عبدالرحيم التدلاوي - جماليات العتبات في مجموعة "في انتظار حب الرشاد" لسعيدة عفيف

توطئة:
يسعى النقد المعاصر إلى الاهتمام بما يسمّى “مداخل النص”، أو “عتبات الكتابة” بعد أن ظلّ إلى وقت قريب يولي اهتمامه بالقارئ على حساب النصّ ، و يرجع هذا الاهتمام إلى ما تشكّله هذه المداخل من أهمية في قراءة النصّ و الكشف عن مفاتنه و دلالته الجماليّة ، وهذه العتبات هي علامات لها وظائف عديدة ، فهي تخلق لدى المتلقي رغبات وانفعالات تدفعه إلى اقتحام النصّ برؤية مسبقة في غالب الأحيان، فالعتبات النصيّة علامات دلاليّة تشرع أبواب النصّ أمام المتلقّي، القارئ و تشحنه بالدفعة الزاخرة بروح الولوج إلى أعماقه، فغياب هذه العتبات أو النصّ الملحق – هل معناه أن القارئ سيكون عاجزا على اقتحام بنيته ؟ ، إنه سيجد نفسه أمام أبواب مغلقة، وعلية فتحها، من هنا تتجلى أهمية هذه العتبات لما تحمله من معان وشفرات لها علاقة مباشرة بالنص تنير دروبه أمام المتلقي، وهي تتميز باعتبارها عتبات لها سياقات فيه تاريخيّة و نصيّة ووظائف تأليفيّة تختزل جانبا مركزيّا من منطق الكتابة ولا نذيع سرّا ولا نسوق جهرا، إن نحن أشرنا إلى الأهميّة المخصوصة الّتي يكتسيها التّعالي النصّي في قراءة النصّ الأدبي. فهو عبارة عن مداخل للنصّ، تشرع أمام المتلقّي الطّريق لاقتحام أسوار هذا النصّ، ومن خلالها يبني أفق انتظاراته. وهذا التّعالي له وظائف عديدة ومختلفة و”سياقات توظيفيّة وتاريخيّة ونصيّة ووظائف تأليفيّة” ، وهو الخريطة الّتي يسير على هديها القارئ وهو يرتاد مفاصل النصّ، باحثا عن جماليّاته ومعانيه. *

