د. جورج سلوم - ما فوق السريريات

وتعود بيَ الذاكرة الشمطاء إلى أوائل ثمانينيات القرن الماضي عندما كنت طالباً في كليّة الطب بدمشق ، ذاك هو الزمان ، أما المكان الذي قادتني الذاكرة إليه فهو ما يُسمّى بالمَشرَحة ، وهو القسم الذي تضطجع به الجثث الآيلة للتشريح التعليمي بأيدي طلاب كلية الطب .

المكان على اتّساعه وإنارته الجيدة وتهويته المتجدّدة بالدارات الكهربائية يبقى رهيباً ، بأكثر من ثلاثين جثة مسجّاة على طاولات التشريح المصنوعة من المعدن غير القابل للصدأ ، كأسرّة مهيّأة للتقطيع والسّبْر والتشريح وعليها أجساد لن تنزف مهما نهشْتَ من أعضائها .

وكانوا يقسموننا إلى مجموعات صغيرة ، يتوازعوننا بحيث يكون لكلّ جثة نصيبُها من بضع طلاب مسلّحين بمباضعهم ، وأدواتهم الحادّة تشقّ الجثامين بطريقة مدروسة وصولاً إلى العضو المطلوب كشفه تشريحياً . وموضوع درْسنا يومَها كان القلب ، ذاك العضو الهاجع بين الضلوع كعضلة لحمية ساكنة مليئة بالعلقات والجلطات السوداء .

وبدأت المناشير اليدوية تفتك بالضلوع كمن يفتح قفصاً على سجين ولكنك تعرف مسبقاً بأنك ستجده ميتاً في محبسه . ولا أنكر أنني استسخفت يومها ذلك القلب النبيل عندما قبضتُ عليه بيدي ، وما هو إلا كتلةً من لحم تنتأ عنها الشرايين كجدائل مجنونة تفوح منها رائحة الفورمول المانع للتعفن والتفسّخ .

وبعد ساعتين ، وبانتهاء الدرس العمليّ كانت تلك الأجساد مفرّغة من قلوبها التي تحوّلت لقطع وشرائح مبعثرة ، وكأنك في دكان جزّارٍ مبتدئ يقطع الذبيحة بطريقة عشوائية . ويترك الطلاب عادةً بقاياهم وثمالاتهم الجيفية على الطاولة المعدنية جُنيب الجثة نفسها ، وينصرفون لغسيل أدواتهم الجراحية ، يتحدّثون ، ويتضاحكون ، لتخفيف هول مسرحهم ، ويحاولون مقارنة ما درسوه نظرياً بما شاهدوه عملياً .

وبعدها يأتي المستخدَم المسؤول عن تنظيف المكان ، رجلٌ خمسينيّ ملتحٍ يبدو ساخراً من كلّ شيء ، من الطلاب الذين يعتبرهم جهلة وفاشلين وسطحيين مثل أساتذتهم ، وساخراً من الأجساد البشرية التي تُعتَبر ـ برأيه ـ أقل قيمة من الذبائح الحيوانية ، كان يسعى بين الجثث ويجرّ كيساً بلاستيكياً سميكاً ويضع فيه بقايا الدرس التشريحي من لحمٍ وأنسجة وعظام بشرية .

كنتُ أراقب ذلك الكيس الذي يكتنز رويداً حتى صار جعبةً تحوي ثلاثين من القلوب ، يحشرها فوق بعضها ، وهو يدندن أغنية عاطفية ، ذكَّرَني ساعتَها بحفّار القبور الذي فقد احترام الأجساد الحية وسلّم مقاليدَه لسلطان الموت الذي لا مندوحة من الانصياع لجبروته .

وقلت لصديقي الطالب وكان من السودان الشقيق :

-وأين سيذهب بهذا الكيس المليء بالقلوب برأيك يا محمّد ؟

وقال الصديق بلا اكتراث :

-وحتى الكلاب لا تأكل هذه اللحوم المُشبَعة بالفورمول السام !

وقلت :

-إنها قمامة طبية ، ومن المؤكّد أنهم سيحرقونها ، أو يدفنونها في مقبرة خاصّة .

ولا أزال أذكر كيف تغيّرت سحنة صديقي السوداني لحظتَها ، واحمرار العيون له وقعُه المخيف على بشرته السمراء وبياض عيونه ، وكأنّ الدم صعد إلى رأسه فجأة واحتقن وجهه فأخذ لوناً خمرياً ، وزاد انفعاله وقال وقد علا صوته :

-قمّة الكفر أن يدفنوا قلب رجلٍ مع امرأة ، إنّ ربع أولئك الجثث من الإناث كما ترى .

وتابع قائلاً وقد ازدادت نبرة صوته ليسمعه المستخدم أيضاً :

-ليس هذا فحسب .. فنحن لا نعرف شيئاً عن أسمائهم ولا أديانهم أولئك المُشرَّحون .

قلت :

-ولا جنسياتهم ، ولعلمك فإنّ الجامعات والدول تتبادل الجثث التعليمية حتى لا يكون فيهم شخصاً معروفاً .

فأجاب :

-لا يجوز شرعاً هذا الدفن الهمجيّ ، في حفرة يحتفرونها للقلوب ، وغداً تتلوها حفرة للأكباد وقِسْ على ذلك . نحتٌ للأجساد وصولاً للهيكل العظمي الذي سيبيعون عظامه ، ألم تشترِ جمجمة من هذا المستخدم عديم الضمير ؟ أتذكر كيف كان يخيّرنا عندما قال أتريدون جمجمة امرأة أم رجل ؟ وقال إنه يعرف أعمارَهم عندما ماتوا ، وقال وكلّه سخرية ، عندي جمجمة لصبيّة مقتولة ، وعندي جمجمة لطفل ، وكل شيء بثمنه

أتذكر كيف كان يستخدم عظمة الفخذ كعصا يلوّح بها كمطرقة القاضي ؟

وقلت مخفّفاً غلواء انفعاله:

-إنها بالنهاية قضيّة تعليمية ، نتعلّم أولاً بالأموات ، وسنتعلّم لاحقاً بالأحياء في مشفى الجامعة ، نقطّعهم ونشرذمهم ، وهناك الأمر سيكون أشدّ وطأة فالروح موجودة والدم ينزف ، هه هه ، وإلا كيف سنغدو أطباء وجرّاحين ؟

سكت قليلاً ولم يجبني ، وكنا على وشك الخروج من باب المشرحة متنكّبين مريلتنا البيضاء ، لكنه أمسك بي وقال :

-تريّث ، دع زملاءنا يخرجون ، وابقَ معي قليلاً لأنني سألقّن هذا المستخدم والمسؤولين عنه في الجامعة درساً

-دعْكَ من هذا ، لننجح أولاً في مادة التشريح ، وبعدها عليكَ بهم بدءاً من أستاذ المادة وصولاً إلى المشرفين والعمّال ، وما هذا المستخدم إلا مجرّد عامل صغير ، ومن يرضى أن يمتهن مهنته ؟ ولولا أنه فقير لما ارتضى أن يصير زبّالاً في مشرحة !

لكنّ محمّداً لم يستمعْ لي ، وجذبَني وراءه حتى صار بمواجهة المُستخدَم الذي كان يربط كيسَه بحزامٍ خاص ولاصق ، ولاحظتُ عبارة مطبوعة على الكيس بالعربية والأجنبية ( نفايات طبية ).

محمد الذي يسكن معي في المدينة الجامعية كان ذا خلفية دينية ، وأعرف ذلك من الكتب التي تعجّ بها مكتبته ، ولم تكن لتفوته صلاة أو فرض دينيّ ، لكنه ما كان متعصّباً أو متزمّتاً ، ونلتقي معاً على محبّتنا للغة العربية والتاريخ العربي الذي كنا نجلّه .

أمسك بالعامل المستخدَم وقال :

-يجب عليك أن تجعل كل قلب في كيس صغير ، وتفتح لكل عضو حفرة كبيرة كقبر ، ثم تضيف الأعضاء المبتورة كل مرة إلى الحفرة الخاصة بكل جسد ، أي يجب تجميع الأعضاء لكل إنسان في حفرته ، وليس خلطها ، لأن هذه الأعضاء ستعود وتلتقي ببعضها يوم القيامة لتصير جسداً كاملاً تلقى باريها به ، فلم الاستهتار بيوم القيامة ؟

توقّف العامل عن أغنيته ، ونظر في عيني محمّد نظرة مستغبية ، ولم يقل شيئاً .

فعاد محمد لكلامه محذّراً :

-هؤلاء بني آدم أديانهم مختلفة ، ولا يجوز دفنهم هكذا جزافاً ، ولا يجوز دفن أعضاء امرأة مع رجل ، يجب أن تخاف الله أنت ومشغّليك !

لكن المستخدم تابع أغنيته بصوتٍ أعلى وأعطاها إيقاعاً راقصاً ، ثم أدار ظهره لنا وجرّ كيسه الثقيل نحو حاوية بلاستيكية ذات غطاء ، فطار صواب محمّد الذي لحق به وهو يصيح :

-هيه .. أنت يجب أن تستمع لي ، وإلا سأذهب لعميد الكليّة

عندها أجاب المستخدم وما زال ساخراً :

-اذهب للعميد وللعقيد ومن تراه مناسباً ، أتخاف أن تتزوّج الأعضاء في كيسي ؟ اصبر حتى الدرس السادس وبعدها سترى

وقلت للمستخدم :

-وما هو الدرس السادس ؟

أجاب وهو يضحك:

-ستملؤون كيسي بالأعضاء التناسلية للجثث ، وسنرى إن كانت ستتزاوج أم لا كما يتمنّى رفيقك !

قال ذلك ، وانصرف عنا إلى حاويته المغلقة ذات العجلات ، وقادها إلى المصعد ، ومنه سيتصرّف بها بلا شك .

عدنا إلى غرفتنا ، ليفتح زميلي كتبه ، ويشرح لي ترتيبات الآخرة ويستشهد بمراجعه ، وانتهى بنا الأمر بالاعتراف بالعجز والرضوخ لما هو قائم .

وعندما تقدّمت بنا السنون ، وأصبحنا طلاباً في المشفى الجامعي ، فقَدْنا ذلك التقديس للأعضاء البشرية عندما بدأنا نرمي المرارة المستأصلة والزائدة والغدة الدرقية والكتل السرطانية والطرف السفلي المبتور كنفايات طبية .

إنها أعضاء مريضة ويجب التخلّص منها للفوز بما تبقّى من الجسد النظيف ، كمن يخلع ضرساً منخوراً ، ونسينا أين يذهبون بها ، لكنّ بعض مرافقي المرضى كانوا يحرصون على أخذ قطع أجساد ذويهم لدفنها مهما صغرت ، مثل القطع الجلدية الناجمة عن الختان مثلاً .

وعندما سمح الطب بعد ذلك باستزراع الأعضاء من جسدٍ لآخر ، كالكلية مثلاً ، عاد المتفقّهون لطرح فكرة تشويه الخلائق البشرية وخلط أعضائها وجواز ذلك أم عدمه ، وإمكانية تحريم ازدراع أعضاء رجل في امرأة أو العكس أو نقلها من مسلمٍ لغير مسلم ، وإمكانية تغيير جنس المخلوق جراحياً وهورمونياً ، واعتبار ذلك اعتداءً على كمال صنيعة الخالق .

ولسنا هنا في مهْمَهِ الجدال هذا !

لأنّ موضوعَنا السابق ما يزال حتى الآن (سريرياً )، أي نتكلّم عن الحالات السريرية ، أي بما يجري على سرير المريض وما يتظاهر عليه من أعراض وأمراض .

أما عبارة (فوق سريرية) فهي جديدة وغير مستعمَلة طبياً ، مع العلم أن عبارة (تحت سريرية ) تدلّ على الأعراض التي تكون في الطور الكامن قبل تطوّرها وتظاهرها لتصبح سريرية .

من الجائز أن نستعمل وصف (فوق سريري ) لبعض الأعراض التي يتعذّر كشفها بالوسائل التشخيصية السريرية المعروفة ، أي أن الحالة عصيّة على الكشف بتلك الوسائل ، وهذا جائز كما قلنا .

لكن قصتنا فوق السريرية يعود طرحها من جديد بعد أن كثر الإزدراع والتجميل والترقيع والتغيير في خليقة الله الحية ، بما يجعل تلك الأجساد حاملة لأعضاء ليست لها ، ولا ينطبق الأمر على البدائل الصناعية كمفصل أو صمّام قلبي بلاستيكي .

بالنتيجة ، ستموت تلك الأجساد لاحقاً منقوصة عضواً أو زائدة بعضوٍ ليس لها ، وحسب نظرية زميلي محمد التي لا أزال أذكرها ، فإن تلك الأعضاء ستدبّ فيها الحياة ثانية وسيلتحق كل عضو بصاحبه ليكون كاملاً أمام محكمة الباري .

كان محمّد صديقي يتخيّل أن هناك مستشفىً تمّ إعدادُه في العالم الآخر ، ويعمل فيه لفيفٌ من الملائكة المختصّون (بالجراحة الروحيّة )، وتصل إليهم قوافل الموتى المنقوصين بفعل فعائل البشر . أي مقطوع الرأس ليعودوا ويخيطوه على رقبته ، ومبتور الطرف ليُعيدوا وصله كما كان ، ناهيك عن اللواتي استؤصلت أثداءهن في الدنيا ليتم إعادتها ، ومثقّبو الأجساد بالرصاص أو الشظايا ليتم رتقهم ، والمهشّمون بالانفجارات والمهروسون بالأنقاض والمحروقون بفنون النيران البشريّة ، إضافة لمن خضعوا لازدراع الأعضاء والذين سيتم إعادة كل عضو لصاحبه .

ونظريته تلك ، تقول بأنّ كل تلك الجرائم البشرية والخزعبلات الطبية سيتم إصلاحها في المشفى الملائكي في العالم الآخر ، وهو سيكون مشفىً تصحيحياً نهائياً لا أخطاء طبية فيه ، ولا آراء شخصية ولا اجتهادات لأطباء مشهورين غربيين كانوا أم شرقيين ، إنه المشفى الإصلاحي الأخير الذي لا إصلاح بعده ولا دواء .

وقد سمّاه يومها (المشفى فوق السريري ) معتبراً مشافينا الحالية مجرّد مشافٍ سريرية فقط !

في ذلك المشفى تتم العمليات الناجحة قطعاً بقدرة الخالق ، ففي غرفة عملياته المقدّسة يضعون الرأس المبتور دنيوياً بالمقصلة أو بالسيف بجانب رقبة المجنيّ عليه ، وبالصلاة تدب الروح في الخلايا المتباعدة فتتلاحم وتلتصق ، على طريقة (كن فيكون ) ، ولله في خلقه شؤون !

************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى