نصوص بقلم جورج سلوم

الصباح ما يزال بعيداً في هذا الشتاء القاسي ، أو هكذا يتمنّى الدكتور حيّان أن يكونْ.. يريده ليلاً طويلاً يظلّ فيه قابعاً في الفراش بعيداً عن الذلّ والانكسار الذي يلقاه في عمله كطبيب ويسخرمن نفسه – كلما تذكّر كلمات المرحومة أمّه – تعنُّ على باله وتجرحه عندما كانت تقول وتردّد: -أتمنّى لو تطول...
جاهزٌ بثيابه السوداء الرسميّة، وكلّ ما يكسوه مشتقٌّ من الأسود. بذلتُه مكويّة مراراً وتكراراً، واقفةٌ حدودُها كعرف الديك، وياقة قميصه مقسّاة بمنقوع النشاء، وربطة عنقه معقودة سلفاً يكفي أن يعلّقها بعنقه ويشدّها لتلتصق عقدتُها بثغرة نحره، وحذاؤه القديم ازداد وزنه من فرط طبقات الشمع اللمّاع، كلّها...
وعلى الوسادة نفسها التي كنت أتوسّدها كانت تغطّ في نومٍ عميق ، تأمّلْتُ وجهَها المكسوّ بعرق الدفء ، كملاكٍ مستحمّ بقطر الندى الصباحيّ ، تلتصق على جبينه خصيلات شعرها المتناثرة كالإكليل الفوضويّ ، وكأنّ تلك الخُصيلات ضرَباتٌ مُستعجَلة من ريشة فنّان غير مهتمّ لتصفيف شعرها بعد أن بذل كلّ الجهد في...
لا يذكران متى جرى ذلك الأمر لأوّل مرّة ، لكنّ البداية كانت قديمة قليلاً ، والأمر صار متّفقاً عليه بأنّ البداية جدّ قديمة ، وما من أحد يريد نبش التواريخ لتسجيل نقطة البدء ، لأنّ الأمرَ بات متكرّراً ومعتاداً ومقبولاً بل ومن المسلّمات ، وبحكم الأمر الواقع وقالت لزوجها هامسةً : -عسانا ننتقل من ها...
كان لدينا عنترة والزير وابن ذي يزن يرطّبون ليالينا في بلاط الحكواتي ، ويداعبون خيالنا المتجفّف ، وكانوا يُعيدون إلينا ماء الوجه ، إزاء القهر والقنوط والنكسات المتتالية والهزائم المنكرة ، فنقوّم شاربَنا المتدلّي ونرطّب نهايته بلعابنا ليشرئبّ كمنقار الباشق ، فنعود رجالاً على نسائنا فقط ، ونعِدُ...
وقال لمساعده الذي يشاركه العمل في ورشةٍ صغيرة لتصليح الهواتف الجوّالة : -وهل تمّ إصلاح الآيفون ؟ -إنه جاهز يا صديقي -ممتاز ، وأجرة التصليح تتماشى مع سعر الجهاز كما تعرف ، فلا تتساهل مع الرزق الحلال وقد جاءنا على قدميه يسعى ، خذ أجرةً مضاعفة وابتسم المساعد بخبث وكان يغوص في القطع الصغيرة...
وتعود بيَ الذاكرة الشمطاء إلى أوائل ثمانينيات القرن الماضي عندما كنت طالباً في كليّة الطب بدمشق ، ذاك هو الزمان ، أما المكان الذي قادتني الذاكرة إليه فهو ما يُسمّى بالمَشرَحة ، وهو القسم الذي تضطجع به الجثث الآيلة للتشريح التعليمي بأيدي طلاب كلية الطب . المكان على اتّساعه وإنارته الجيدة وتهويته...
وقال لي ذاك الطبيب : -لا بُدَّ للمرء في فترةٍ ما من سنيّ حياته أن يعاني من أعراض البواسير ، ولو بدرجة خفيفة منها ، فلا تبتئسي يا ( أختي ) ، وليست كلّها بحاجة للجراحة . قال ذلك ، وكانت عيني خجلةٌ من عينه ، إذ من الصعب عليك أن تكشف مقعدتك أمام يده الماسّة والجاسّة ، لا سيما عندما يدفع إصبعه...
أشعر بالوحدة مع أني لست وحيداً !!! هي جملةٌ كتَبَها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وذيّلها برقم هاتفه، وعنوان بريده الإلكتروني. ولم يستغرب قرّاؤه ومتابعوه ممّن يعرفونه تلك العبارة وفحواها، ونسجوا من كلماتها القليلة حكاية مُسهَبة بطريقة الخطف خلفاً، فهم يعرفون بأنه تقاعد حديثاً من وظيفته،...
أنتَ يا من وُلِدْتَ في الظلام ، في الخصى ، في كيس الصفن المتدلّي عنوةً كالمشنوق ، هناك حيث الأعضاء المخبّأة خلْقياً لتكون مخفيّة ومستورة وذليلة ومثيرة للاستحياء ، لأنها عوراتٌ مُخجِلة ، ويجب سترُها ، وحتى عند بني حيوان تكون مستترة ، ومحجوبة عند أولئك الذين لا يعقِلون . فكيف بنا عند الذين...
لا أظنّ أني أخطأت يومَها بانكشافي عليه، وما شعرْتُ حينَها برعدة الخجل، وإن كانت قرْصَةُ البرد هي التي جعلتني أنكمش على ذاتي. وها أنا الآن، وبكامل قوايَ العقلية، لا أرى بأني اقترفتُ ذنباً أو آتيتُ عيباً بعد مرور أشهر على تلك الحادثة، وما الذي يدعوني للخجل ؟ وقد تعرّيت أمامه كما تعرّى أمامي،...
يومها أقلعت السفينة لتمخر عباب البحر الذي كانوا يسمّونه بحر الظلمات، وكانت رحلتهم تطول لتستغرق أشهراً. وكانت سفينتهم الصغيرة بركابها القلائل مجتمعاً صغيراً فيه كبيرٌ للبحارة ، ولكنّ كِبره كان ناجماً عن كبر سنه وبالتالي خبرته ، ومن ثم يكون احترامه واجباً ولا غبار عليه. وعندما كبرت السفن وغصّت...
-كلّما فتحْتُ حواراً ، أجد بيني وبينكَ فجوةً لا يُمكن تجاوزها . قالت ذلك ببعض التنهّد والتأفف. وأجاب ساخراً : -أفّ ، لا يمكن تجاوزها !.. هل هي هوّة سحيقة لهذه الدرجة ؟ أطرقَتْ أرضاً ، وآثرَتْ ألا تتابع الشّرح بما يخصّ التناقض في المستوى الثقافي بينها وبينه كي لا تجرحه ، إذ طالما ارتضت به...
-تعال نتعالى عليهم أولئك المُتعالين الجُدد ، ولو كانت الرّيح تهبُّ الآن وفق ما تشتهي أشرعتهم . والنأي بالنفس ، والهجرة إلى عالم النسيان ، لن يجنّبانك نيران الاستئثار وغائلة الحيتان التي لا تشبع . -فعلاً ، لقد استقووا وتمادوا وتمدمدوا ، ولا أظن بأنّ مكاناً لي بينهم باقٍ ، فلنهاجر تاركين لهم...
صار من المألوف أن ترى الوجوه ذات السحنة الترابية أنّى نظرت ، كآبة مُسيطرة على الخلْق ، وكأنّ زمن السعادة قد ولّى ، والابتسامات الوقتية إنْ رأيتَها ، فتكون مُصطَنعة أو قسريّة يفرضها الموقف واللحظة وطبيعة العمل أو التّرحاب الزّائف . أما الحقيقة المُرّة ، فهي إحباطٌ قائمٌ ومقيم ومتجذّر ، وإحباطٌ...
أعلى