارثنا الموسيقي الذي تستمع اليه الدنيا منذ فجر التاريخ هناك في الحياة ايتها الشامخة مواقف تستحق الاهتمام كنا رفقة في (مقهى زناد) على شاطئ ابي نواس في حزيران 1972 حين اعلن قرار تأميم النفط. ترك كل الجالسين ما بايديهم ووقفوا يصفقون للقرار الذي انتظروه طويلا.
انا وانت والانفرادي وهذه الصورة في روب المحاماة ادافع عن اصحاب الرأي. ربما كانت هذه غالبية الدعاوى التي اترافع فيها فاشتهر ذلك عني فترصدوني وسحبوا اجازة المحاماة سنة كاملة عقوبة لي.
حكاياتي كثيرة ايتها العالية. انت وحدك تصغين لشحنة الالم المنبعثة من صدري. انا الان اتنفس ترابا فسماؤك مغبرة. تمر ايام حزينة وصورة الاصدقاء والكثير من الشباب جثامين ملفوفة بالعلم محمولة من الشلامجة والفاو والكويت هل هو نهر حزن لاينضب ؟ منظر الدبابات الامريكية تدخل شوارع بغداد وتقف على رؤوس محلاتها وابن الجيران الذي نزل من سيارته لينقذ امراة لايعرفها قنصها الامريكان امام عينيه ، ولما انحنى ليرفعها عن الارض وينقلها الى اقرب مستشفى مزق الامريكان ظهره وصدره. ليتني استطيع الصعود اليك لاريك صورة تذكرني باغنية لام كلثوم ليه تلوعيني وانت نور عيني. اقتحمت عليّ المكتب سمراء وردية ، مزج في الالوان غريب ، يغفو المغيب السمح في وجهها. نهضت من مكاني ماخوذا بسحر عينيها والعسل المترقرق فيهما. اشرت لها بالجلوس. جلست ولكني بقيت واقفا. استغربت وقالت :
– الا تجلس يا استاذ ؟
– قلت وانا انقل بصري منها الى تمثال لعشتار موضوع على المكتب
– هناك شبه بين وجهك ووجه عشتار هذه
قالت بحزم : عندي قضية استاذ !
– قضيتك قطعية لا تقبل الاستئناف ولا التمييز دعي قضيتك الان وانظري الى انف عشتار انه يشبه انفك الانيق المرسوم بعناية فائقة كما هو منحوت هنا. وعلى شفتيك ابتسامة موناليزا يختفي حزن خلفها. انظري جيدا ، ترين صحة ما أقول. بدا من سكوتها انها لانت فرفعت عينيها الحلوتين نحوي وكأنها تريد ان استمر في الكلام. فواصلت كلامي.
– ووجهك طفولي مثل وجه الملكة عشتار.
فضحكت وهي تسأل.
– أأنت محامي ام ناقد فني ؟
– لا تنسي ان المحامي يرى امامه وقائعا فيدقق ويقارن. بمجيئك دخلت عليّ الملكة عشتار. وقد تكوني من ذريتها. وكما تعلمين فالمحامي يحقق في امور الذرية. ضحكت ثانية وحركت يدها متسائلة :
– وماذا بعد ملكتك السورية ؟
– بعدها تموز الذي يعشقها ويعزف لها يوميا على قيثارته. قالت وكأنها وجدت الجواب المفحم.
– ذهب تموز ونحن الان في آب. اما القيثارة فقد سرقت من المتحف العراقي في بدايات الاحتلال.
فقلت كالمستسلم :
– انت احتللت المكتب فانا اسيرك.
– وقضيتي ؟
– دعينا من قضيتك. اراك تلبسين الاسود. اهو حزن ام اناقة ؟
– اناقة طبعا. هناك رواية اسمها : (الاسود يليق بك) لاحلام مستغانمي.
– انا ارى امامي لوحة سماوية فيها قمر وليل. فوجهك قمر وسط ليل خمارك وفستانك الاسود.
– انت جرئ جدا.
– جرئ ولكن لست ” وكح ” كما نقول بالعراقي.
– وقضيتي الا تسمعها ؟
– اتركيها الى الغد لاكسب رؤيتك ثانية
لا ادري الان هل جاءت الى المكتب ثانية وهل رأته مقفلا او مختوما بالشمع الاحمر او منهوبا ؟
يا جارتي اما اخر لقطة اعرضها فلمظاهرة باحدى الساحات تهتف للفرح والتحضر.
كنت على الرصيف فليست هذه مظاهرات الخمسينات ولا العمر ذاك العمر. كنت اصفق والوح لمن في الساحة. وتنشق الارض فجأة عن اشداء من ملثمي العقول. فحملوني عنوة وتحت الضرب الى شاحنة مقفلة.
سماؤك يانافذتي زرقاء. تسربين لي من شمسها شعاعا واحدا يبدد جزءا من ظلام الغرفة. أأنت بخيلة يانافذتي ؟ اعرف ان الشمس توزع كل ماعندها على ابنائها فهي لاتعرف فروقا خلقها البشر بسبب لون او دين او عنصر. ولكن قسما من الابناء يغلق نوافذ الهواء والضوء بما يمتلك من سطوة وجبروت. عند صورة من زمن مضى. كنت في المتوسطة حين جمعنا المدير ليقول ” ستتعطل الدراسة فاذهبوا الى بيوتكم وانتظروا خبر اعادة افتتاح المدارس من الراديو ” شاعت الغبطة في نفوسنا الصغيرة وكدنا ان نصفق ونهلل للخبر فالطالب تفرحه العطلة لان فيها اقفال لكل مسائل ومشاكل الكتب المدرسية. كان الوقت خريفا يمد يده للشتاء. خرجت مع اصحابي وعند باب المعظم رأيت طلبة اكبر منا عمرا ، عرفت انهم طلبة الكليات والبنات اللاتي معهم هن الطالبات. تعلقت عيوننا بالطالبات. شيء جميل ان تكون معك طالبة في الصف وتخرج معك في مظاهرة. اول مرة يطرق سمعي من يتكلم ضد الحكومة علنا وبصوت عال اسمه ” هتاف “. قال الكبار لنا برفق وحنو : اهتفوا معنا : يسقط العدوان الثلاثي. يسقط حلف بغداد. يسقط نوري السعيد. يسقط الملك. كلام مخيف ! ومع ذلك فقد رددنا ما قالوا. سمعنا اصوات انفجارات ورأينا دخانا. كنا خائفين. احسسنا ومن في الشارع ان اعيننا بدأت تغوش وان بها حرقة. امتدت الاصابع الى الاعين تحكها وتفركها. شعرنا بصعوبة في التنفس وبرغبة في العطاس. قال واحد هذه القنابل المسيلة للدموع. ثم اقتربت الشرطة واخذ افرادها ينهالون بالهراوات على رؤوس وظهور المتظاهرين. اطلقت ساقي للريح ومثلي زملائي من اولاد محلتنا. انتهت المظاهرات ولم يسقط نوري السعيد ولا حلف بغداد ولا الملك.
انا اقف الان امامك عند الجدار مطرقا الى الارض. يا لهفتي على اولادي وامهم فهم لايعرفون عني شيئا ابدا وقد مرت عليّ اشهر. اولادي ليسوا صغارا ولكن القلق والخوف لايفرقان بين كبير وصغير. هل تحسين بمعاناتي ؟ اجرَّب احد الالم من مثانة ممتلئة ومنحبسة ولا يدري اين يريقها. استنجدت بالحارس الذي دفع الي بماعون القصعة ونصف صمونه من تحت الباب ، ان يفتحه لي لاذهب الى التواليت فقال ساخرا.
– تريد تواليت ؟ هل انت في فندق ؟ امامك جدران الغرفة فخذ حريتك.
استدرت الى الحائط متسائلا هل هذه هي الحرية التي من اجلها صعد طلابها المشانق ؟
تبعت عيناي خط البول ينحدر نحو نصف الصمونة والماعون.
لنترك هذا الحديث لاريك هذه الصورة كنت وحدي في البيت عصر يوم شتائي مشمس حين سمعت طرقا على الباب الخلفي المؤدي الى حديقة خلفية صغيرة. فلما سألت من الطارق ؟ سمعت صوتا انثويا متوسلا.. الله يخليك دريب ميّه. فتحت لارى شابة متسربلة بعباءة وفوطة سوداء حافية القدمين. ورغم الفقر البادي الا ان جمالها لم تخطؤه عين صبي مثلي. دخلت حاملة برميلا فارغا على رأسها رافعة ذراعها لتمسك به وضعته تحت الصنبور بالحديقة. بدا عليها السرور والماء يوشوش في قعر البرميل ويرتفع ليملأه. سالتها :
– كيف جئتم الى بغداد ؟
– شردَّنا الاقطاعي من الهور. اخذ زرعاتنا وحلالنا بما يفرضه من ديون. سكنّا خلف السدة في صريفة مثل الاخرين تحيطنا النزيزة.
– وكيف تعيشون ؟
– بالضيم. حتى البهائم تجد من يسقيها ومن يطعمها. اما نحن فليس لنا من يرعانا. لا ماء ولا كهرباء.
سألتني لو جلبت لها قطعة خبز. عدت اليها بلفة خبز وجبن. وجدتها مقرفصة على الارض ، متكئة على الجدار كالغافية وقد ارتفع ثوبها فوق ركبتيها. وقفت بين ساقيها المنفرجتين قائلا.. جلبت لك الخبز.
فلما رأته خبزا وجبنا فتحت لي ذراعيها وطوقتني بساقيها قائلة : تعال.
انت ايتها النافذة ليس عندك هوية. فأنت ومن تحتك ” بدون ” والبدون مجردون من حقوقهم المدنية والانسانية. قد تكون هويتك عربية او شرقية على العموم اما تأريخك فهو ماقبل التاريخ.
ويستمر صاحبنا بتصفح الالبوم ويستمر في حكاياته للنافذة فيعثر على صورة غيرت تاريخ العراق والعراقيين استيقظ اهل بغداد صباح يوم تموزي يشوي الوجوه على صوت مذيع لم يألفوه وهو يردد بحماس : دار الإذاعة للجمهورية العراقية. فتصوروا انها اذاعة للمعارضة ولكن مؤشر الراديو كان يعود ليقف عند بغداد والصوت الحماسي. نظروا من سطوح منازلهم ومن النوافذ والشناشيلات. خرج البعض الى رؤوس الدرابين والشوارع. لم يكن هناك مايخيف فلا شرطي متربص بهراوة ولا جندي يهدد الناس. اذن هي الثورة التي كانوا ينتظرون تواصل اذاعة بياناتها. زحفت الجماهير وكأن شيئا يوحدهم ويدفعهم نحو وزارة الدفاع ودار الاذاعة فقد قام الجيش بالثورة. وعند ساحة الشهداء رأيت جثة الامير عبد الاله معلقة من شرفة احد الفنادق والناس تهتف للجيش والثورة. تأكد لي ان المظاهرات وحدها لاتكفي لتغيير حكم ان لم تكن تسندها قوة عاتية.
تريدين ان تذكريني بالمطر. نعم لقد سمعت الرعد وانتشيت بهمس المطر ورذاذه. ترى هل غرقت الازقة ؟ وهل حمل الاطفال احذيتهم بايديهم او وضعوها في حقائبهم ليخوضوا الماء مسرعين الى المدارس ؟
مسحت التراب عن هذه الصورة. انها تذكرني ببواكير الحب. كان كتفها وذراعها يلامسان كتفي وذراعي ونحن نرتب وننسق الطوابع في البوم خاص. كان شعرها يهفهف على صفحة وجهي بسبب حركة المروحة. لا ادري باية مباغته انطبعت شفتاي على خدها فردت القبلة بمثلها وبسرعة فاغرقنا بالضحك. كنت في الثالث المتوسط وكانت في الاول. ومرت العلاقة سريعا كما يمر الصبا ويلفه النسيان.
شكرا فقد غمرتني اليوم بضوء اكثر وهواء انقى وجعلتني اتذكر صداقة خالصة وحبا ليس فيه ولا ذرة غبار. كنت و” رزان ” نجلس وخلفنا صف من النوافذ طويل في نادي الكلية. كان المكان مزدحما وصوت ام كلثوم يغمر شجيا النادي باغنيتها الستينية انت عمري. كنا نستمع صامتين فأنا واياها من عشاق ام كلثوم. كان قسم من الطلاب ينصت وقسم منشغل باحاديث واصوات عالية وضحكات وقسم منسجم في همس. قالت رزان رافعة وجهها الخمري نحوي مركزة في عيني عيناها الساحرتان ويالموج بحرها الذي يجرفني !
– اراك ذاهلا هذه الايام كانك فقدت شيئا. لاتكن قليل الكلام مبهما معي احكي لي يانزار.
– حكايتي مؤلمة ولا اريدك ان تتألمي معي. دعيني وحدي اعاني., لا استطيع ان اتكلم ولكن سأكتب. أتأخذي ما اكتب ؟
– منك وحدك فقط اخذ واقر ماتكتب لي.
– على شرط ان تردي علىّ كتابة.
قالت مبتسمة عن شفتين رائعتين
– اتفقنا.
وبعد يومين اعطيتها ما كتبت : انا شراعي تمزق والريح كسرت الواح سفينتي فهل تريدني ان استمر بالحديث ؟ اقسى درجات الالم ان يطعنك انسان تحبه ، فهل تستطيعين رؤية الطعنات ؟ انا اخاف عليك ان يخدشك النسيم فكيف اضعك وسط الاعصار ؟ حكايتي تمتد بعيدا الى عهد الصبا. كانت عندي حمامة بيضاء نألف بعضنا. جاء غراب فاختطفها غارزا مخالبة في عنقها فسال الدم على صدرها فهل تريدين بعد هذا ان احكي لك ؟
في اليوم التالي قدمت لي ورقة اقتطعتها من شجرة برتقال قائلة :
– اقرأ ماكتبت لك وعلى ورقة البرتقال هذه.
احسست اني اريد ان ابكي وانا اقرأ اول جملة تخاطبني بها : رزان ياصديقتي العزيزة ، نعم انا صديقتك. افرغ مافي صدرك فلمن تشكو ان لم تكن شكواك لرزان؟
وتنتهي ايام الكلية عسلا صافيا ثم يصعب اللقاء ويكاد يستحيل. واعمل في المحاماة وتعمل في التدريس. ثم نفترق تماما فقد هاجرت في واحد من مواسم الهجرة بصحبة اهلها الى امريكا.
وينفتح الباب بعنف ويجرجرني اثنان. حاولت ان اعرف الوقت رفعت رأسي نحوك اسأل فلم ار الا سماء معتمة ونجيمات متباعدات كم مضى من الليل وكم بقي ؟ صعب علي من في مثل حالتي ان يعرف. ادخلوني في ممر.
وجدت مجموعة مثلهم متهيئين للانقضاض علي. كنت مرعوبا. انهال علي الجميع ركلا ولكما وصفعا دون ان يسألوني او ينتظروا جوابا. الظاهر اني فقدت الوعي ولا ادري كيف ارجعوني الى الغرفة؟هل حملوني او سحلوني؟ تمنيت بعد ان افقت لو ان عندي مرآة لارى ما الذي حصل لوجهي ؟ غريبة هذه الامنية. كانت اصابعي مزرقة. تحسست وجهي فما استطعت ان اتصور كيف هو هذا الوجه الذي احمله معي منذ زمن ؟ كان احد اجفاني منتفخ وعيني متورمتان.
اطرافي توجعني. احسست بالغربة والوحدة ولوعة الشوق الى البيت. تذكرت السياب وهو على فراش الموت يصرخ : عراق. عراق الريح تصرخ لي : عراق والموج يعول بي : عراق. سرحت قليلا او كثيرا لا ادري فاين هو الزمن بدون ساعة. تذكرت ان هناك شيئا اسمه الضحك وانه يسري عن النفس. ويبدد الحزن. اريد ان اضحك. توقفت عند صورة لمسرحية (النخلة والجيران لغائب طعمة فرحان) ومشهد الدلال الذي قام بدروه الفنان خليل شوقي الذي ظهر على المسرح يشكو الحر القائظ ويهفهف على وجهه بسدارته قائلا : (هذا شلون حر ؟ من هيجي العراقيين مايخافون من نار جهنم) ضحكت بل قهقهت ولا ادري ان كان الحراس قد سمعوا فتصوروا اني في طريقي الى الجنــون.
علك تتسائلين.
– وماذا عن بقية الفنون ؟
– نحن نحتنا اقدم الجداريات في العالم ليتني القي نظرة على جدارية جواد سليم. نحن اول من صنع الاوتار. اما الفرقة السمفونية الوطنية فشيء يدعو للاعتزاز بعراقيتنا وارثنا الموسيقي الذي تستمع اليه الدنيا منذ فجر التاريخ هناك في الحياة ايتها الشامخة مواقف تستحق الاهتمام كنا رفقة في (مقهى زناد) على شاطئ ابي نواس في حزيران 1972 حين اعلن قرار تأميم النفط. ترك كل الجالسين ما بايديهم ووقفوا يصفقون للقرار الذي انتظروه طويلا.
انا وانت والانفرادي وهذه الصورة في روب المحاماة ادافع عن اصحاب الرأي. ربما كانت هذه غالبية الدعاوى التي اترافع فيها فاشتهر ذلك عني فترصدوني وسحبوا اجازة المحاماة سنة كاملة عقوبة لي.
حكاياتي كثيرة ايتها العالية. انت وحدك تصغين لشحنة الالم المنبعثة من صدري. انا الان اتنفس ترابا فسماؤك مغبرة. تمر ايام حزينة وصورة الاصدقاء والكثير من الشباب جثامين ملفوفة بالعلم محمولة من الشلامجة والفاو والكويت هل هو نهر حزن لاينضب ؟ منظر الدبابات الامريكية تدخل شوارع بغداد وتقف على رؤوس محلاتها وابن الجيران الذي نزل من سيارته لينقذ امراة لايعرفها قنصها الامريكان امام عينيه ، ولما انحنى ليرفعها عن الارض وينقلها الى اقرب مستشفى مزق الامريكان ظهره وصدره. ليتني استطيع الصعود اليك لاريك صورة تذكرني باغنية لام كلثوم ليه تلوعيني وانت نور عيني. اقتحمت عليّ المكتب سمراء وردية ، مزج في الالوان غريب ، يغفو المغيب السمح في وجهها. نهضت من مكاني ماخوذا بسحر عينيها والعسل المترقرق فيهما. اشرت لها بالجلوس. جلست ولكني بقيت واقفا. استغربت وقالت :
– الا تجلس يا استاذ ؟
– قلت وانا انقل بصري منها الى تمثال لعشتار موضوع على المكتب
– هناك شبه بين وجهك ووجه عشتار هذه
قالت بحزم : عندي قضية استاذ !
– قضيتك قطعية لا تقبل الاستئناف ولا التمييز دعي قضيتك الان وانظري الى انف عشتار انه يشبه انفك الانيق المرسوم بعناية فائقة كما هو منحوت هنا. وعلى شفتيك ابتسامة موناليزا يختفي حزن خلفها. انظري جيدا ، ترين صحة ما أقول. بدا من سكوتها انها لانت فرفعت عينيها الحلوتين نحوي وكأنها تريد ان استمر في الكلام. فواصلت كلامي.
– ووجهك طفولي مثل وجه الملكة عشتار.
فضحكت وهي تسأل.
– أأنت محامي ام ناقد فني ؟
– لا تنسي ان المحامي يرى امامه وقائعا فيدقق ويقارن. بمجيئك دخلت عليّ الملكة عشتار. وقد تكوني من ذريتها. وكما تعلمين فالمحامي يحقق في امور الذرية. ضحكت ثانية وحركت يدها متسائلة :
– وماذا بعد ملكتك السورية ؟
– بعدها تموز الذي يعشقها ويعزف لها يوميا على قيثارته. قالت وكأنها وجدت الجواب المفحم.
– ذهب تموز ونحن الان في آب. اما القيثارة فقد سرقت من المتحف العراقي في بدايات الاحتلال.
فقلت كالمستسلم :
– انت احتللت المكتب فانا اسيرك.
– وقضيتي ؟
– دعينا من قضيتك. اراك تلبسين الاسود. اهو حزن ام اناقة ؟
– اناقة طبعا. هناك رواية اسمها : (الاسود يليق بك) لاحلام مستغانمي.
– انا ارى امامي لوحة سماوية فيها قمر وليل. فوجهك قمر وسط ليل خمارك وفستانك الاسود.
– انت جرئ جدا.
– جرئ ولكن لست ” وكح ” كما نقول بالعراقي.
– وقضيتي الا تسمعها ؟
– اتركيها الى الغد لاكسب رؤيتك ثانية
لا ادري الان هل جاءت الى المكتب ثانية وهل رأته مقفلا او مختوما بالشمع الاحمر او منهوبا ؟
يا جارتي اما اخر لقطة اعرضها فلمظاهرة باحدى الساحات تهتف للفرح والتحضر.
كنت على الرصيف فليست هذه مظاهرات الخمسينات ولا العمر ذاك العمر. كنت اصفق والوح لمن في الساحة. وتنشق الارض فجأة عن اشداء من ملثمي العقول. فحملوني عنوة وتحت الضرب الى شاحنة مقفلة.
