صرخة الصبي ايفان المدوية; روعت سرب غربان القيظ الرابض بالشاطئ في انتظار هبوب رياح الخريف لتسوقه معها في هجرتها الموسمية غربا الى سهول أوربا العطشى; و التي تنتظر وصولها في كل موسم بفارغ الصبر.
وهرول نجار المراكب العجوز ميخائيل برفقة مجموعة من الصيادين الذين كانوا منهمكين منذ الصباح الباكر في اقناع قارب جنح للشط للعودة مجددا الى سطح الماء. بصوت ملتاع هتف الصبي ايفان.
(كورباني اختفى بين الأمواج. كان مستلقيا هنا بقربي على الشط. وكنت حينها انظف سمك الكنعند الذي طلبته أمي على الغداء. كان يثرثر عن ذكرياته القديمة خلال الثورة البلشفية. والتي يقول أنه استقاها من الكتب لأنه لم يعد يذكر من حياته السابقة شيئا. وكانت الغربان السوداء تثرثر من فوقنا هي أيضا. وتتلصص بين الفينة والأخرى محاولة سرقة كنعند أمي. وكنت ألهيها بقطع من الأحشاء الداخلية. حين خاطبني مبتسما. لا فائدة من ذلك يا ايفان; القربان حينما تحط بمكان تسرق كل شيء يقابلها في طريقها. نش احداها باستوائه جالسا وأضاف. يمكنها سرقة الكحل من العين بكل سهولة ويسر. صدقني ايفان.
إلا سمكات أمي.
قلت وأنا أهوي بالساطور على رأس السمكة فأفصله عن جسدها. ضحك وهو يخلع سترته وسرواله. رماهما بالشط وهرول تجاه البحر. استقبلته الأمواج بفرح عارم فغاص في احضانها).
أشار ايفان بيديه تجاه الأمواج التي كانت تعلو وتهبط قبل أن تتكسر وتمسح أقدام الرجال ورمال الشط بتلذذ.
همهم الأب قسطنطين.
لا داعي للخوف فقد عاد كورباني لأحضان أبيه. تماما مثلما نعود جميعنا يوما الى حضن أمنا الأرض.
هكذا بكل بساطة الدين وايمانه العميق حسم القس العجوز الأمر.
همهم بقية الرجال بكلام مبهم وهم عائدون والحسرة تبلل جوانحهم. ولما انحني العجوز ميخائيل لالتقاط ملابس صديقه كورباني سالت دموع الأسى من عينيه وقطرت على السترة. نفض الرمال والبلل عن السترة فسقط منها دفتر صغير.
بعينين مترقرقتين بالدمع تصفحه. تبخّرت الدموع وحلت مكانها سحب كثيفة من الدهشة حجبت عنه الرؤيا برغم عينيه المحدقتين. براحة يده الخشنة أزاح سحب الدهشة. وبدأ يقرأ ما سطره صديقه كورباني.
لا. مستحيل لن أهبط لهذا المستوى الضحل من التفكير. تلك المرأة الساقطة بالكاد أعرفها. زوجها نجار المراكب صديق وفي. وهو رجل طيب ويستحق امرأة أفضل منها. ولكن. أه يا الهي. لا أتخيل نفسي أنني كنت خائنا في يوم من الأيام. لا أقول أنني كنت في السابق أعيش حياة الرهبنة. لابد أنني كنت نزقا وتبعت نزواتي أيام الطيش. كما أنه لا يمكن أن أخون ذكرى تلك الأيام الخوالي التي عشتها مع احداهن. صحيح أنني لم أعد أذكر منها شيئا. ولكن حتما كانت لي حياة صاخبة مليئة بالمرح. تسعكت خلالها مع احداهن. بشوارع موسكو الواسعة. وحانات الحي الارستقراطي الراقية. لابد أننا عبرنا الساحة الحمراء متماسكين. وجلسنا على مقعد خشبي. ونثرنا الحب لأسراب الحمام التي حطت حولنا. أراها تتزاحم لالتقاط الحب بوداعة. وحبيبتي تضع رأسها على كتفي بكسينة. وبرج الكرملين بقبابة العالية عن يميننا وكاتدرائية القديس باسل عن يسارنا بشموخهما المهيب. لابد أننا ذهبنا لمسرح موسكو للفنون وشاهدنا احدى العروض المسرحية. مسرحية بستان الكرز أو أغنية البجع لتشيخوف مثلا. وعرجنا على صالة الرقص الوطنية. ورقصنا البودي بالي ثملين بالفودكا الرخيصة. لابد أنني قمت بواحد من هذه الأفعال الصبيانية في يوم من الأيام. يا الهي هائنذا أهذي مجددا بحياتي المتخيلة. فأنا ذهني مشوش وما عدت أذكر من حياتي السابقة سوى صوت أجش لرجل ضخم يصرخ.
تمسك بالحبال. أترك الشراع اللعين. ابقي جسدك ببطن المركب. ولم يتلفظ ذلك الرجل الضخم باسمي أبدا. وبعدها دار المركب دورتين قبل أن ينطفئ صوت الرجل بحلقه و يعم السكون. وفجأة أحس البحر بنوبات الغثيان تتداهمه. وتقيأني من جوفه على الشط. تمددت على رمال الشط كدلفين نافق. بنصف عين وشهيق كامل وحذر تام كتمت أنفاسي على أرجل سرطان البحر الخشنة المشعرة تتحسس وجهي. بأنفاسي المكتومة في الظلام. شعرت به يرقص على صفحة خدي قبل أن يقفز على الرمال. فتحت عين واحدة شاهدته يركض. أرجله كانت على مستوى نظري المنخفض. بدأ مثل دبابة المانية يدهس الرمل بلا اكتراث في طريقه للبحر. وما أن وصل للمياه تلقفته موجه فاجرة. سبحا قليلا متعانقين بانتشاء قبل أن يغوص باحضانها. وأنا دولفين نافق بالشط بنصف عين مفتوحة تجاه البحر. فإذا بيد خشنة حملتني على كتف متهدل ككيس طحين مثقوب تتدلى أطرافي وتكاد تسيل روحي على الرمال. حملني الكتف المتهدل لمسافة قبل أن يفرغني على سطح قارب قديم نافق مثلي بالشط منذ أمد بعيد. أفقت بعد فترة قصيرة على شارب كث مبتسم بوجهي.
أهلا بعودتك للحياة أيها الرفيق.
ميخائيل ريمانوف نجار مراكب.
لا أعرف اسمي. حدّقت ببلاهة في الشارب الكث المبتسم بوجهي.
تمتمت. الدون كورباني.
افتر شاربه عن أسنان صفراء ممزوجة بابتسامة صافية.
تعجبني الأسماء الطليانية. مع غرابتها ولكن لها جرس تألفه الأذن ويتذوقه اللسان خلال النطق.
أشار بالسبابة ملوحا بها بوجهي مرات.
أنتم الطليان مغامرون من الطراز الفريد. ثقتي الكاملة أن الأغاريق تعلموا من سواعدكم القوية التجديف مثلما تعلموا فنون النحت من أناملكم الرقيقة.
كورباني! من هو كورباني؟. ها تذكّرت هي كلمة قرأتها على البرميل الخشبي الذي تعلقت به وأوصلني للشط. كيف أفهم هذا العجوز المتأنق بان هذا ليس اسمي؟. ثم كيف أنه لم يلاحظ الشبه الكبير بيني وبين أي روسي بلشفي فاسق؟. الهذه الدرجة يغير البحر ملامح البشر؟ ترى كم يلزم هذا العجوز من الوقت بداخل البحر ليغير نظرته الباهتة للأشياء؟.
وفجأة هتفت القابلة من على الرصيف. رافعة يدها المتهدلة وملوحة بكفها المخضب بالدم.
ميخو.. الرفيق ميخائيل. بشرى سارة لقد رزقت غلاما وسيما للتو.
ضحكت بسخرية.
لا يشبهك أبدا. بصمة كورباني واضحة على جبهته العريضة وذقنه الحاد.
تساءلت.
ها.. ماذا ستطلق عليه؟
التفت العجوز ميخائيل تجاه البحر; حصبه بالدفتر على وجهه; وهمهم قائلا.
الدون كورباني.
وهرول نجار المراكب العجوز ميخائيل برفقة مجموعة من الصيادين الذين كانوا منهمكين منذ الصباح الباكر في اقناع قارب جنح للشط للعودة مجددا الى سطح الماء. بصوت ملتاع هتف الصبي ايفان.
(كورباني اختفى بين الأمواج. كان مستلقيا هنا بقربي على الشط. وكنت حينها انظف سمك الكنعند الذي طلبته أمي على الغداء. كان يثرثر عن ذكرياته القديمة خلال الثورة البلشفية. والتي يقول أنه استقاها من الكتب لأنه لم يعد يذكر من حياته السابقة شيئا. وكانت الغربان السوداء تثرثر من فوقنا هي أيضا. وتتلصص بين الفينة والأخرى محاولة سرقة كنعند أمي. وكنت ألهيها بقطع من الأحشاء الداخلية. حين خاطبني مبتسما. لا فائدة من ذلك يا ايفان; القربان حينما تحط بمكان تسرق كل شيء يقابلها في طريقها. نش احداها باستوائه جالسا وأضاف. يمكنها سرقة الكحل من العين بكل سهولة ويسر. صدقني ايفان.
إلا سمكات أمي.
قلت وأنا أهوي بالساطور على رأس السمكة فأفصله عن جسدها. ضحك وهو يخلع سترته وسرواله. رماهما بالشط وهرول تجاه البحر. استقبلته الأمواج بفرح عارم فغاص في احضانها).
أشار ايفان بيديه تجاه الأمواج التي كانت تعلو وتهبط قبل أن تتكسر وتمسح أقدام الرجال ورمال الشط بتلذذ.
همهم الأب قسطنطين.
لا داعي للخوف فقد عاد كورباني لأحضان أبيه. تماما مثلما نعود جميعنا يوما الى حضن أمنا الأرض.
هكذا بكل بساطة الدين وايمانه العميق حسم القس العجوز الأمر.
همهم بقية الرجال بكلام مبهم وهم عائدون والحسرة تبلل جوانحهم. ولما انحني العجوز ميخائيل لالتقاط ملابس صديقه كورباني سالت دموع الأسى من عينيه وقطرت على السترة. نفض الرمال والبلل عن السترة فسقط منها دفتر صغير.
بعينين مترقرقتين بالدمع تصفحه. تبخّرت الدموع وحلت مكانها سحب كثيفة من الدهشة حجبت عنه الرؤيا برغم عينيه المحدقتين. براحة يده الخشنة أزاح سحب الدهشة. وبدأ يقرأ ما سطره صديقه كورباني.
لا. مستحيل لن أهبط لهذا المستوى الضحل من التفكير. تلك المرأة الساقطة بالكاد أعرفها. زوجها نجار المراكب صديق وفي. وهو رجل طيب ويستحق امرأة أفضل منها. ولكن. أه يا الهي. لا أتخيل نفسي أنني كنت خائنا في يوم من الأيام. لا أقول أنني كنت في السابق أعيش حياة الرهبنة. لابد أنني كنت نزقا وتبعت نزواتي أيام الطيش. كما أنه لا يمكن أن أخون ذكرى تلك الأيام الخوالي التي عشتها مع احداهن. صحيح أنني لم أعد أذكر منها شيئا. ولكن حتما كانت لي حياة صاخبة مليئة بالمرح. تسعكت خلالها مع احداهن. بشوارع موسكو الواسعة. وحانات الحي الارستقراطي الراقية. لابد أننا عبرنا الساحة الحمراء متماسكين. وجلسنا على مقعد خشبي. ونثرنا الحب لأسراب الحمام التي حطت حولنا. أراها تتزاحم لالتقاط الحب بوداعة. وحبيبتي تضع رأسها على كتفي بكسينة. وبرج الكرملين بقبابة العالية عن يميننا وكاتدرائية القديس باسل عن يسارنا بشموخهما المهيب. لابد أننا ذهبنا لمسرح موسكو للفنون وشاهدنا احدى العروض المسرحية. مسرحية بستان الكرز أو أغنية البجع لتشيخوف مثلا. وعرجنا على صالة الرقص الوطنية. ورقصنا البودي بالي ثملين بالفودكا الرخيصة. لابد أنني قمت بواحد من هذه الأفعال الصبيانية في يوم من الأيام. يا الهي هائنذا أهذي مجددا بحياتي المتخيلة. فأنا ذهني مشوش وما عدت أذكر من حياتي السابقة سوى صوت أجش لرجل ضخم يصرخ.
تمسك بالحبال. أترك الشراع اللعين. ابقي جسدك ببطن المركب. ولم يتلفظ ذلك الرجل الضخم باسمي أبدا. وبعدها دار المركب دورتين قبل أن ينطفئ صوت الرجل بحلقه و يعم السكون. وفجأة أحس البحر بنوبات الغثيان تتداهمه. وتقيأني من جوفه على الشط. تمددت على رمال الشط كدلفين نافق. بنصف عين وشهيق كامل وحذر تام كتمت أنفاسي على أرجل سرطان البحر الخشنة المشعرة تتحسس وجهي. بأنفاسي المكتومة في الظلام. شعرت به يرقص على صفحة خدي قبل أن يقفز على الرمال. فتحت عين واحدة شاهدته يركض. أرجله كانت على مستوى نظري المنخفض. بدأ مثل دبابة المانية يدهس الرمل بلا اكتراث في طريقه للبحر. وما أن وصل للمياه تلقفته موجه فاجرة. سبحا قليلا متعانقين بانتشاء قبل أن يغوص باحضانها. وأنا دولفين نافق بالشط بنصف عين مفتوحة تجاه البحر. فإذا بيد خشنة حملتني على كتف متهدل ككيس طحين مثقوب تتدلى أطرافي وتكاد تسيل روحي على الرمال. حملني الكتف المتهدل لمسافة قبل أن يفرغني على سطح قارب قديم نافق مثلي بالشط منذ أمد بعيد. أفقت بعد فترة قصيرة على شارب كث مبتسم بوجهي.
أهلا بعودتك للحياة أيها الرفيق.
ميخائيل ريمانوف نجار مراكب.
لا أعرف اسمي. حدّقت ببلاهة في الشارب الكث المبتسم بوجهي.
تمتمت. الدون كورباني.
افتر شاربه عن أسنان صفراء ممزوجة بابتسامة صافية.
تعجبني الأسماء الطليانية. مع غرابتها ولكن لها جرس تألفه الأذن ويتذوقه اللسان خلال النطق.
أشار بالسبابة ملوحا بها بوجهي مرات.
أنتم الطليان مغامرون من الطراز الفريد. ثقتي الكاملة أن الأغاريق تعلموا من سواعدكم القوية التجديف مثلما تعلموا فنون النحت من أناملكم الرقيقة.
كورباني! من هو كورباني؟. ها تذكّرت هي كلمة قرأتها على البرميل الخشبي الذي تعلقت به وأوصلني للشط. كيف أفهم هذا العجوز المتأنق بان هذا ليس اسمي؟. ثم كيف أنه لم يلاحظ الشبه الكبير بيني وبين أي روسي بلشفي فاسق؟. الهذه الدرجة يغير البحر ملامح البشر؟ ترى كم يلزم هذا العجوز من الوقت بداخل البحر ليغير نظرته الباهتة للأشياء؟.
وفجأة هتفت القابلة من على الرصيف. رافعة يدها المتهدلة وملوحة بكفها المخضب بالدم.
ميخو.. الرفيق ميخائيل. بشرى سارة لقد رزقت غلاما وسيما للتو.
ضحكت بسخرية.
لا يشبهك أبدا. بصمة كورباني واضحة على جبهته العريضة وذقنه الحاد.
تساءلت.
ها.. ماذا ستطلق عليه؟
التفت العجوز ميخائيل تجاه البحر; حصبه بالدفتر على وجهه; وهمهم قائلا.
الدون كورباني.