1710711095732.png

انسلال:
ونحن نتصفح مجموعة المبدعة، سعيدة عفيف، والتي تحمل العنوان التالي: "في انتظار حب الرشاد"، ذات الصرخة الناقدة للخراب والدمار، ولكل ما يهدد انسجام الإنسان مع نفسه والآخرين، بفعل سيادة الأنانية وحب الذات. لاحظنا أمرين: الأول يرتبط بالكاتبة، والثاني يرتبط بالمجموعة.
1_ فيما يخص الكاتبة، وبالنظر إلى سيرتها الأدبية، يتبين لنا انتقالها بين ضروب القول، وسفرها بين أجناسه، فبعد مجموعتها الشعرية: ريثما...، ها هي تصدر مجموعة قصصية، وفي الطريق صدور روايتها "موال أطلسي"، إن لم تكن قد صدرت. هذا الانتقال يكاد يشكل سمة الكتاب الجدد، ذكورا وإناثا، مما يستوجب الوقوف عنده دراسة وتحليلا ومساءلة، فالواضح أن القضية تكاد تصبح ظاهرة . ترى: ما الأسباب التي تقف وراء هذا الملمح، ودواعيه؟ وما هي نتائجه؟
صحيح، أننا لا نعدم شواهد لمثل هذا النزوع لدى الكتاب الكبار، والرواد بالأخص، من مثل: بنسالم حميش، ومحمد الأشعري، لكن بروزها كان قويا لدى فئة المبدعين الشباب، من أمثال: عبدالسميع بنصابر، وسميرة المنصوري، وعبدالله فراجي، والطاهر لكنيزي، وعبدالحميد شوقي، وكاتبتنا ، سعيدة عفيف.
واهتمام هذه الفئة بالقصة القصيرة يمكن رده إلى تصورها أنها تمرين سردي يمكن من التحكم في الكتابة بغاية الانتقال إلى الرواية، على اعتبار أنها الجنس الذي يحوز اهتمام القراء والنقاد على حد سواء، وقد أفردت لها جوائز عدة، حفزت الكثيرين على طرق بابها، والشروع في كتابتها.
2_ فيما يخص المجموعة:
نلاحظ احتفاء المجموعة بالنص الموازي، ونقصد به العتبات، ولا نقصد كل العتبات، بل نشير، فقط، إلى تلك التي تسبق كل نص على حدة، حتى صارت ملتصقة به، تشكل بابه الخاص، لا يمكن بلوغ النص إلا عبر المرور بها؛ فقد لاحظنا أن هذا النص الموازي يستغرق المجموعة بالكامل، يتصدرها، ويحف بنصوصها، ولعل الاستدعاء قد حكمته جملة شروط، إذ التوظيف ليس مجانيا، ولا يمكن أن يكون حلية.
ويؤكد الواقع الأدبي أن النص الموازي؛ أي العتبات، يلعب أدوارا عدة، منها، على سبيل التمثيل لا الحصر، الآتي:
*_ يكون من أجل تقوية أبعاد النص الفنية والجمالية.
*_ يكون من أجل المحاكاة الساخرة، حيث يصير المناص تحت عيني الكاتب الساخرة.
*_ يكون من أجل تقوية دلالة النص.
*_ يكون من أجل نقده أو نقضه.
*_ يكون من أجل السخرية من حامله، أو الذي يعتمد عليه في حياته.
والواضح من قراءتنا، أن المجموعة لم تهدف من وراء العتبات سوى تقوية الدلالة، وتدعيم الجانب الفني والجمالي، لكون تلك العتبات قواسم مشتركة بين المبدع والقارئ، فهذا الأخير، يستنشق حضورها، فهي جزء من بنيته المعرفية، وتشكل خلفيته، وزاده المعرفي.
وبناء عليه، يستوجب الأمر معرفة الأسماء التي تم استدعاء بعض من أقوالها، أو اقتطف جزء من كتاباتهم.
وهم على التوالي:
أحمد بوزفور.
نبيل محمود.
جاك دريدا.
باولو كويلو.
ابن عربي. مرتان.
المهدي نقوس، وهو الذي كتب مقدمة للمجموعة.
فرناندو بيسوا.
فرانز كافكا.
خورخي لويس بورخيس.
جلال الدين الرومي.
ويمكن تقسيمهم إلى مجموعتين: تراثية، ومعاصرة، والمعاصرة، تنقسم، هي الأخرى، إلى قسمين: عربية وغربية، والعربية تنقسم إلى مغربية وغير مغربية.
معظم تلك الأسماء قد طبقت شهرتها الآفاق، القديمة والمعاصرة، وبعض الأسماء الغربية عرفت بولعها بالتراث العربي، قراءة واستلهاما: بيسوا، وبورخيص، وكويلو.
أما بالنسبة للتراثية، فالغالب أنها من زمرة المتصوفين، ويمكن القول: إن استدعاءها كان لتقوية الجانب الروحي كما تسعى إليه نصوص المجموعة، لكون التصوف وقفة تأمل داخلية، تستبطن النفس، وتسعى إلى جعل الروح ترتقي في معارج السمو للتطهر من أدران المادة، وتتحرر من قيودها. وهو ما يتأكد لنا بقراءة سريعة لنص "مسخ" ص 37، حيث يحضر فعل التأمل، كرافد للنص، وعنصر فاعل فيه. هذا التأمل سيستدعي شخصيتين في واحدة، هما: عزازيل، وهيبا، هذا الشاعر الطيب الذي تتنازعه رغبتان متعارضتان، جعلتاه يتمزق بين أمور الدنيا والدين. بين إرضاء النزعات الإنسانية والإغراق والتوغل في الزهد عن كل ما هو دنيوي، تواقا إلى التحرر من صوت الجسد، طموحا إلى أن تتوثب روحه وتحلق بعيدا في سماوات الطمأنينة والمحبة الإلهية..ص 38.
ويبقى هذا الصراع بين الخير والشر محتدما بداخله إلى أن يجد نفسه فريسة النزعات المادية التي تنتصر على إرادته، وتلقي به في أسراب عذابات لا تنتهي..ص 39.
تذكر المرأة لهذا الصراع، يجعلها تستدعي شخصيتين أخريين تعبران عن ذاتها المعذبة، وهما: أر، ونو.
