د. جورج سلوم - رأب الفجوة

-كلّما فتحْتُ حواراً ، أجد بيني وبينكَ فجوةً لا يُمكن تجاوزها .

قالت ذلك ببعض التنهّد والتأفف.

وأجاب ساخراً :

-أفّ ، لا يمكن تجاوزها !.. هل هي هوّة سحيقة لهذه الدرجة ؟



أطرقَتْ أرضاً ، وآثرَتْ ألا تتابع الشّرح بما يخصّ التناقض في المستوى الثقافي بينها وبينه كي لا تجرحه ، إذ طالما ارتضت به زوجاً فهذا يعني قبولَها به على علّاته ، ولن يتسنّى لها فيما تبقّى لها من عمر أن تحاول رأب تلك الفجوة .

لن ترتقي بمستوى تفكيره ليساويها ، ولا بمفردات حواره ليضاهيها ، وشهاداتها الجامعية المعلّقة على جدرانه ليست إلا لوحاتٍ للزينة ، كآياتٍ قرآنية مصلوبة على حيطان كافرٍ أو ملحد ، مهما حاولَتْ ، أصبحَتْ ترى مقاربتها له كنوعٍ من الانحدار !

وكلُّ ردود أفعاله تسفيهٌ وتسخيفٌ وتسفيف وتسطيحٌ لما تقول ، ممّا يزيد في عمق الفجوة واتّساعها بينهما

-الفجوة موجودة ولا شك بين كل زوجين جديدين ، ورأب الفجوة يعني محاولة ترميمها وتقريب حوافها ، ولو بتضييقها مثلاً ، وليس القفز فوقها .

ضحك حتى كاد يقلب على قفاه ، وقال :

-تضييقها ؟ ..ذلك عادةً يتمّ بعد سنين من الزواج بسبب عديد الولادات .



لم ترَ سبباً لقهقهته الساخرة ، لكنها شاركَتْه ضحكاته بابتسامة مُصطَنعة ، وقالت :

-إنهما رجل وامرأة ، مختلفان شكلاً ومضموناً ، عمراً وجنساً وتربية وبيئة وثقافة ، وتلك فجوات عديدة ، ولابدّ من تذليلها بالتفاهم والتأقلم والتنازلات المشتركة لصالح هدفهما المشترك .



وضع يده على يدها ، وجذبها إليه وقال:

-نعم ، فجواتٌ عديدة ، ولابدّ من رأبها



وتملّصت منه كمن يحاول الفكاك من قيدٍ يكبّلها ، وانسحبت إلى مطبخها حيث تجد هناك في موقدها وقهوتها وفناجينها سبباً لتغيير دفّة الحديث كلّما حوصرت .

تركَتْ عندَه إحدى أذنيها تستمع لدندناته ، يسلّي نفسه بها أثناء غيابها عنه ، ورأت بعينها التي تركَتْها عندَه أيضاً كيف أشعل لفافته بلا مبالاة ينفثها ، وبقي معها عقلها الباطن الذي لم يستطع النفاذ إليه ، وبدأت تحاور نفسها كمن أصيب بالفصام الروحيّ ، وها هي الآن تعلن لنفسها بأنّ حواراتها معه عقيمة ولا طائل منها ، فلتترك الأمر للزمن يرأب فجواته .

وأضافت السكر والبن للماء الذي بدأ بالغليان ، ثم مزيداً من السكر لتحضير القهوة كما يحبّ (هو) وليس كما تحب (هي) ، فالزواج يفرض عليها التنازل حتى عن مذاق قهوتها التي اعتادت عليها بلا سكر ، لتتبنّى سياسة قهوته المفعمة بالسكر ، بغية الانصهار في بوتقته ورأب الفجوة بينهما .

وضعت على منضدة صغيرة قهوتهما المشتركة وصحناً صغيراً من الفطائر المحلاة التي لم تحبّها يوماً ، ولن تحبّها ، ومع ذلك تشتريها لبيتهما المشترك .

جذبَها إليه بقوّة ليجلسها بحضنه ، لن تستطيع الفكاك هذه المرّة ، والجسدان صارا ككتلةٍ واحدة ، التحما وتلاصقا ولم يترك بينهما فراغاً ، فأين الفجوات التي كانت تتحدّث عنها ؟

التقط واحدةً من الفطائر الصغيرة ، وناولَها ، رغم أنه يعرف بأنها لا تحبّها ، فتمنّعت ، لكنّه دفعها في فمها بعنادٍ حتى ثبّتتها بين أسنانها ، فلا شهية لها لابتلاعها ولا قدرة لها على رفضها ، ثم أطبق شفتيه على فمها ليغلقه ، وأحسّت بلسانه يدفع تلك الفطيرة إلى شدقها ، ولم يبق لها إلا أن تقرضها بأسنانها ، وتسحب أنفاساً من أنفها ، وتحاول البلع كي لا تختنق .

تراجع عنها ليترعها برشفة من قهوتهما الساخنة ، وتركها تمضغ بصمت المستكين الخاضع حتى لسيطرة الطعام المشترك .

لم تشأ أن تنظر في وجهه بل تركت عيونَها مُغمَضة ، كستارةٍ مُسدَلة على مسرحية قد تبدأ بأية لحظة .

عندما فتحت عيونها وقد انتهت من ابتلاع فطيرتها على مضض ، رأت أنها ابتلعت أيضاً مع فطيرته بعضاً من لعابه وكثيراً من أنفاسه ، ورأت وجهَه مخيّماً على وجهها ولا وجه سواه ، إنه (هو ) سماؤها وضبابها وغيومها وبرقها ورعدها ، ومطرها الذي انهمرَ رذاذاً يروي تربتها ، ولا مطر من غيره .

وكانت دقائق ثقيلة يتمّ فيها رأب الفجوة كما يفهمها (هو ) ، وتتسع فيها تلك الفجوة كما تفهمها (هي ) .



وقال عندما كان يشعل سيجارة أخرى ليحرقها :

-وهكذا انتهينا من رأب الفجوة .

***********************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى