عندما عُيّنْتُ طبيباً مندوباً إلى السجن لثلاثة أشهر اعتبرْتُها نوعاً من العقوبة الوظيفيّة .. وطرقت باب السجن كارهاً وفُتح لي ودخلت من بابٍ إلى باب ومن دهليزٍ إلى سرداب ، وأقفلوا خلفي بالحديد ونفسي تغصّ كأنها تغوص من دركٍ إلى أعمق.
وصحيحٌ أنّ هنالك مكتباً لي يسمّونه مستوصفاً للسجن لكنّ نوافذه...
لفت أنظاري ذلك العنوان (في نقد الأنطولوجيا ).. وما رأيت ناقداً
وكأنّ الكلّ أجمعوا على الموافقة بصواب كلّ تغييرٍ حدث في ذلك الموقع .. ونجاعة كلّ تبديل ارتأته الإدارة .. فلم يبق علينا إلا التصفيق .. ولم أجد تصفيقاً ولا مدحاً .. كمن يومئ بالرأس لمحاضرٍ جامعيّ يعطي ويستزيد .. نعم نعم أحسنت أيها...
نعم ..كان يتقلّب في فراشه ولن يخلد إلى النوم بسهولة ..
يتوسّد مخدّته ذات اليمين وذات الشمال فيحتفر فيها أودية ونهوداً ،ويغمض جفنيه قسراً فلا يلتصقا ..ويشهر طرفه السفليّ من تحت اللحاف كرأس السلحفاة المتوجّسة فيلدغه البرد ليعود إلى إغماده في قوقعة طرية من الأغطية السميكة ..لا دفء في سريره يستدعي...
وكنّا نسرقُ الحبَّ سرقة ..
وكنتُ عندها كاللصّ الظريف يدخل إليها من النافذة التي تتركها مفتوحةً قصداً ..وكانت سيّدة الموقف لأنّها قادرةٌ على إنهاء الحبّ بمجرّد أن تومئ لي بأنّ زوجها سيأتي الآن .. وكنت أعرف بأنه لن يأتي ومع ذلك كنت أهرب وألوذ بالفرار .. راضياً بما سرقتُه من جعبتها !
كانت سعيدةً...
مرآتي هي مشكلتي... فيها أرى نفسي بدينة ... ثقيلة .. بصدري الكبير وخدودي المنفوخة .. أدورُ حول نفسي علّني أجدُ بقعة جميلة في جسدي قد تسيلُ لعابَ أحدٍ ما ... حتى لو فتحتُ أزرارَ قميصي .. حتى لو قصّرتُ ثيابي ... أبقى أنا كما أنا ... حتى لو غيّرتُ تسريحة شعري ودهنتُ أخاديدَ وجهي... أظلّ أنا...
وما كان أبي ملكاً ولا قائداً لجيشِ الفتحِ العظيم .. ولا رئيساً لحزبٍ قلب الموازين .. ولا كان عبقرياً من وادي عبقر
ولا كان غنياً ولا نبياً ولا .. ولا ..
لكنه كان أبي .. وكفى
كان عظيماً بالنسبة لي أكثر من كلّ ممّن سبق ذكرهم .. لأنه كان أبي .. أنا
وأنا الذي بكيت لفقده كما يبكي الحمل على جثمان...
قال لها :
-تعالي أقاسمْكِ الهموم .
فقالت:
-همومي عندما تخرج من قمقمها ..تكبُر ..وتصبح كالمارد وتستعصي على الحلّ...اتركها دفينة ..قلبي غدا بركةً راكدةَ المياه ترسّبت عوالقها إلى الأعماق ولو بدت صافية الوجه .
-يبدأ حلّ المشكلة عندما نحدّدها ..فنضع يدنا على الجرح ونوقف النزف ..وبعدها نستدعي...
ما عاد صدري يفرز حليباً يا بنيّ ولو حاولت استرضاعه بشفتيك .. ولو عضضت حلماته بأسنانك البالغة تبرز من تحت شاربيك
صار ثديي قربةً فارغة متدليّة ..معلّقة كجثّة المشنوق باردة خالية من الحرارة والروح
ثديي حُقٌّ وزقٌّ معتّق ولكنه فارغٌ من نبيذ ..وقد تزيل عن فوهته شبكة العنكبوت لتسبر غوره الضحل
ولو...
عندما اتصلت بي هاتفياً لتأخذ موعداً في العيادة ، كنت غير متأكد من صوتها الذي أسمعه ..هل هو صوت رجل مخنّث أم امرأة مسترجلة ؟ ..حنجرة مبهمة الجنس تتكلّم , لكنّها أقرب إلى حنجرة امرأة .
ومعروفٌ أنني سأزعجها وقد أخسرها كمريضة لو أخطأت وعاملتها كرجل..لا بل قد يثور الرجل –إن كانت رجلاً - لو أضفت...
وقال لي كبير القضاة :
- أوراقك هي جريمتك .. ولو تخفّيت بها في صفحاتٍ ومواقعَ إلكترونية .. فماذا تقول؟
ولم أنبس ببنت شفة ، بل كنت مطرقاً إلى الأرض في قفص الإتهام .. على مرأى من الحضور في المحكمة ، وكانوا ثلة من أدباء وحفنة من شعراء ونثرة من نقاد وكثرة من صحفيين ونُدَفاً من فضوليين .. وعلا...
لن أستطيع أن أفتح فمي .. سيخرسونني
سأتنفس فقط وبلا صوت .. وسأبلع وأزدرد وأجترّ وسأعلك بلا صوت!
سأهمس لنفسي فقط وبعض الهمس قد يكون قتّالاً .. فالهمس خطير وقد يكون كلاماً بذيئاً أو مخجلاً على الأقل وإلا لجهروا به .. والهمس يجعل الآذان منصتة والعيون ترقب الشفاه لتقرأها وآلات التسجيل تعمل...
ماريانا هو اسمها المكتوب في موقع التواصل الاجتماعي ، وكتبوا أنّها متابعةٌ لي .. وأبدَتْ إعجاباً بصورةٍ لي سابقٌ نشرُها.
وصرْتُ متابعاً لها على نفس الموقع ولكنّها لا تنشر صوراً
إيقونة فارغة تثير التساؤل وتبقي كلّ الاحتمالات مفتوحة .. قد تكون رجلاً متخفّياً بلبوس امرأة ليصطاد بالماء العكر .. وقد...