إن كل الشخصيات تظهر تناقضات الحياة، وتبرز حلم الإنسان وتوقه لمعرفة الحقيقة الغائبة عن واقعه، شأنه شأن أي إنسان متقد الفكر لا يهدأ، مشتعلة روحه للإشراق، غير أن هيبا وأمثاله جسد وروح لا يتجزآن، أما هذان، وتقصد الساردة بهما: أر ونو، فروح غائبة عن الجسد، وجسد غائب عن الروح.. وكلاهما في عذاب لا يدركانه، جراء النصف الآخر الممعن في الغياب.. ص 40.
إن الرسالة واضحة، وهي الاعتدال، من دون إسراف قد يفضي إلى طغيان أحدهما على الآخر. ومن هنا وجاهة استدعاء قولة لباولو التي تشكل عتبة هذا النص دون غيره: كم مرة رأيت الأفق دون الانتباه إلى جماله؟ كم مرة نظرت إلى السماء دون الانتباه إلى عمقها؟ كم مرة سمعت الأصوات من حولي دون أن أدرك أنها جزء من حياتي؟
والتقاطع بين النص وعتبته بين وواضح، فالتكامل ضرورة حياتية بين الداخل والخارج، بين الروح والجسد.
وإذا كان النص قد بدأ بفعل التأمل، فإنه قد انتهى به، والتأمل المقصود والمطلوب هو الذي يمكننا من الغوص في ذواتنا لنتمكن من الإنصات للغة الكون حتى ننجو من المسخ الذي يهدد حياتنا: لهذا ترينني أغوص في ذاتي لأنجو من كل هذا المسخ.. ص 40.!
وبناء عليه، يظهر لنا أن الاستدعاء كان من قبيل تعضيد دلالة النص وترسيخ معناه، وإغناء أبعاده، وتقوية جانبيه الفني والجمالي. فالنص الموازي لم يعد مستقلا عن النص، بل صار جزءا منه، وبذلك التحم ليكون مندغما معه في تركيبة واحدة ونسيج واحد، يغذي كل منهما الآخر، فقد صارت العتبات نصوصا محايثة للنص الأصلي تنمو وتعشب على تخومه وتحايث بناه الفنية والدلالية لتضيف له آفاق جمالية ودلالية جديدة وتشكل مفاتيحا هامة للمتلقي في فهم دلالة النص. فالإستهلال يصير معاصرا يعبر عن اللحظة الراهنة، والنص يصير تراثيا يحمل أبعادا إنسانية كما عتبته، على اعتبار أن تلك العتبات التراثية، ما تم قطفها من حديقتها القديمة وإنباتها في حديقة جديدة إلا لكونها قابلة للعيش وسط أي مناخ ثقافي، لن تشعر بالغربة سوى إذا اجتثت من جذورها، و تم غرسها قسرا في تربة غير تربتها الخصيب.
وارتباطا بالمسخ، واعتمادا على بعد العتبات، نستحضر نصا آخر حاور استهلاله، ممتصا بعده الدلالي، في حوار بناء ومثمر، ونقصد به نص "بحر الدماء" ص 77، هذا النص الذي اعتمد عتبة مهمة تحض على الخيال، وتحث عليه كي نتجاوز قبح العالم، وهي لصاحبها المبدع العالمي الكبير: خورخي لويس بورخيص، تقول: إننا بحاجة إلى الخيال كي نواجه تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء.
وكأن النص كان استجابة لهذا النداء، حيث احتفى بالخيال، ودفع به إلى تخوم الدهشة، معبرا عن الوحش الكبير الذي يتربص بحياتنا ويهددها، منتقدا نزوع الإنسان إلى سفك الدماء منذ القديم وحتى اللحظة الراهنة، وناشدا سيادة الجمال والحب كقيم إنسانية رفيعة قادرة على تشكيل درع واقية من تغول القبح المتمثل في القتل وسفك الدماء: تعا .. ولا تجي.. فأهدأ لما يغمرني كل هذا السحر الخالد، وسيل المحبة الحانية التي ليست كذبة في شيء. تعا .. ولا تجي .. تيرا رارا.. ص 82.
إن سيل الحب خير وأبقى من سيل الدم الذي تم رصده بغرائبية، حولته من شاذ إلى طبعي، تحول يدعو للتأمل، واخذ العبرة، فالمبالغة في الشيء تقود إلى تضخيمه حتى تتجلى ابعاد قبحه، ومن ثم يتمكن القارئ كما المبدع من نقده.
والملاحظ أن العتبات تسري في النصوص سريان الدم في الأوردة، تطعمها وتقوي مناعتها.
مع تجدر الإشارة إليه، أن تلك الاستهلالات كانت اختيارا واعيا من لدن المبدعة، تخيرتها من بين نصوص ومقتطفات أخر، لتأدية أغراض عديدة، منها الفنية والجمالية والدلالية، لدرجة أنها صارت جزءا من النص لا يمكن الفصل بينها وبينه، لقد شكلت نقطة تماس بين خارجه وداخله، ينبغي عبورها للوصول إلى النص المقصود لسبر أغواره، والقبض على دلالاته.
ثم إن تلك العتبات تتداخل فيما بينها، تقوي أبعاد المجموعة ككل، ونقصد بخاصة، سلامة الإنسان وسلامته الروحية والنفسية والجسدية. فإذا كانت كل عتبة لصيقة بنصها الذي يليها، فإنها، رغم ذلك، تلعب دورا ذا بال بالنسبة لبقية النصوص. نؤكد على أن عتبة خروخي لويس بورخيس الداعية إلى الخيال، لا تخص نص "بحر الدماء"، بل تستغرق كل النصوص، وهو ما نلاحظه ونلمسه ونحن نزاول نشاط القراءة في جميع قصص الإضمامة، فكلها اعتمدت جانب الخيال في بنائها، محققة جدلا بناء بينها وبين الواقع.

1_ في انتظار حب الرشاد، مجموعة قصصية، لسعيدة عفيف، مطبعة SAFI GRAPHE، الطبعة الأولى سنة 20
د. أمين عثمان: قراءة في عتبات النصّ من خلال مجموعة” مواويل عائد من ضفّة النّار” لـ: ميزوني بنّاني أنموذجا15.


سعيدة عفيف.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى