د. جورج سلوم - صراع في الحلَبة الفارغة


-تعال نتعالى عليهم أولئك المُتعالين الجُدد ، ولو كانت الرّيح تهبُّ الآن وفق ما تشتهي أشرعتهم . والنأي بالنفس ، والهجرة إلى عالم النسيان ، لن يجنّبانك نيران الاستئثار وغائلة الحيتان التي لا تشبع .

-فعلاً ، لقد استقووا وتمادوا وتمدمدوا ، ولا أظن بأنّ مكاناً لي بينهم باقٍ ، فلنهاجر تاركين لهم الجمل بما حمل

-لا ، أيها المتقاعس ، لقد ربحوا جولتهم لأنك أنت انسحبت من الحلبة ، ابقَ معهم ، فحلبة الصراع تتسع للكثير

-حسناً ، لنَسِرْ معهم بالمعيّة ، ما رأيك ؟ كواحدٍ من المجدّفين في زوارقهم ، على الأقل أكون خلف ظهورهم كجنديٍّ مجهول ؟

-لا ، لا صديقي ، إنهم مجرّد صعاليك متكبّرة ، لذا

استكبِرْ فوقهم أولئك المستكبرين ، والله أكبر

دَعْكَ من الاستضعاف ، والاستلطاف والاستظراف أمامهم فلن تجنيَ منهم إلا الاستخفاف بك ، ومزاحمتك ، بل وتجاوزك أيضاً ، ومن ثم شطبك وإلغاءك . كسيّارة متفوّقة أبطأَتْ مسيرَتَها ، وجانَبَت الرّصيف لتطمئنّ على الركب المتأخّر عنها أملاً في السير برتلٍ جماعيّ متفاعل بروح المحبّة والمنافسة الشريفة .

وماذا ستظنّهم بها فاعلين أيها الأرنب الوثّاب ؟

ستتجاوزك السلاحف القميئة البطيئة ، بصمتِها الرهيب ، وجلَدِها وصبرها ، وإصرارها ، غير معتمدة على قوّتها ، بل على جهلك واستمرار جهلك!

وستطفو على أمواجك الراكدة بعد أن استبدلْتَ هديرَها بسكون خنوعك ، وزبَدها الثائر بصفاء صفحة مياهك . انتبه ، فقد بان قعرك ، وسبروا قاعك ، واكتشفوا مواطن أصدافك ولآلئك وكنوزك الدفينة ، لا بل عرفوا أن لا حيتان قد تفاجئهم ولا حتى زعنفة قرش مُقلقة ، لا بل بانت لهم حدود شطآنك البعيدة ، فتحوّلْتَ بنظرهم من بحرٍ لا متناه إلى بحيرة محدودة !

لا بل قد يعتبرونك مستنقعاً ضحلاً ، فيردمونك ، أو يجفّفونك ، كأرضٍ تدوسها أقدام العابرين !

-فماذا أفعل أيها العقل المغامر الذي يأبى الضيم؟

-تعال ـ أولاً ـ نُظهِرْ لهم ابتسامة الظفر ولو كنا خاسرين ، صدّقني سيصدّقون أنك ربِحْتَ جولتك عليهم ، صدّقني سيجدون أنّ انتصارَهم المؤقّت فارغٌ وتافه ، وسيليه سقوطُهم المُريع عن طريق تسليم راية انتصارهم لك طواعية.

أولئك الذين رضعوا الهزيمة مع لبن أمهاتهم ، قد تلقّنوا أيضاً منهنّ تاريخاً عنوانه الذلّ الموروث .

اجعل صدرَك شامخاً ولو عصَفَت الريح بأضلاعك ، ورأسك مرفوعاً ولو أثقلته الكروب ، لأنّ إشعار الآخرين بأنك منتصرٌ أبداً هو النصر بحدّ ذاته ، هو النصر على الخوف من الفشل ، والثقة بأنّ الكبوات ستليها حتماً ، الصحوات .

هيا يها الأرنب الوثّاب ، فلم تنتصرْ السلحفاة عليه إلا بالقصص الخرافية ، التي يعِدون فيها السلحفاة الخجولة بالنصر ، ليجعلونها ترضى بالتسابق مع الأقوياء ، فالقوي بحاجة للضعيف الجبان ، فقط لينتصر عليه انتصاره الساحق المُبين.

هيا فلننهض من سقوطنا أيها المتعثّر بأوحالك ، ولتسرج حصانك أيها الفارس ، ولتشعره بأنك ما زلتَ تمتطيه بكامل ثقلك ، وسترى كيف سيخترق بك الصفوف اللاطئة المنكسرة سلَفاً قبل أن تنكسر ، وستخترَقَها غير هيّاب ، لأنها تخشى ابتسامة الظفر التي تنشرها من حولك .

لا تستسلم لليأس يخلخل بنيانك ، ولا لنظرات الشفقة يغدقونها عليك فتؤكّد انهزامك.

-ويلي ، وقد أخسر مجدّداً فوق خساراتي ، وما عاد بي من حيلٍ لأقوم مستجمِعاً قواي إن سقطْتُ هذه المرّة ، عندها سأكون انتهيت لا محالة !

-اعتبرْها مقامرة من يضع ورقته الأخيرة على الطاولة ، وشرف الوثبة أن ترضي العلا ، غلب الواثب أم لم يغلب.



وأغلق جمجمته على عقله المتحفّز ، وأحكَمَ من عظيماتها الدروز ، وطلب من روحه أن ترافقه إلى ميدان الشرف حيث حلبة الصراع ، وكانت روحه تجرّ من خلفه أذيال الخيبة .

ورثا البعض من المقاتلين للعائد الذي قرّر الانتحار ، مشفقين ألا تكون نهايته بأيديهم .

وأعرضَ البعض الآخر ، عن الاشتراك في الجولة الأخيرة ، جولة المذبحة ، فمالوا لإغماد سيوفهم ممسكين بمقابضها ، إلا إذا قاربَتْهم أسنّة الإزعاج ، عندها سيدافعون ، ويدفعون عنهم طيش المقاتل الجريح المتخبّط ، ليموت بغير سيوفهم .

وغضّ البصر من اعتبر نفسه جمهوراً ، عن معركة غير متكافئة ، وكم تمنّوا في قرارة أنفسهم أن يتدخّل أحد الحكّام لإنهاء تلك المهزلة ، مهزلة الإجهاز على المُثخَن بالجراح .

وقالت الروح الهيّابة :

-لا أيها الثور المُستنزَف ، اخرج من الحلبة ، فماذا ستفعل قرونك المعوجّة أمام نصل السيف بيد الفارس ذي الحصان الطيّار ، وطعنة إثر طعنة ، ودفقة دم إثر دفقة ، ثم ستأتيك طعنة الرحمة أمام عينيك تغوص بعنقك المرتعد إلى الأعماق ، فتخور قواك ، وتظلم الدنيا في عينيك ، وتشعر بهم يجرّونك إلى آلة التقطيع ، قِطعاً ، يشربون عليها نخب نهايتك .



لكنّه هو ، وعقله المتحفّز ، ونفسُه الهيّابة ، كانوا ثلاثة أقانيم لجسدٍ واحد وقد توسّط الحلبة الفارغة ، وسُلّطت عليه الأضواء ، ولم يبقَ إلا قرع الجرس لبدء القِراع .

واستلّ نفسَه من قلبه ليُصبحَ بلا روح ، ونشَرَها على منكبيه كجذمور أجنحةٍ قد تطير عنه إذا ما أُعْمِلَتْ فيه الطعنات ، وكم وجد جسده حرّاً بدونها ، إنها نفسُه إذن ، تلك التي كانت تكبّل قلبَه وجنانه ، دعْها إذن على كتفيك ولو أثقلَتْ كاهلك !

واستدار على الوجوه الناظرة يطلب مناجِزاً أومبارزاً ، وهزّ سيفه بيده ، وكم وجده خفيفاً !

وابتسم من نفسه إذ رأى عينَه تهزأ بالناظرين المشفِقين .

وكاد لسانه أن يطلب واحداً منهم بالإسم ، وتردّد

وقال عقله :

-فلماذا تتردّد وأنت تعرف أنه الخصم الأشدّ وطأة ؟ والمزاحم الذي نما كطفيّليّ على أعتابك ؟ الذي كان ينحني ليربط سيور حذائك ، واكتشفت لاحقاً أنه كان ينوي أن يقلبك عن مهرك ؟

ومتى اكتشفتَ ذلك ؟

يا من كنت متربّعاً على عرش التراخي والتغاضي عن القوارض التي تقرض أثاثاتك ودعائمك حتى هويت من عليائك إلى هاويتك.

اطلبْه بالإسم الآن ، قاتلاً له أو مقتولاً

وقالت نفسُه ، وقد استعدّت أجنحتها للرفرفة والرحيل عن جسدها :

-دعك منه ، فلست أهلاً له في جبروته

-فليكن أيتها النفس ، دعيه يختارني هو ، ها أنا في قلب ساحة الوغى ، وإن انتصرْت فويلكِ أنتِ أولاً يا نفسي المطأطئة ، سأتحرّر من قيدكِ أولاً ، وها ذراعي الممسكة بالسيف تعود لفنون عزفها بين النحور والصدور ، انظري !

-كفاكَ رقصاً على مسرح مقتلك ، وانسحب ، وقل لهم إنها مجرّد رقصة وداع لأعدائك ، الأصدقاء الجدد ، فإن انسحبْت الآن ستكون بلا أعداء ، صديقاً للكل ، كجوادٍ هزيلٍ هرم ، خرج من مضمار السباق ، ووقف على الهامش متّقياً غبار سنابك الخيل ، لكنه يكون قد نجا بجلده .

-نعم ، نعم ، صدقتِ يا نفسي ، سأنسحب ، فلستُ ندّاً لهم على ما يبدو ، قد يكون زماني الماضي غير زمانهم ، قد تكون فنون القتال تغيّرت ، وسيفي الذي أراه خفيفاً بيدي الآن قد يكون خفّ لتآكل معدنه الصدئ .

-نعم ، هيا أسرع ، قبل أن يجبرك أحدهم على نزالك الأخير الذي ستلقى فيه حتفك ، ألا إني قد أنذرت ، وأجنحتي آيلة للطيران عنك ، قبل أن تلوّث أرياشي بوحل سقوطك ، وتدمّيها بفوران نجيعك ، هيا ، تراجع ، فإني أرى بعضهم يهمّ بالإجهاز عليك ، هيّا أيها الخاسر جولته والرابح بما بقي من شتات عمره ، هيا ...



وجاءه الصوت الذي كان يخشى سماعه ، ومن أين ؟ من خلفه المكشوف ! وصفّقت نفسه بجناحيها وانفصلت جزِعة عن عاتقه ، وحلّقت ، لكنها بقيت تحوم فوق حلبة الصراع من عل ، تريد أن ترى مقتل صاحبها ولا تراه ، تنفصل عنه نهائياً ، أو تشهد انسحابه ، أو تشهد إشفاق الخصم عليه فيبعده عن الساحة كعاجز يضربونه ببطن السيف لا بحدّه ، أو كضيف سيتمّ تكريمه بوسام العزل النهائي من المعركة ، فيصبح إيقونةً لمحارب قديم ما عاد من هذا الزمان ، عسى ولعلّ !

وعاد الصوت الذي يخشى سماعه ، قوياً إذ صار قريباً منه ، ساخراً يفتّ من عضد ما بقي فيه من رجولة :

-إلى أين ؟ ابقَ هنا ، وأنا سأريحك نهائياً من عذاب تردّدك ، وأقطع شأفة حنينك لمُعاركتنا ، وأكرّس قناعتك بأنك لست من هذا الزمان ، إنه زماننا نحن ، يا من كنت تسمّينا أولاد الجارية ، سأجعل أمَّك الحرّة تنوح عليك إن كانت ما تزال على قيد الحياة .

نعم ، وأصبح ابن الحرّة شتيمةً في زمانهم ، زمن العُهر !

نعم ، إنه هو ، ابن الجارية ، التي التجأَتْ لمضاربنا وأجرْناها ، وأنجبَت في حياضنا وليداً مجهول النسب ، ونسبناه وتبنّيناه ، ها هو من حبا على مفارشنا وتدرّب بسيوفنا وترعرع على صحوننا وارتدى حللاً من فضلاتنا . ها هو من قلب موائدنا ونكّس راياتنا وتنكّر لتاريخنا ، لم يبق إلا أن يفتتح منازلته لنا بشعرٍ من أشعارنا ينسبه لنفسه .

وقالت نفسه :

-إلا الكبرياء الفارغ يا ذو النسب ، ولا تنسَ قصة عنترة وكيف تنمّر العبد ابن زبيبة على أسياده ، وقهرهم .

-إليكِ عني يا نفس ، ودعي تلك الملاحم الخرافية للشعوب يدغدغون بها وجدانهم في ليالي الحكواتي ، إني ما أزال أراه قميئاً ولو كان قاتلي بهذه الحلبة !

والتفت إليه ، والتقت عيونهما ، وصالا وجالا ، وتقارعا حتى كلّت منهما الأذرع ، وتثلمت منهما النصال

وانجذب الجمهور للمعركة التي بدت متكافئة ، وتماسكا بالأيدي وتصارعا ، وسقط ، وكان سقوطه مريعاً ، وركب الخصم على كتفيه ، وجعل رأسه بين فخذيه ، وحاول خنقه ، ولكنه كان عاجزاً عن النظر في عينيه .

وظلت المعركة طويلاً

وظلت النفس تحوم بجناحيها

والعقل يذكي العزيمة

واليد التي تقاتل ، وتقاتل ، لم تقتل أحداً

لأنّ الحلبة كانت فارغة ، إلا منه ، لوحده ، بلا مقاتلين وبلا جمهور.

********************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى